تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
صرخة في صخب صامت
 ها قد استؤنفت المشاورات همسا بين الأهالي، لأنّه عادة ما تسوّى هذه المسائل بالسّتر والكتمان محافظة على شرف الأسرة من الأقاويل، ومن اتساع رقعة انتشار خبر تصدع العلاقة بين المتصاهرين. من العبث أن ندّعي أنّ سكان العمارة الواحدة لا يعرفون بعضهم البعض، ولا يسلّم أحدهم على الآخر، وكلّ في شغل عمّن سواه، والحال أنّ الكلّ يقرأ كتاب الآخر إن بقي لهم كتاب يُقرأُ. بل أصبح الجميع مفضوحين لدى الجميع. لماذا يُطرق باب نُشِر كلّ ما خلفه أمامه؟ ها قد فاح طبيخ هؤلاء وراء بابهم الموصد بكلّ المراتيج، وانتشرت رائحته في كلّ الأرجاء على الفيسبوك والواتساب، والكلّ يرشّ ملحه بالكلمة والصّورة، حتّى أصبح الطّعام أجاجا.
اليوم والبارحة وكلّ الأيام، وكلّ الأسابيع، أراها في زحمة القطار الذي ينقلنا إلى مقار أعمالنا. أصبحنا عائلة تجتمع أفرادها بالغدوّ والرّواح، صباحا، مساء، عدا أيّام الأحد. عائلة تبدو صغيرة باعتبار عدد أفرادها، ولكن لكلّ منهم نافذة تفتح على عالم شاسع ينشر غسيل هذا وطبيخ تلك. فتتزامن خطابات التّهنئة بأعياد الميلاد والتّعزية على فراق الأحباب وتنهال في نفس الوقت رسائل ودّ عبر قلوب ورديّة ونمنمات أصبحت مفاتيح لغة جديدة لا يفقهها إلاّ متمرّس مثله، هذا الذي لم يتخلّ عن جهازه لحظة منذ أن استقرّ واقفا بين النّيام.
«أمل» إحدى أفراد العائلة المصغّرة، عائلة قطار السّادسة صباحا، في اتجاه تونس العاصمة، انطلاقا من مدينة سوسة، مسافة مائة وأربعين كيلومترا يقطعها القطار في مدّة لا تقلّ عن السّاعتين والنّصف. مدّة كم يتمنّى المسافر اليومي في قرار نفسه أن تطول لمواصلة نوم يقطعه كلّ يوم باكرا قبل أذان الفجر، ولكن كم يتمنّى أيضا أن يسرع القطار ولا يتعطّل حتّى لا يفوته موعده اليومي، ولا يسبقه رئيسه، فيعاتبه مرّة أخرى عن تأخّره المعتاد. (أيها العارفون في الرّياضيّات لا تستغربوا قد يستقيم -على غير ما تعلّمتم - تكثّف السّرعة بتمطيط الزّمن!). 
أقبلت اليوم المسافرة الوفيّة، مبتهجة تلقي التّحيّة الصّباحيّة على كلّ من تعوّدت ملاقاته في نفس السّاعة، على رصيف المحطّة، أين اجتمع المسافرون في حلقات صغيرة يتبادلون حديثا مقتضبا ما يكفي ليبعد عنهم ثقل الوسن المطرود. وآخرون أنهكهم التّعب، لا يقوون على الوقوف، سبقوا غيرهم للجلوس بقاعة الانتظار. 
لم تأت «أمل» اليوم على عادتها منهكة شاحبة مثل كلّ أوفياء السّفرة المبكّرة. أقبلت هذه المرّة علينا تعلو محياها بهجة صارخة، غيّرت من ملامحها، حتّى بانت أصغر سنّا ممّا كان يظنّ كلّ من يلقاها. فبدت شابّة على العتبات الأولى من عقدها الرّابع، غضة، ممتلئة نشاطا وحيويّة. من مِن الحاضرين يجرؤ على سؤالها عن سبب غبطتها هذه، والانشراح الذي يملؤها حتّى الفيضان؟ لا شكّ أنّ السّؤال راودهنّ خاصّة وأجّلن كلّهن الجواب إلى الحصول عليه خفية في حلقات القيل والقال، والغمز واللمز، وبالصّورة إن لزم الأمر التي اصبحت تقتحم حميميّة الفرد في غفلة منه.
ها قد أقبل القطار المتوقّع أخيرا إلى محطّة «القلعة الكبرى»، وإن لم يره أحد بعد. جميع المتعوّدين دأبوا على تزامن قدوم القطار بوصول الوفد الأخير من المسافرين اليوميين الذين تعوّدوا احتساء قهوة الصّباح بمقهى قريب من المحطّة،  في انتظار حلول القطار الذي يتابعون مساره عن بعد بالتّواصل مع أفراد العائلة المنطلقين من مدينة سوسة، تعهّدوا إعلان وصولهم إلى محطّة «القلعة الصّغرى» الوسيطة، التي لا تبعد عن محطّتنا إلاّ خمس دقائق، تكفي هؤلاء لمغادرة المقهى والالتحاق بالقطار الذي يدخل الآن المحطّة مع رنين جرس إنذار متذبذب، كأنّه انزعج وارتبك من صفّارة تصدح من بعيد منذرة مستعملي الطّريق عند تقاطع السّكة.
وما أن توقّف القطار، حتّى سارع الجميع لبلوغ أبواب العربات، متسلّقين عتباته العالية، ثم محتلّين الأماكن الشّاغرة التي لا تكفي للجميع، فمن «حجْ حجْ ومن عوّق عوّق» على لسان الموروث الشّعبي. وقبل أن يصعد الجميع يبدأ القطار بالتّقدّم بحذر، مطلقا صفارة متقطّعة، وكأنّه يشفق على راحة النّائمين بالجوار، ثمّ يواصل سيره بتؤدة حتّى تغلق الأبواب، ويبدأ من حينها في التّسارع شيئا فشيئا تاركا وراءه سكينة المحطة، وبرودة حديد السّكة المنهكة من وطأة هذه القطارات، وما يصيبها من توتّر من شدّة احتكاكها بفولاذ العجلات المفرملة، فتحفر تجاعيد الشّيخوخة على صفحتها على مسافة مئات الأمتار، قبل وبعد البناية القديمة، تستعجل الاستغناء عنها لزوال المنفعة منها.
استقرّ الجميع داخل العربة، كلّ في المقعد الذي توفّر له قبل غيره، لأنّ الحجز في الدّرجة الأولى، إن كان يضمن المقعد للمسافر لا يحدده، ورغم ذلك يبقى بعض المسافرين حاجزي هذه الدّرجة واقفين لعدم توفّر مقعد شاغر. أمّا الحجز في الدّرجة الثّانية، فهو لا يضمن الجلوس، ممّا يترك عددا كبيرا من المسافرين، رجالا ونساء، يقضون كامل السّفرة وقوفا، ومنهم من يلتجئ إلى الاتكاء كيفما أمْكَن على جانب أحد المقاعد أو الجلوس. 
السّفرة في كلّ حالاتها شاقّة. فلا بدّ أن ينشغل فيها هؤلاء بما يخفّف عنهم عناءها اليومي على طول الأسبوع، بالإبحار في مواقع الواب، وبالاستماع إلى ما تيسّر من القرآن الكريم حينا والأخبار حينا آخر. أمّا مساء، فقد لا تتبدّل الأساليب ولكن تؤثّر حينها المناقشات والحوارات الافتراضيّة، أو مشاهدة ما توفّر من مسلسلات وأفلام كلّها عبر الواب. و«أمل» التي تعوّدت ركوب القطار، وتعلم جيّدا أنّها إذا ما لم تسرع ستقضي السّفرة واقفة ويضيع عنها التّمتّع بغفوة كم هي في حاجة إليها، رغم إسراعها لم تلحق إلاّ على المقعد الشّاغر الأخير، ولم يكن أحسن المقاعد بل الأكثر نفورا، ذلك أحد المقاعد الوسطى المتقابلة الذي لا يرتاده إلاّ مضطرّ. مقاعد قاعة الجلوس هذه متقاربة ممّا يجعل الجالسيْن قبالة بعضهما يتلامسان الرّكب وأحيانا عند النّعاس تتراكل الأرجل وأحيانا تستسلم وتتعانق. 
بهذا المقعد الذي يتحاشاه الجميع، لما يسبّبه من ضجر، والذي يفرض هدوء شاغله وحرصه على عدم مضايقة من يواجهه، جلست متردّدة ووجدت نفسها وجها لوجه مع شاب وسيم لاحظ حرج المرأة منذ كانت واقفة إلى جانب المقعد الشّاغر تبحث بعينيها من بعيد عن شيء لم يدركه. وما أن رجعت بنظرها إليه رغبة في الجلوس والتقت الأعين، جمع رجليه وثناهما إلى خلف، ليفسح لها المجال وأخفى ما فضح حياءه خلف شاشة حاسوبه الشّخصي، ليتابع مشاهدة الحلقة 73 للسّلسلة الأمريكية «صراع العروش» في موسمها الثّامن.