في العمق

بقلم
نجم الدّين غربال
نموذج للواقع البشري من خلال تدبّر القرآن
 يُواصل الإنسان كدحه، باستمرار نحو اكتساب المعرفة بحثا عن حقيقة ذاته وحقيقة الوجود الحاضن له، ببُعديه الطّبيعي الفيزيائي والاجتماعي الإنساني. وتعميقا لمعرفة ذاته وَإدراكا لجوهر وُجوده، سلك الإنسان مسالك عديدة تراوحت بين الدّين والفلسفة والعلم.
فإن كانت الفلسفة تبحث عن حقيقة الوجود والمعرفة والقيم وعن ماهية الإنسان كفرد (من أنا؟) وكاجتماع بشري (من نحن؟)، فإن الدّين(1) ينطلق من تصوّر للوجود الطبيعي الفيزيائي وكذلك للواقع البشري، باعتباره عالم غيب وشهادة، يُقدّم للبشرية مجموعة من المصطلحات كوعاء مضموني مفاهيمي، يُساعده على فهم نفسه والوجود الحاضن له بإطاريه الزّماني والمكاني.
ويقدّم القرآن الكريم إجابات للإنسان عن أصله ومصيره، وما المطلوب منه بلغة تتطوّر دلالاتها مع تطوّر المعارف العلميّة دون أن تتناقض، كما ذهب إلى ذلك الدّكتور نبيل غربال في كثير من كتاباته على صفحات مجلة الإصلاح الالكترونيّة (2).
 ويعرض القرآن الكريم توضيحا دقيقا (بيانا) لطبيعة الإنسان والحياة البشريّة، كما يقدّم نماذج عن أمم خلت داعيا للاعتبار، ويحثّ على التّفاعل الايجابي العقلاني مع الوجود ببعديه الطّبيعي والاجتماعي من خلال دعوته إلى السير في الأرض للنّظر في كيفيّة بدْء الخلق(3) على سبيل المثال وجعله للإنسان أدوات كالسّمع والبصر والفؤاد (4) للتّفاعل المثمر مع آيات القرآن الكريم، كوجود مكتوب، والواقع كوجود طبيعي واجتماعي وذلك بهدف إدراك الإنسان حقيقة ذاته والوجود الحاضن له ودوره فيه. 
وقد اهتدى الإنسان، باستعماله لتلك الأدوات إلى العلم كسبيل للغوص في خبايا الوجود الطبيعي والاجتماعي بهدف معرفته، والمنهج السّليم لاكتشاف السّنن(القوانين) النّاظمة لحركته وتطوّره.ولتفسير تلك الحركة وذلك التّطور، وضع العلماء نظريّات، ولم تتقدّم العلوم بشكل فعال إلاّ بعد نجاحها في صياغة نظريّات محكمة البناء، توضّح الظّواهر الطّبيعية وتستمد قيمتها من قوّتها التّفسيرية لتلك الظّواهر مثل نظريّة التّطور، ونظريّة تكتونيّة الصّفائح، ونظريّة الثّقالة الكونيّة، ونظريّة الانفجار العظيم، وغيرها(5). 
أمّا في المجال الاجتماعي، ورغم وضع قانون التّطور من طرف سبنسر، وقانون الأطوار الثّلاثة لأوجست كونت، ونظريّة الصّراع الاجتماعي لرالف داهرندوف وغيرها، إلّا أنّ «بناء النّظريّة واختبارها يكون صعب في العلوم الاجتماعيّة بالذّات وذلك بسبب الطّبيعة المبهمة للمفاهيم النّظرية والأدوات غير الكافية لقياسها، ووجود العديد من العوامل (factors) غير المعدودة التي يمكن أن تؤثّر أيضا في الظواهر» (6) موضوع البحث. فـ«على العكس من النّظريات في العلوم الطّبيعية، نادرا ما تكون النّظريات في العلوم الاجتماعيّة تامة أو كاملة»(7) الأمر الذي يوفّر العديد من الفرص للبحث في تحسين تلك النّظريات أو بناء نظريّات بديلة، وذلك جوهر البحث العلمي وأحد دوافع صياغة هذا المقال.
وإن كان صياغة نظريّات أفضل هو جوهر البحث العلمي وعنوان تقدمه، فإنّ نتيجة هذا البحث هي النّموذج وهو تمثيل للمعرفة المكتسبة، فدور النّظريات هو تفسير الظّواهر أو السّلوك، أمّا النّموذج، فدوره تمثيل تلك الظّواهر أو ذلك السّلوك، وصفا أو تنبؤا أو نموذجا معياريّا. وأمام عدم تمام النّظريات في العلوم الاجتماعيّة، وأمام تنوّع الواقع البشري وثرائه وشدّة تعقيداته، ووجود حاجة ماسّة للحفاظ على الوجود البشري ووقاية النّاس من مخاطر الجهل بواقعهم ومساراته وكذلك مصيره، نلجأ لعالم الغيب والشّهادة من خلال تدبّر قرآنه الذي ذُكر فيه «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا»(8) لعلنا نهتدي إلى بلورة نظريّة ونموذج للواقع البشري؟ 
مشروع نموذج للواقع البشري
لا أدّعي في هذا المقال أنّي واضع لنظريّة مستوحاة من تدبّر آيات القرآن الكريم، ولكن أرجو أن أكون من واضعي اللّبنات الأولى لها، وما سأركّز عليه هو صياغة أداة فعّالة نعتمدها، في تحليل الواقع البشري وفهمه، والفعل فيه من خلال صياغة نموذج له، يكون بصبغة اختزاليّة وبطريقة صوريّة، ويكون التّعبير عنه بلغة أدبيّة وفي شكل رسوم بيانيّة، منطلقين من تدبّر آيات القرآن الكريم وبالتّحديد تلك المتضمّنة في سورة اللّيل، طالبين التوفيق من الله تعالى.
وحتى نحصل على نموذج، لا بد أن يشمل ذلك التّمثيل للواقع البشري أبعادا ثلاثة، بعدا تركيبيّا وبعدا دلاليّا وآخر تداوليّا، أمّا البعد التّركيبي، فيعكسه ما ينطلق منه ذلك التّمثيل أو النّسق التّصوّري، من مجموع الفرضيّات الموضوعة التي تمكّن من استخلاص أو اشتقاق جملة من النّتائج أو الإستتباعات في صورة نسقيّة تُعِين على تحليل الواقع.
أما البعد الدّلالي، فيعكسه ما ينشئه النّموذج من حقل مرن من المفاهيم قابل لمسار مُتدرج للتّعديل، فالنّموذج لا ينظر إليه على أنّه نتاج نظري خالص، ولا أيضا بوصفه حصيلة ملاحظات فقط، بل يُنظر إليه من خلال الدّلالات التي تعكسها جُملة المفاهيم التي يُنشِئها.
ومن الزاوية الإجرائية، فإنّ للنّموذج منزلة عمليّة أو تطبيقيّة أصيلة لما يضمّ من عناصر وصفيّة وأخرى معياريّة، تسمح له أن يكون فاعلا وناجعا وقادرا على تحقيق الغايات التي حكمت إنتاجه وذلك ما يعكس بُعده التّداولي.
ملامح النّموذج
هو نموذج علمي لأنّه يعتمد على فعاليّات الإدراك التي وهبها الخالق للإنسان من سمع وبصر وفؤاد(العقل)(9)والتي شبّه من لا يقوم بتوظيفها لإدراك عالم الشهادة(الواقع الظاهر) وعالم الغيب(الواقع المخفي) بالأنعام، بل ذكر أنّه أضلّ(10) كما دعا الإنسان في آية أخرى إلى حُسن استعمال حاسّة السّمع إذا قُرأ القرآن لعلّ رحمة العلم والحكمة اللّتين يحتويهما تُصيبه، ويتحصّن في المقابل من عذاب الجهل والضّلال (11) والذي قد يحلّ عليه في حالة الغفلة أو الإعراض عن القرآن.
وبتدبّر سورة اللّيل المتضمّنة في القرآن الكريم كخطاب إلاهي منزل، منذ ما يزيد عن أربعة عشر قرنا خلت، على رسوله محمد ﷺ ومن خلاله رحمة للعالمين(12) نقف عند حقيقة أولى تعكس واقع سعي النّاس حيثما كانوا، وهي حقيقة تعدُّدِ سَعي النّاس في تطابق مع حقيقة الواقع، فقد ذُكر في القرآن «إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى»(13) ثمّ قام الخطاب القرآني بالتّعبير بلسان عربي مبين وبصيغة بسيطة وموجزة عن تصوّره لنسق الواقع البشري من خلال سعيهم، حيث قسّم هذا السّعي إلى مسعيين الأول يُيَسِّرُ لحياة يسيرة للنّاس، أمّا الثاني فيُيَسِّرُ لمعيشة عسيرة، ذاكرا شروط كلّ منهما بالقول «فَأمَّا مَنْ أَعْطَى وُاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرهُ لِلْيُسْرَى وَأَمّا مَن ْبَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرهُ لِلْعُسْرَى»(14) ليتحقق بذلك البعد التّركيبي للنّموذج بما هو وضع النّموذج لمجموعة من الفرضيّات تُمَكِّّنُ من استخلاص جملة من النتائج و الإستتباعات.
وبتدبّر الآيات سابقة الذكر لاحظنا ما ينشئه النّموذج من حقل مرن من المفاهيم، كمفهوم العطاء ومفهوم التّقوى، وكذلك التّصديق ومفهوم اليُسر، وفي المقابل مفاهيم البخل والاستغناء والتّكذيب وكذلك مفهوم العسر ليتحقّق بذلك البعد الدّلالي لنسق التّصور القرآني لنسق الواقع البشري، فهذا النّموذج ليس نتاجا نظريّا خالصا، ولا أيضا حصيلة ملاحظات فقط، بل يفتح المجال أمام المتدبّر للغوص في الدّلالات التي تعكسها جُملة المفاهيم التي يُنشِئها. ومن الزّاوية الإجرائيّة، فإنّ لهذا النّموذج منزلة عمليّة أو تطبيقيّة أصيلة لما يضمّ من عناصر وصفيّة وأخرى معياريّة.
فالعناصر الوصفيّة هي وصفه لسعي النّاس  بشتَّى، ووصفه لسلوكهم بالعطاء أو بالبخل، ووصفه لما يختلج في نفوسهم بالتّقوى أو الاستغناء، نظرا لمصدر التّصور والذي هو عالم الغيب والشّهادة ووصفه أيضا للمحرّك والمحدّد لنوعيّة عمل الإنسان بالتّصديق أو التّكذيب.
أمّا العناصر المعياريّة، فهي تثمينه لكلّ من العطاء والتّقوى والتّصديق لما يتحقّق من خلالها من يسر لحياة النّاس وتبخيسه لكلّ من البخل والاستغناء والتّكذيب، لما تُفرزه من عسر لمعيشة النّاس، وهذه العناصر الوصفيّة والمعياريّة تسمح لهذا النّموذج أن يكون فاعلا وناجعا وقادرا على تحقيق الغايات التي حكمت إنتاجه وذلك ما يعكس بُعده التداولي.
وإذا أردنا معرفة تلك الغايات فإن هذا النّموذج قد كشف عنها وهي ببساطة شديدة هداية البشريّة لما ييسّر حياتها عبر توجيهها الى مقدّمات التّوازن والسّلم والتّطوّر ويقيها مناهج تعسير معيشتها حتّى تحمي نفسها من عدم التّوازن والأزمات والتّأخر. 
وقد لفتت الآيات التّالية انتباه الإنسان الذي يعول على نفسه فقط، وما في حوزته إلى أنّ ما لِلإنسان لا يُغنيه إذا تردّى «وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى»(15) ومُذَكِّرًا أن على اللّه الهُدى وأنّ له الآخرة والأولى  بالقول «إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى»(16)مُتَّبِعٌا أسلوبا آخر لمن لم ينفعه الأسلوب العلمي وهو أسلوب الإنذار «فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظّى لاَ يََصْلاَهَا إِلاَّ الأَشْقََى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى»(17)محدّدة بذلك نتيجة التّكذيب والتّولّي، التّكذيب بالله واليوم الآخر والتّولّي إعراضا عن هدي القرآن الكريم. 
كما بشّرت سورة اللّيل الأتقى بالقول «وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذي يُؤْتِي مَاَلُه يَتَزَكّى»(18)محدّدة بذلك مفهوما وظيفيّا وعمليّا للتّقوى حتّى تنزع عنها الهولاميّة التي تحوم حوله والضّبابية التي ما فتئت تغمرها، فضلا عن وضعها نقيض الشّقاء، فالتّقوى وظيفيّا هي إيتاء الإنسان ما في حوزته تطهُّرًا ونماءً، أمّا الشّقاء فيكمن في التّكذيب والتّولي، إعراضا عن ذكر اللّه «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنْ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرهُ يَوْمَ القِيَاَمِة أَعْمًَى قَاَل رَبِّ لِمَ حَشَرٍتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَاَل كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنْسَى» (19) .
 وفي ما يلي رسم توضيحي لما اعتبرناه نموذجا علميّا للواقع البشري من خلال تدبّر سورة اللّيل. ولاختبار نموذج الواقع البشري الذي توصّلنا الى بلورته من خلال تدبّر القرآن الكريم، لا بدّ من القيام ببحث استدلالي (deductive research) وذلك من خلال اتباع منهج استدلالي يفرض اختبار كلّ من المفاهيم والانماط التي منحنا إياها ذلك النّموذج.، وفي المقال القادم، إن شاء اللّه نختبر هذا النّموذج على واقع البشريّة عموما وعلى الواقع التّونسي خصوصا.
الهوامش
(1) نتحدث عن الدين الإسلامي باعتباره خاتم الديانات السّماوية والمهيمن عليها. 
(2) موقع المجلّة: www.alislahmag.com
(3) سورة العنكبوت -  الآية 20  
(4) سورة النحل -  الآية 78
(5) راجع مقالات د.نبيل غربال في مجلة الإصلاح الالكترونية alislahmag.com
(6) د. أنول باتشيرجي «بحوث العلوم الاجتماعية المبادئ والمناهج والممارسات» جامعة جنوب فلوريدا الولايات المتحدة الأمريكية الطبعة الثانية اليازوري:
abhatt@usf.edu
(7) المرجع السّابق
(8) سورة المائدة -  الآية 03  
(9) سورة النّحل -  الآية 78
(10) سورة الأعراف -  الآية 179
(11) سورة الأعراف -  الآية 204
(12) سورة الأنبياء- الآية 107 
(13) سورة اللّيل- الآية 4
(14) سورة اللّيل - من الآية 5 الى الآية 10
(15) سورة اللّيل- الآية 11
(16)  سورة اللّيل - الآية 12و13
(17) سورة اللّيل- الآية 14
(18) سورة اللّيل- الآية 15
(19) سورة طه - من الآية 124 الى الآية 126