حوارات

بقلم
فيصل العش
حوار مع الكاتب الموسوعة الدكتور جميل حمداوي (الجزء 1/3)
 (1)
لعلّك من الأساتذة القلائل الذين يبحثون ضمن رؤية موسوعيّة ، في الآداب والفنون والعلوم الشّرقيّة وفي الثّقافتين العربيّة والأمازيغيّة وفي السّياسة وعلومها ، وفي المواد القانونيّة والاقتصاديّة، بالإضافة إلى علوم التّربية والتّكوين. أيّ من هذه المجالات تجده يمثلك أكثر؟ وماهي الأسباب التي ساهمت في هذا التّعدّد؟ وكيف توفّق بينها؟
صحيح، أنّي متعدّد الاختصاصات، فالمدينة التي أعيش فيها، مدينة النّاظور، مهمّشة ثقافيّا، فقد فرضت عليّ أن أكون بهذه الصّفة. فهناك من يحتاجني في الدّين، وهناك من يريد منّي أن أقدّم محاضرة في الأدب، وهناك من يطلب منّي محاضرة في المسرح، وأخرى في السّينما، وأخرى في فنّ التّشكيل، وأخرى في الموسيقا والغناء. وهناك من يريد أن أقدّم له دراسة في التّاريخ والثّقافة الأمازيغيّة. وقد فرض عليّ هذا كلّه أن أتعلّم من العلماء والمتخصّصين، وأبحث عن المعلومات ورقيّا ورقميّا، وأجتهد كمّا وكيفا عبر غربلة المصادر والمراجع، لأكون عند حسن ظنّ الآخرين، فتعلّمت السّكوت والإنصات والحوار، وكيفيّة الاستفادة من الآخرين. علاوة على ذلك، ينبغي على النّاقد الأدبي في عصرنا هذا أن يكون موسوعيّا، ومتعدّد الاختصاصات، يعرف مناهج النّقد جميعها، يأخذ من كلّ المعارف والعلوم والفنون والآداب بطرف من أجل مقاربة النّص الأدبي مقاربة شاملة علميّة وموضوعيّة. وقد كان نقّادنا القدامى موسوعيّين بامتياز، كالجاحظ، وأبي حيان التّوحيدي، وابن الأثير، والمبرد، وابن خلدون، وابن رشد، وغيرهم... فالتّخصّص في رأيي يقتل الموهبة الأدبيّة، ويضعفها مع توالي الأيام، ويحصرها في مجال ضيّق ومحدود.
وعلى الرّغم من هذا التعدّد، فأنا أميل إلى الدّراسات الأدبيّة، والنّقديّة، واللّغويّة، والفكريّة، والفلسفيّة. وتسعفني هذه الموضوعيّة في تجريب المقاربات والمناهج والنّظريات الجديدة التي أنقلها، أو أقوم بترحيلها، من مجال معرفي إلى آخر.
(2)
يرى البعض أنّ الاشتغال ضمن الرّؤية الموسوعيّة في زمن التّخصّصات الدّقيقة، يمثّل مدخلا من مداخل التّبسيطيّة والسّطحيّة، خاصّة مع تنوّع المجالات المعرفيّة التي كتب فيها الدّكتور جميل حمداوي، فما الذي يجعل اختيارك يصمد أمام هذا النّقد؟
صحيح أنّ الموسوعيّة، في كثير من الأحيان، تسقط صاحبها في السّطحيّة والتّبسيط، ولكنّ الباحث الذي يحترم نفسه يمكن أن يأتي بالجديد في ضوء هذه الموسوعيّة، فيمكن أن يستخدم الفلسفة والمنطق في تحليل النّصوص، كما يظهر في كتابي «من عقم المنطق إلى منطق التّخييل» .ويمكن الاستعانة بالفيزياء في مقاربة الظّواهر النّصيّة والأدبيّة، كما يبدو ذلك واضحا في كتابي «العوالم الممكنة بين النظريّة والتّطبيق» الذي طبّقنا فيه المقاربة الكوسمولوجيّة.ولكن بشرط واحد هو أن يستوعب الباحث الموسوعي ما يقرؤه ويكتبه، ويأتي بالجديد من لحظة إلى أخرى. وقد يمرّ الباحث، طبعا، في بداية مساره بالتّعلّم والتّلمذة، فينتقل إلى التّجريب، ثم ينتقل إلى الإبداع بعد ذلك.
(3)
لديك عدد كبير من الكتب قمت بنشرها بأريحيّة منقطعة النّظير، ورقيّا والكترونيّا، وتتكرّم وتهديها للقارئ مجانا عبر شبكات التّواصل الإلكتروني والشّبكة العنكبوتيّة.. هل كتبك مقروءة دكتور جميل؟ وهل لهذا التّأليف المتنوّع والمتواصل رجع صدى لدى القارئ، وما هي تجليّاته؟ 
نعم، كتبي مقروءة بشكل كبير؛ والدّليل على ذلك كثرة الاستشهادات التي نجدها عند التّلاميذ وطلاب الجامعات عند تحضيرهم لشهادات الإجازة والماجستير والدّكتوراه، فهم يعتمدون على كتبي؛ لأنّها سهلة، وواضحة، وبسيطة. دليل آخر يأتينا من إحصائيات موقع الألوكة الإلكتروني الذي يبيّن، مثلا، عبر مؤشّر الكمّ، ومؤشّر التّعليقات، مدى إقبال القرّاء على تلقّي تلك المقالات والكتب. فعدد قرّاء كتابي «ميادين علم الاجتماع» ( 20.810). أمّا مقالي «المفاهيم السّوسيولوجيّة عند بيير بورديو»، فعدد قرّائه (39.992). وعدد قرّاء مقالي «أصول الإنسان الأمازيغي»  (153.788).
وتتجاوز كتبي الورقيّة- كما أثبتت إحصائيّات مكتبة سلمى بتطوان- ستمائة (600) نسخة في المغرب. وقد أخبرني صاحب مطبعة أفريقيا الشّرق برواج كتبي النّوعيّة، وتدفّق القراء الخليجيين على شرائها في كلّ معرض تقيمه دولة من الدّول العربيّة. وتعني هذه الأرقام الصّريحة أنّ ثمّة إقبالا كبيرا من قبل القرّاء العرب. ولذلك، تطبع كتبي في مصر، والجزائر، والأردن، ولبنان، والسّعودية، والكويت، والإمارات العربية المتحدة، والعراق...وقد ترجمت مقالاتي إلى الكرديّة والفرنسيّة. أضف إلى ذلك أن مقالاتي وأبحاثي ودراساتي أصبحت مراجع ومصادر مهمّة، يعتمد عليها كثير من الباحثين في المعاهد والمؤسّسات والكلّيات والجامعات المغربيّة والعربيّة على حدّ سواء. 
(4)
ما هي الرّسالة التي تودّ إيصالها إلى المتلقي المفترض لكتاباتك وإبداعاتك؟
إنّ الهدف الذي أرومه من وراء كتاباتي هو توعية المتلقي أو القارئ المفترض، وتنويره بما استجد في السّاحة الثّقافيّة الغربيّة والعربيّة على حدّ سواء. وأعترف أنّي بدأت بكتابات تعريفيّة وتحليليّة وتاريخيّة بسيطة. وبعد ذلك، انتقلت إلى التّفكير في الجديد، والبحث عن مشاريع حداثيّة نظريّا وتطبيقيّا لإيصالها إلى المتلقّي بطريقة سهلة واضحة. ومن ثمّ، فقرّائي متعدّدون ومتنوّعون، فهم تلاميذ، وطلبة، ومدرّسون، وباحثون، وأساتذة أكاديميّون؛ أكتب لكلّ فئة على حدة، وأختار الأسلوب الصّالح الذي يلائم كلّ فئة دون غموض ولا تعقيد. ومن ثمّ، فرسالتي ثقافيّة محضة، مبنيّة على تزويد المتلقي بمعرفة خلفيّة موسوعيّة، وهي متعدّدة المقاربات والاختصاصات، تساعده على التّفكير الجاد، والنّقد البنّاء، والتّطبيق المستحدث بغية التّعامل مع النّصوص والقضايا من منطلقات منهجيّة جديدة. 
(5)
في خضم هذا الكمّ الهائل من المؤلفات، ألا تكرّر نفسك. هل تضبط، وأنت تكتب، المادّة المُعالجة في مؤلّفاتك؟ ما هي خطّتك في الكتابة العجيبة هذه؟
يلاحظ - فعلا- نوع من التّكرار في الكتابة التي أميل إليها. ولكن أرتاح إليها بشكل جيّد، مادامت تنطلق من توجّهات بيداغوجيّة وتعليميّة وديدكتيكيّة؛ لأنّي أوجّه كتاباتي إلى تلاميذ وطلبة وباحثين مبتدئين. وتتوجّه حتّى إلى المتخصّصين بهذه السّهولة « النّزاريّة»، أو «المطريّة»، أو «الدّنقلية». والتّكرار- كما يقول المثل- يفيد الآخرين، ويقوّي ذاكرتهم الذّهنيّة والمعرفيّة . 
وعندما أكتب أصحّح كتبي ودراساتي ومقالاتي وأبحاثي مرّات عدّة. وعلى الرّغم من ذلك، أسقط في الأخطاء مرّات ومرّات عندما أنشر ما كتبته، وألوم نفسي على ذلك وأتحسّر. ويعني هذا أنّ الإنسان ناقص وقاصر عن الإحاطة بكلّ شيء.كما تؤثّر أشعّة الحاسوب كثيرا في قدرات العينين؛ ممّا يجعلها تسهو أو تغضّ الطّرف عن أخطاء صغيرة أو كبيرة. وهذا شيء طبيعي لمن يكتب كثيرا. فالذي لايخطىء في الكتابة هو الذي لايكتب  إطلاقا.
بعد أن كتبت ماهو مألوف ومجترّ من المواضيع عندما كنت مبتدئا في الكتابة، وكنت أعتمد على استشهادات الباحثين المغاربة والعرب، وبعد أن تتلمذت على كثير من الأساتذة والباحثين والدّكاترة المتميّزين، انتقلت توّا إلى خوض تجربة الحداثة وما بعد الحداثة، بالاعتماد على المراجع الأجنبيّة، ولاسيّما الفرنسيّة والإنجليزيّة والإسبانيّة منها. وقلّما أعود فيها إلى الباحثين العرب إلاّ في حالة الضّرورة القصوى. وتعتمد فلسفتي في الكتابة على الكمّ والكيف معا، فبهما يتحقّق التّطور الجدلي، وتتحسّن كتاباتي ، وتتقوى ذاكرتي، وتعجبني مغامرة التّجريب والتّأسيس والتّأصيل.
(6)
لديك اهتمام كبير بالمسرح خاصّة من حيث النّظريّة، ولك  كتابات عديدة في هذا المجال . ما أهمّية هذا النّوع من الفنون في حياتنا، وهل يمكن أن يكون وسيلة للإصلاح؟
يعدّ المسرح فنّا من الفنون الجميلة.وبالتّالي، فله أدوار مهمّة في الحياة الإنسانيّة. بمعنى أنّه يجمع بين الفائدة والمتعة، ويتأرجح بين الجدّ والتّرويح عن النّفس ترفيها وتسلية. ولا ينبغي أن يكون التّرفيه مجانيّا ومجرّد عبث، يل يكون هادفا ومفيدا مرتبطا بتنمية الوعي وتطويره ذهنيّا ووجدانيّا وعمليّا في خدمة النّفس الإنسانيّة بعد العمل المتعب الشاقّ. ونطلب من المسرح دائما شيئا أعمق من مجرّد التّرفيه، نطلب منه ذلك الوعي الذي يضاعف الحياة داخلنا، ويزيدها عمقا واتساعا وتحرّرا وإمتاعا، لقد تحوّل المسرح في عصور الانحطاط إلى مجرّد أداة للتّرفيه عن البشر المتعبين والضّائعين، ولكنّ ذلك التحوّل كان الاستثناء الذي يؤكّد القاعدة، وهي أنّ المسرح لا يجب أن يكون مجرّد أداة ترفيه فحسب. ثمّ حدثت النّقلة المعاصرة، ولم يعد هناك استثناء ولا قاعدة، وصار للتّرفيه فلسفته كاحتياج إنساني، يؤكّد حرّية الإنسان، ورفضه، يكون مجرّد آليّة تؤدّي دورها المرسوم داخل أنظمة اجتماعيّة شديدة التّعقيد، تستلبه من ذاته، وتقهره بضغوط لا قبل له بها، وهذا بالطّبع لا يتناقض مع الدّور الجادّ للمسرح الذي تضاعفت مسؤوليته ودوره، في استعادة الإنسان المغترب عن عالمه المتمثّل في أخوته ومجتمعه وعصره... 
ويقوم المسرح أصلا،  لا على التّسليم بما هو قائم وموجود، وإنّما بالدّعوة إلى ما هو أفضل وأرقى منه، والمسرح أساسا فنّ رفض الواقع، لأنّه يقوم على رؤية جديدة لواقع جديد، ونظرة مغايرة للواقع القائم، ومن هنا فالأصل أن تتبلور الجهود حول تعديل مسار المسرح، لكي يكون أقرب إلى الالتزام والجدّية في عرض ومعالجة مشاكل الحياة، لا إلهاء النّاس عنها بالضّحك الأجوف، والتّسلية الفارغة.
ومن هنا، فالمسرح الحقيقي مسرح شاملٌ، صياغةً، ودلالةً، ووظيفةً. ومن ثمّ، فهدفه الثّورة على المستبدّين، وتغيير الواقع الفاسد، والسّمو به نحو الأفضل والأحسن. ومن هنا، يمكن القول: إنّ المسرح فنّ إصلاحي بامتياز، يتناول جميع القضايا والمشاكل التي تؤرّق الإنسان في حياته اليوميّة، مهما كانت طبيعة هذه المشاكل والهموم والأحزان، لكن من منظور أخلاقي إسلامي متكامل في مبادئه، يبتغي خدمة الإنسان إن عقلا وروحا، وإن جسدا ونفسا.
ومن هنا، يقوم التّطهير الأخلاقي بدور مهمّ في المسرح، مادام مبنيّا على التّقويم الإيجابي، وإصلاح ما أعوج من سلوكيّات بشريّة طائشة وشائنة، وتغيير ما فسد من القيم والعقائد بسبب الضّلال والانحراف. 
(7)
خصّصت كتابا لتقديم نظريّة جديدة للمسرح بعنوان «المسرح الإسلامي». ماذا تقصد بالنّظريّة الإسلاميّة في المسرح؟
النظريّة الإسلاميّة في المسرح هي تلك النّظريّة التي تربط الممارسة المسرحيّة بالرّؤية الدّينية الإسلاميّة على مستوى الكتابة، والإخراج، والتّأثيث، والتّشخيص. وتحاول هذه النّظرية أن تبني الإنسان فنّا، وجمالا، وذوقا؛ وتسمو بأخلاقه وشخصيّته نحو الفضيلة والكمال. ومن هنا، ترفض النّظرية الإسلاميّة التّيارات العابثة ومدارس اللاّوعي، وتتعارض مع مسرح اللاّمعقول والنّظرية الوجوديّة التي تنشر اليأس، والسّأم، والتّشاؤم. وبالتّالي، تعدّ النّظرية الإسلاميّة الإنسان كائنا مكرّما في هذه الأرض المباركة، له مسؤوليّة دنيويّة وأخرويّة تجاه أخيه الإنسان وتجاه ربّه، مصداقا لقوله تعالى﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾( سورة الذاريات:56-57-58). وتعني هذه الآية القرآنيّة أنّ اللّه ما خلق الإنس والجنّ في هذا الكون إلاّ ليعبدا اللّه عملا ، وطاعة، واستصلاحا، واستسلاما.
 وتندرج هذه النّظرية، في الحقيقة، ضمن خانة الأدب الإسلامي، وقد نظر له كلّ من الشّيخ أبو الحسن النّدوي، والإمام الشّهيد حسن البنا، والسّفير صلاح الدين السّلجوقي، والسّيد قطب، ومحمد قطب، والدّكتور عبد الرّحمن رأفت الباشا، والدّكتور أحمد بسام ساعي، والدّكتور نجيب الكيلاني، والدّكتور حسن الأمراني... 
أمّا في مجال المسرح وفنون الدّراما، فلابدّ من استحضار الدّكتور عماد الدين خليل وكتابيه«في النّقد الإسلامي المعاصر» و«فوضى العالم في المسرح الغربي المعاصر»، ونجيب الكيلاني في كتابيه «مدخل إلى الأدب الإسلامي» و«المسرح الإسلامي»، وكتابات الباحث العراقي حكمت صالح حول المسرح الإسلامي المعاصر، ومحمد عزيزة في كتابه القيم «الإسلام والمسرح»، وعمر محمد الطالب في كتابه «ملامح المسرحية العربية الإسلامية» ...
لم أتبن شخصيّا النّظريّة المسرحيّة الإسلاميّة إلاّ بعد جهد جهيد، وتفكير عميق، عندما فوجئت مرّات عديدة - باعتباري ناقدا أو عضوا في لجان التّحكيم المسرحيّة- بعروض مسرحيّة متطرّفة أو ماجنة أوفاسقة أو إباحيّة، تعرض فيها الممثّلات سيقانهن ونهودهن وأعراضهن بشكل فاحش أمام الجمهور المختلط باسم الفنّ والمسرح. فلا يستطيع الإنسان في هذه الحالة المزرية والمنحطّة، مهما كان توجّهه العقدي أو الأيديولوجي، أن يرافق عائلته إلى هذا المسرح لرصد العروض الدّرامية قضيّة وفنّا وجمالا أوّلا، فتنمية الذّوق المسرحي ثانيا، ثمّ تكوين ملكة نقديّة أو تقويميّة ثالثا. وذلك كلّه بسبب هذا التّعري المقرف، والتّفسخ الأخلاقي، بالإضافة إلى نشر فلسفات عابثة ورؤى فاسدة ومتطرّفة.
(8)
ألا تخشى بطرحك لنظريّة إسلاميّة في المسرح، أن يتّهمونك بالرّغبة في «أسلمة المسرح»؟
مهما حاولنا أن نقول بأنّ الفنّ ينبغي أن يكون من أجل الفنّ، وأنّ طريق الخير يفسد الفنّ. وأنّ الدّين أو العقيدة يشكّل الثّابت الذي يؤثّر سلبا في الفنون والآداب والمعارف، ولا يساهم في التّغيير والتّحوّل، كما يذهب إلى ذلك أدونيس في كتابه «الثّابت والمتحوّل». فأنّني أرى شخصيّا أنّ العقيدة الإسلاميّة- بالخصوص - فيها كلّ الخير للإنسان، إذا فهمناها فهما حسنا، وأوّلنا النّصوص الدّينية تأويلا جيّدا لا يتناقض مع تعاليم الرّؤية الإسلاميّة ذات البعد الرّباني والكوني والإنساني، سيّما في مجال الفنون، والجماليّات، والآداب. فكلّ الفنون الإنسانيّة مفيدة ومهمّة إذا كان الهدف منها خدمة الإنسان، ونشر الفضيلة، والسّمو بالبشريّة إلى مراتب السّعادة والكمال، دون أن يكون هناك استغلال أو استرقاق أو استلاب أو تدجين لبني البشر.
ومن هنا،  فالمسرح الإسلامي هو ذلك المسرح المتكامل شكلا ومضمونا ورؤية، ويحمل أيضا رؤية إسلاميّة ربانيّة شاملة ومنسجمة ومتناسقة في نظرتها إلى الكون، والإنسان، والحياة، والقيم. وبالتالي، فهي رؤية إنسانيّة جامعة، ونظرة متوازنة تجمع بين المادّة والرّوح، وتوفّق بين الدّنيا والآخرة، وتزاوج بين العقل والعاطفة، وتزاوج بين العبادة والعمل، وكذلك بين الجسد والنّفس. ومن ثمّ، ينطلق المسرح الإسلامي - نظريّة وممارسة-  من التّصوّر القرآني الرّباني المعجز، ويستمد مبادئه الجوهريّة من الهدي النّبوي الشّريف. ويقوم كذلك على الالتزام الرّباني الذي قوامه الطّاعة والمسؤوليّة والاستسلام ، والتّمثّل بشريعة اللّه نيّة، وقولا، وفعلا.
ويعني هذا أنّ المسرح الإسلامي  هو مسرح يستهدف السّمو بالإنسان إلى مراتب الكمال، والعلو به إلى أعلى مدارج التّرقي، ورفعه أخلاقيّا وقيميّا إلى قمّة الفضيلة والسّعادة الدّنيويّة والأخرويّة، وتخليصه من شوائب المادّة، وبراثن الطّين، وغواية الجسد، والمنافع العاجلة، وتحريره من عالم الخمرة وشرك الإباحيّة الحيوانيّة ، وانتزاعه من عالم الأهواء الطّائشة والميول الشيطانيّة، وإنقاذه من الشّرور الدّنيوية الدّنيئة.
وبناء على ما سبق، يرفض المسرح الإسلامي الغواية المجانيّة، والنّفاق الكاذب، والغلو المبالغ فيه، والعبثيّة الفوضويّة. وفي المقابل، يدعو إلى الإيمان الصّادق، والعمل الصّالح، والصّبر في الحياة من أجل نيل النّصر المبين، مصداقا لقوله تعالى في سورة الشّعراء:﴿ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُون،﴾ ( الشعراء:225-227). 
(9)
لكن البعض يرى أنّ الايديولوجيّة سواء أكانت وضعيّة أم سماويّة هي مليئة بالدّوغمائيّة، ولا يمكنها أن ترعى الأدب والفنون ؟
بادئ ذي بدء، إذا كان كارل ماركس يقول بأنّ الدّين أفيون الشّعوب. يمكن أن ينطبق هذا القول كثيرا على العقائد الوثنيّة والدّيانات التي أصابها التّحريف والتّزوير كالمسيحيّة واليهوديّة، ويمكن أن ينطبق أيضا على تصرّفات بعض رجال الدّين من ملّتنا، وخاصّة تلك التّصرّفات المتناقضة مع تعاليم الإسلام التي تستهدف استغلال المسلمين، وتضليلهم عبر فتاوى سياسيّة قائمة على الهوى المبتدع، والاقتناعات الشّخصيّة غير الخاضعة للشّرع الرّباني. ويكون الغرض منها خدمة مصالح إيديولوجيّة معينة، سواء أكانت تتعلّق بمصالح شخصيّة أم نقابيّة أم حزبيّة أم حكوميّة أم أنظمة اقتصاديّة معيّنة. ومادام الإسلام عقيدة سماويّة، كما هي مثبتة في الكتاب والسّنة الصّحيحة المتواترة، فهو بعيد أيّما بعد عن الأيديولوجيا وما جاورها؛ لأنّ هذه العقيدة / الوحي تشريعات ربانيّة منزّهة ومطلقة ومقدّسة، بعيدة عن كلّ مظاهر التّغيير والتّحريف والتّزوير والتّلاعب البشري، مصداقا لقوله تعالى:﴿ إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾(سورة الحجر).
وعليه، إنّ أي نظريّة معرفيّة أو فنيّة أو أدبيّة تستهدي بالإسلام كتابا وسنّة، وتلتزم بمبادئ التّصوّر الرّباني، فهي في اعتقادنا بعيدة عن الإيديولوجيا. وفي  الوقت نفسه،  فهي قريبة من التّصور الإسلامي. ويمكن أن تكون هناك تأويلات مختلفة في مجال الفنون والجماليّات والآداب، لكن لابد من العودة دائما إلى الوحي لتأويل نصوصه تأويلا صحيحا، يتوافق مع تعاليم عقيدتنا السّمحة.
ومن ثمّ، تحوي النّظريّة المسرحيّة الإسلاميّة مجموعة من القواعد الفنّية والجماليّة، لكنّها قواعد هادفة وبناءة وسامية، ترفع الإنسان، وتسمو به عاليا في مراقي الحاضرة، ومراتب التّقدم والمدنيّة والازدهار، ولا تنحط به حيوانيّا وشيئيّا، كما هو حال النّظريات المسرحيّة العابثة والمادّية واللاّمعقولة. ومن هنا، يستند المسرح الإسلامي إلى مجموعة من المقومات والمرتكزات والمفاهيم الأساسيّة التي يمكن حصرها في المبادئ التّالية:
-1 الجمع بين الفائدة والمتعة، والتّأرجح بين الجدّ والتّرويح عن النّفس ترفيها وتسلية. ولا ينبغي أن يكون التّرفيه مجانيّا ومجرّد عبث، يل يكون هادفا ومفيدا مرتبطا بتنمية الوعي، وتطويره ذهنيّا ووجدانيّا وعمليّا، في خدمة النّفس الإنسانيّة بعد العمل المتعب الشّاق. 
-2 التّوفيق بين المضامين الهادفة والأشكال الفنّية الجماليّة الجيّدة في أثناء تقديم الفرجات المسرحيّة ذات المنظور الإسلامي؛
-3 تقديم مضامين دراميّة متنوّعة جادّة وبنّاءة ومسؤولة في رؤاها وتصوراتها المقصديّة؛
-4 قيام المسرح الحقيقي على الالتزام الإسلامي بدلا من الارتكاز على الالتزام الماركسي كما في الكثير من المسرحيّات البريشتيّة، أو الالتزام الوجودي العبثي كما في مسرحيات سارتر ومسرح اللاّمعقول، أو الالتزام الرّأسمالي اللّيبرالي المتوحّش كما هو الحال في الكثير من المسرحيّات الغربيّة الدّاعية إلى الحرّية الفرديّة وحرّية التملّك و«التبرجز»؛
-5 التّركيز على التّطهير الأخلاقي من جهة، والصّراع الدّرامي الدّيني والأخلاقي والحضاري من جهة أخرى؛
-6 الاهتمام بالتّغيير الأخلاقي الرّوحاني، والعمل على الإصلاح الدّيني الإيجابي، وتعديل القيم والسّلوكيّات السّلبيّة المشينة، على مستوى الرّصد والتلقّي، في أثناء الاشتباك الدّرامي والنّفسي بين الممثل والمتفرّج؛
-7 التّشديد على الرّسالة في بناء الشّخص حضاريّا، وتوعيته أخلاقيّا، قبل التّشديد على الشّكل، والجمال، والزّينة؛
-8 أن تحمل المسرحيّة الإسلاميّة ثقافة ربّانية إنسانيّة منفتحة، وتتضمّن أيضا ثقافة محرّرة ومتحرّرة واضحة ومتوازنة ومسؤولة وواعية، مصداقا لقول الرّسول (ﷺ): «كلكم راع، وكلّكم مسؤول عن رعيته»؛ 
-9 أن يكون المسرح الإسلامي مسرحا شاملا في تقنياته الفنّية والجماليّة، ومفيدا وممتعا موضوعا، وعرضا، ورؤية.
-10 أن يسمو المسرح الإسلامي بالإنسان جسدا وروحا، بترسيخ القيم الأصيلة في سبيل تحقيق الخير، والنّماء، والحقّ، والعدل، والحرّية، والجمال.
(10)
يرى بعض المختصين في تاريخ الفنون أنّ الفنّ الذي ترعاه الايديولوجيات يولد ميّتا  مهما كانت نسبة الإبداع الادبي فيه عاليا. فلماذا المغامرة بهذه النظرية؟
صحيح أنّ أي فنّ يخضع للإيديولوجيّة يموت مع الوقت، أو ينقرض مع انتهاء تلك الإيديولوجيّة. ومن ثمّ، يرتكز المسرح الإسلامي على تنوير الإنسان تنويرا عقديّا، وتوعيته أخلاقيّا، وبنائه حضاريّا في ضوء الشّريعة الإسلاميّة الرّبانيّة والعقيدة النّيرة السّليمة والصّحيحة. 
وكلّ مسرح يقوم في المقابل على نشر فلسفة العبث واللاّجدوى، ويسعى إلى التّجريد المجاني ، ويستهدف الغواية الشّبقيّة، وتشجيع الرّذيلة، وإباحة الفساد، والاستهتار بالقيم  الأخلاقيّة والدّينيّة ، فإنّه - بلا شكّ- مسرح زائل سيؤول  يوما إلى الفشل، والفناء، والانقراض. 
وقد تبنيت المسرح الإسلامي في فترة زمنية من مراحل عمري، عندما كنت متحمّسا للأدب الإسلامي.وبعد ذلك، تراجعت عن هذا الأدب، وانتقلت إلى الأدب الحضاري والإنساني والكوني، بالانفتاح على جميع النظريّات والاتجاهات الفنّية العالميّة.
ولكنّنا -اليوم-  قد تخلّينا عن النّظرية الإسلاميّة للمسرح، وقد تبنينا المسرح السّيميائي أو المسرح العلاماتي؛ حيث يعتمد المسرح السّيميائي على الدّال اللّغوي، والدّال البصري، والدّال الحركي. وبالتالي، يحول جميع العناصر الأخرى التي توجد فوق الرّكح أو بجواره إلى علامات سيميائيّة دالّة، تستوجب من الرّاصد الفهم، والتّفكيك، والتّركيب.