أهل الاختصاص

بقلم
نبيل غربال
دحو الأرض: المداحي الجليدية
 الدّحو بالمصطلحات الحديثة
يخضع وجه الأرض باستمرار الى عمليّات تفكيك الأساس الصّخري، وتعرية المنحدرات، ونقل المواد المزالة بالماء أو بالرّيح أو بفعل الجاذبيّة، إذ تدفع المواد الصّخريّة المزالة بالمياه والرّياح الى أماكن منخفضة كالبحار و المحيطات، لتتراكم فيها وتترسّب. تُعرف العوامل القائمة بتلك العمليّات في الأوساط الأكاديميّة بعوامل التّجوية والتّعرية والانجراف. تعتمد عوامل الانجراف أساسا على المياه في حالتها الصّلبة (الجليد) أو السّائلة، كما تلعب الرّياح دورا مهمّا وكلّ ذلك حسب المناخ السّائد. وبما أنّ من نتائج تلك العوامل المسلّطة على وجه الأرض الصّخري هو النّزع والتّنحية والتّقشير للصّخور النّاتئة والدّفع بمواد التّقشير ورميها وجرّها وإلقائها بعيدا عن الموضع والميل الى جعل المكان مستويا بعدما كان متضرّسا، فإنّه يحقّ لنا أن نسمّي تلك العوامل عوامل دحو عوضا عن المصطلح الذي عُرفت به، لأنّ الدّحو -كما بيّنا في مقال سابق (أنظر العدد 144)- يتضمّن معاني الإزالة والنّقل والتّسوية وهو أوسع من معنى الجرف؛ وعمليّة الدّحو عمليّة طويلة الأمد، فدحو جبلٍ وتسويته بالأرض يتطلّب عشرات ملايين السّنين (40 مليون سنة مثلا). وهذا يجعل التّساؤل التّالي مشروعا: إذا كان عمر الأرض يفوق 4000 مليون سنة، فلماذا لم تنجح عوامل الدّحو خلال ذلك الدّهر السّحيق في تسوية سطح الأرض (أي سطح اليابسة) بالكامل؟ والجواب أنّ الأرض كوكب «حيّ»، تتغيّر تضاريسه باستمرار بفعل القوى الباطنيّة البنّاءة للتّضاريس والخارجيّة المزيلة لها. فالأولى تبني الجبال إمّا بدفع الكتل القارّية في مواجهة بعضها البعض بالاصطدام و إمّا بالتّدفقات البركانيّة فتشكّل كتل قارّية جديدة وتشوه سطح الأرض، والثّانية تدحوها.
الدّحو قديم قدم الغلاف الصّخري
كانت الأرض في بدايتها مغمورة بالكامل بالماء، إذ تهاطلت عليها الأمطار بشكل متواصل خلال ملايين السّنين، وكان «سطحها» الصّخري المغطّى بالكامل تقريبا بالماء يتكوّن من «بازلت» وهي الصّخور التي تمثّل قاع المحيطات في يومنا هذا. ثمّ وبفعل المدّ، برزت الكتل القارّية متجاوزة سطح المحيط العالمي بفضل خفّتها مقارنة بصخور قاع المحيط على شاكلة الكاريبي والماريان. 
وقد خضعت تلك الجزر الى عمليّة دحو شديد بفضل الأمطار والرّياح العاتية، ممّا مكّن تسطيحها  من ناحية، وتشكيل صخورٍ رسوبيّة زادت من مساحة تلك الجزر من ناحية ثانية.
ورغم شحّة الشّواهد وما ينجرّ عن ذلك من صعوبة لتصوّر تاريخ سطح الأرض القديم، فقد توصّل المختصّون الى نتيجة مفادها أنّ القارّات التي نراها الآن هي في الحقيقة آخر توزيع لكتل الصّخور التي تمثّل اليابسة خلال تاريخ الأرض الممتد على 4.5 مليار سنة.لقد شهدت تلك الصّخور دورات من التّجمع لتعطي قارّات عملاقة ثمّ التّمزّق الى قارّات. ويرى المختصّون -حسب الاستقراء العلمي لتاريخ سطح الأرض المديد - أنّ تكوين مثل هذه «القارّة العملاقة» كان يتكرّر كلّ 600 مليون سنة تقريبا.ويعود آخر تكوين لقارّة عملاقة الى حوالي 280 مليون سنة، إذ حدثت إضافات ضخمة إلى قشرة القارّات السّائدة وقتها وذلك ما بين  0.5 و0.3 مليار سنة وسمّيت بانجيا (كلّ الأرض باليونانية)، ثمّ تصدّعت لتعطي القارّات التي نعرفها الآن وذلك قبل حوالي 175 مليون سنة. وبعد حوالي 130 مليون سنة، انتصبت سلسلة جبال الهيمالايا باصطدام الصّفيحة الهنديّة والصّفيحة الاوراسيّة.
إنّ تشكّل القارّات بالمدّ واصطدامها وما ينتج عنه من انتصاب للسّلاسل الجبليّة، يشوه وجه الأرض ويعقّد تضاريسه. هذا إضافة للعديد من البراكين التي تنشط في مناطق مختلفة سواء داخل المحيطات أو في القارّات، أين تبرز على السّطح كتلا صخريّة ضخمة وتضاريس معقّدة. كانت تضاريس الأرض وعرة جدّا وذات نتوءات حادّة، فقد كانت الصّخور بركانيّة من طبيعة بلوريّة، لا انبساط ولا استواء ولا مرعى فيها. لكنّ تاريخ سطح الأرض (سواء بمعنى سطح البيت «الغلاف الصخري» أو بمعنى أعلى ذلك السّطح الممتدّ معه «معالم تضاريسه») هو في الحقيقة تاريخ صراع بين قوّتين واحدة بنّاءة للتضاريس وأخرى مدمّرة له وهي بالطّبع قوّة الدّحو. فالدّحو كفعل مزيل للتّضاريس، موجود إذا منذ بداية تشكّل القارّات ويتجدّد مع كلّ مدّ جديد لها باعتبارها كتل صخريّة تعلو سطح ماء البحار والمحيطات وذات امتداد كبير وتضاريس معقّدة ومعرضة بالضّرورة الى فعل المياه الجارية، ويتجدّد أيضا مع كلّ بروز جديد للجبال، وكلّ أنواع التّضاريس وأشكالها. فدورة المياه قديمة هي أيضا قدم وجود الماء ولا يمكن للجزء، من تلك الدّورة، العائد الى اليابسة الاّ أن يدحو سطحها.
الدّحو في سورة النازعات
بما أنّ الدّحو قديم قدم القارّات، فما هو الدّحو الذي تشير اليه الآية 30 من سورة النّازعات محلّ بحثنا هذا؟ أول عنصر يفيدنا في الإجابة موجود في الآيات 27, 28 و29 من النّازعات. انّه الدّحو الذي مورس على سطح الأرض (أعلاها الممتد معها وما به من تضاريس) بعد أن اكتمل بناء الغلاف الغازي أي السّماء بالمفهوم القرآني وذلك بعدما رفع سمكها، وسوّيت تركيبتها، وبعد ما أغطش ليلها، وأخرج ضحاها. أي أنّ الدّحو الذي كان موجودا منذ تشكّلت أوّل نواة للقارات ليس هو الدّحو الوارد في الآية. فـ«المعروف من معنى «بَعْدَ» أنّه خلاف معنى «قَبْل» كما قال الطّبري و«البعديّة ظاهرها تأخّر زمان حصول الفعل» كما أشار الى ذلك ابن عاشور، ونحن نذهب ما ذهبا اليه دون تأويل، وسنفصّل الأمر لاحقا.  أمّا العنصر الثّاني، فيكمن في الآية «أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا ومرعاها» والتي تلت آية الدّحو مباشرة وخاصّة بمسألة «عدم إدخال حرف عطف عليها». إنّ غياب حرف العطف له في البلاغة عدّة معان موجودة في التّفاسير، ويمكن أن نوجزها في ثلاثة آراء لنستأنس بها في تحديد هذا العنصر الثّاني.
الرّأي الأول: الآية بيان وتفسير للدّحو بما أنّه بسط وتمهيد
نستشهد على هذا الرّأي بما قاله الشّوكاني (1250 ه) بأنّ الآية هي « بيان وتفسير لدحاها لأنّ السّكنى لا تتأتّى بمجرد البسط بل لا بدّ من تسوية أمر النّاس من المأكل والمشرب».
نلاحظ في هذا الرّأي حول مدلول انعدام العاطف للآية 30، أنّه مرتبط بمعنى «دحا» الذي يعتبره بأنّه «بسط» وتمهيد للسّكنى، وهذا دليل ساطع على تأثير معنى دحا الحاسم في المنحى الذي يتبعه المفسر في تدبّره للآية. لقد سبق وأن قلنا أنّ تاريخ الأرض يبيّن أنّ الدّحو لم ينتج عنه في الماضي تمهيدا للسّكنى، والدّليل عدم ظهور كائنات حيّة حتّى تسكن فيه. فالبشر لم يمر على خلقهم أكثر من 300 ألف سنة حسب آخر الاكتشافات في حين أنّ الدّحو وبناء التّضاريس، يتبادلان منذ الأزل الأدوار باستمرار، وبالتالي قبل ظهور الإنسان. 
الرّأي الثّاني: الآية وصف لحال الأرض المدحوّة
يوضّح الرّازي هذا الرّأي فيكتب: «أن يكون (أخرج) حالا، والتّقدير والأرض بعد ذلك دحاها حال ما أخرج منها ماءها ومرعاها». فالآية تخبر إذا حسب هذا التّأويل عن هيئة الأرض حين حدوث الدّحو،حيث يكون الماء الصّالح للشّراب قد توفّر وكذلك مواضع الرّعي والرّعي ذاته أي النّبات الذي يأكله النّاس والأنّعام. وهذا التّأويل الذي تسمح به اللّغة يعطي خصائص الأرض المدحوّة التي تشير إليها الآية 30.
الموقف الثّالث: اخراج الماء والمرعى هي من مشتملات الدّحو
يرى ابن عاشور أنّه «لا يصحّ جعل جملة (أخرج منها ماءها) إلى آخرها بياناً لجملة (دحاها)لاختلاف معنى الفعلين» أي فعليّ الدّحو والإخراج، ويقول:«وجملة (أخرج منها ماءها ومرعاها) بدل اشتمال من جملة (دحاها)، لأنّ المقصد من دحوها بمقتضى ما يكمل تيسير الانتفاع بها». وهذا يعني حسب ابن عاشور أنّ إخراج الماء والمرعى هو من مشتملات الدّحو وخصائصه ولوازمه والتي من أهمّها وأبرزها تهيئة المكان لظهور الإنسان. فإخراج الماء والمرعى كلاهما يقوم مقام الدّحو في تهيئة سطح الأرض لظهور الإنسان، لذلك فهما يمثّلان بدلا من الدّحو في ذلك. 
لكنّ الدّحو، وكما سبق أن قلنا، هو فعل مستمر في حين أن المَرْعى بمعنى « الكَلأُ»  أي «ما يقتات به النّاسُ والدَّوابُّ من النَّبات» لم يظهر على سطح الأرض الاّ حديثا قياسا بعمر الأرض. فالنّباتات المزهرة وهي التي لها علاقة بالمرعى، أي ما يرعاه الإنسان والحيوان لم تخلق الاّ قبل 65 مليون سنة فقط؛ وهذا التّاريخ كاف لإجلاء حقيقة أنّ الدّحو لم يكن يشتمل دائما على إخراج النّبات، فهو أقدم بكثير جدّا من النّبات وكلّ مظاهر الحياة. فكم من مرّة دحيت مساحات واسعة من سطح الأرض ولم تظهر النّباتات بعد. وفضلا عن ذلك يمكن للنّبات أن يوجد حتّى في أشدّ الأماكن وعورة من حيث التّضاريس ولا يمكن له أن يقوم مقام الدّحو في بسط المكان وتسويته. 
فما هو الرأي الذي يمكن أن نبنيه على ضوء ما قيل فيما يتعلّق بالدّحو في سورة النّازعات؟ لقد بدأ هذا الموقف يتبلور انطلاقا من الملاحظات التي سقناها في الأقوال الواردة.
إنّ أصل الدّحو إزالة الشّيء من مكان إلى مكان كما يقول الرّازي، وهي إزالة تتطلّب قوّة وشدّة، أي هي نزع لكلّ ما يمنع سطح الأرض من أن يكون منبسطا ومستويا؛ والدّحو الذي تشير اليه الآية هو أوّلا ذلك الذي حدث بعدما أصبح الغلاف الغازي على الحالة التي هو عليها الآن وهو ثانيا ذلك الذي كانت حالة سطح الأرض إثره تتميّز بوجود المرعى والماء الصّالح للشّراب، وهما ممّا سيتمتع به الإنسان وينتفع به هو وأنعامه، أي الإبل والبقر والغنم كما جاء في الآية 33 من سورة النازعات: «مَتاعاً لَكُمْ ولأنْعامِكُمْ»، فـ«المتاع في الأصل كلّ شيء يُنْتَفَعُ بِهِ ويُتبلَّغ به ويتزوَّد» (الأزهري ت370هـ). فمتى تشكّل نهائيّا الغلاف الغازي الحالي ومتّى ظهر النّبات الذي يقتات منه البشر والأنعام؟ الإجابة مهمّة لتحديد الدّحو الذي تشير إليه الآية. الأسئلة صعبة، ولكن يمكن أن نعتمد على معطيات علميّة تجعل إجابتنا ليست بعيدة عن الصّواب. أوّلا، تظهر الدّراسات المناخيّة أنّ المناخ قد استقرّ تقريبا خلال الاثناي عشر ألف سنة الأخيرة، أمّا تشكّل الغلاف الغازي أي السّماء، والذي يتحدّد المناخ في طبقته السّفلى، فهو سابق لهذا التّاريخ بكثير. ولو أخذنا غاز الأوزون كمعيار لتحديد تسوية السّماء بالمعنى العلمي، وهو الذي سمح بخروج الحياة من الماء الى اليابسة (630 – 485 م س) التي سرعان ما امتلكت غطاء من العشب حيث ظهرت النّباتات العشبيّة قبل حوالي 420 – 415 مليون سنة، فقد تشكّل هذا الغاز الثّمين في طبقات الجو العليا قبل حوالي 500 الى 600 مليون سنة وقد وصلت طبقته إلى حجمها الحالي قبل حوالي 400 مليون سنة. أمّا ثاني معيار يمكن أن يوجهنا وهو تركيز الأكسجين المساوي لما هو عليه الآن، فقد استقرّ تقريبا قبل حوالي 25 مليون سنة مثله مثل غاز ثاني أكسيد الكربون، ممّا يجعلنا نستنتج بكثير من الحذر ولكن باطمئنان غير قليل، أنّ استواء السّماء يعود الى ما قبل عشرات الملايين من السّنين فقط. أمّا المعطى الثّاني فهو يتعلّق بما يقتات به النّاس ويرتبط مباشرة بما تنبت الأرض. لقد اكتشف الإنسان الزّراعة منذ حولي 10000 سنة في العراق الآن. ومنذ ذلك الزمن بدأ تدجين النّباتات بالزّراعة، وقد تسبّبت هذه العمليّة في انتاج الغذاء إضافة الى تدجين الحيوانات. فالقمح الذي سيكون منه الخبز مثلا،ظهر قبل 8 آلاف سنة في جنوب غرب آسيا. أمّا الأرز فيعود تدجينه الى 6500 سنة. هذا عن المرعى، أمّا عن الأنعام فتشير الدّراسات التّاريخيّة والعلميّة أنّ الإنسان قد نجح في تدجين الأبقار منذ أربعة آلاف سنة قبل الميلاد في الجنوب الشّرقي من قارّة آسيا، وفي الجنوب الشّرقي من قارّة أوروبا. أمّا تدجين الإبل فقد تأخّر كثيراً عن تدجين غيرها من الحيوانات، وكانت تستخدم بشكل أساسي لحمل الأثقال والتّنقل. وبالنّسبة للماء الذي تشير اليه الآية، فهو ليس ماء البحار والمحيطات المالح وإنّما ماء الأنهار والأودية الصّالح للشّراب. كلّ هذه المعطيات تجعلنا نستنتج أنّ الدّحو الذي تشير اليه الآية 30 من سورة النّازعات قد حدث في العشرات ملايين الأخيرة من عمر الأرض الذي يقاس بمليارات السّنين وقد بلغ مداه قبل حوالي 10000 سنة لأنّ الماء (الأنهار والوديان) والمرعى قد توفّرت بشكل لا مجال للشّك فيه. ولكن هل هناك حدث وقع بعد أن سوّيت السّماء بعلاقة بالدّحو وبإخراج الماء والمرعى؟ نعم، إنّها العصور الجليديّة المتتالية التي مرّت بها الأرض وقد بدأ آخر تلك العصور قبل حوالي 2 مليون سنة وانتهى قبل حوالي 12000 سنة. وقبل تناول العصور الجليديّة لا بدّ من القول بأنّ تسوية السّماء يعني أنّ كمّية الأكسجين في الجوّ أصبحت هامّة وهي تعتبر عنصرا فعالا في تآكل الصّخور بالماء الجاري على السّطح وفي تسوية سطح الأرض وهو ما يسمّى دحو بأتمّ ما في الكلمة من معنى.
العصور الجليديّة: المداحي الجليديّة
مرّت الأرض بعديد العصور الجليديّة حيث تغطّت بكاملها بطبقة من الجليد في 3 مرّات: قبل 2.2 مليار سنة، ثمّ قبل حوالي 800 مليون سنة، ثمّ قبل حوالي 670 مليون سنة. وقد عرفت الأرض خلال الأربعين مليون سنة الماضية «تغيّرا مناخيّا كبيرا تمثّل في تبريد شامل حول جزيرة «جرينلاند» والقطب الجنوبي من أراض مغطّاة بالنّباتات وذات مناخ معتدل الى أغطية جليديّة دائمة بلغت ذروتها في تشكّل الجليديّات التي غطّت أمريكا الشّماليّة وأوروبا خلال المليوني سنة الماضية» («دور التحات في تشكل الجبال» -م.ع.  سبتمبر 1997 – المجلد 13). لقد خيّم آخر عصر جليدي على الأرض في المليوني سنة الأخيرة وانتهى قبل حوالي 12000 سنة. كان هناك عشرات المراحل الجليديّة خلال تلك الحقبة وقد بلغت مرحلة الجليد الأخيرة ذروتها منذ000 18 الى   000 20 سنة.
 فما علاقة الجليد بالدّحو؟ لقد كان للدّورات المتعاقبة من تكدّس الجليد على مساحات ضخمة ثمّ انحسارها وتراجعها أثرا فعّالا في دحو الأرض. تسمح نهاية التّجلّد بسبب تأثير الدّفيئة بالاستئناف الهائل لتآكل الصّخور وإزالة التّضاريس. فعندما تتحرّك طبقات الجليد الكثيفة والثّقيلة التي تراكمت خلال عشرات آلاف السّنين منحدرة من أعلى الى أسفل في شكل وديان جليديّة، فإنّها تقشّر وجه الأرض وتجرف مواد التّقشير بعيدا عن موضعها الأصلي وتصقل القاعدة الصّخريّة، وهي بذلك تفعل فعل المدحاة، تلك الخشبة التي يقول عنها الخليل ابن أحمد في معجم العين أنّها عندما «تَمُرُّ عَلَى وَجْهِ الأَرض لَا تأْتي عَلَى شَيْءٍ إِلَّا اجْتَحَفَتْه» (انظر الدّحو لغة في الجزء 2). لقد وجد العلماء الصّخور التي تنتج عن دحو وجه الأرض بعيدا عن أماكنها الأصليّة وذلك أقوى دليل على فعل الدّحو الجبّار الذي تقوم به الوديان الجليديّة. 
وكمثال، يمكن أن نعرض بعضا من نتائج دراسة علميّة أنجزت حول آخر عصر جليدي وتأثيره على أمريكا الشّمالية؛ فخلال هذا العصر تغطّت مساحات واسعة من أمريكا الشّمالية بالجليد حيث وصل سمكه الى 3 كم. وتقول الدّراسة أنّ تراجع الجليد أدّى الى نحت تضاريس المناظر الطّبيعية بالدّحو طبعا. فعندما تصدّعت طبقات الجليد شقّت الأراضي وغمرتها بالمياه العذبة، ونحتت في حركتها العديد من العجائب الجيولوجيّة مثل البحيرات العظمى ونهر المسيسيبي وشلالات نياغارا. وإضافة لذلك، أنتج تراجع الجليد كمّيات ضخمة من المياه الصّالحة للشّراب وترك أرضًا خصبة جدًا. 
إنّ العلاقة واضحة بين تمدّد الجليد وانحساره على دورات متعدّدة وما ينتج عنه من دحو وتوفير للماء والمرعى. فتفجير الأنهار والعيون يعكس تكوّن خزّانات هائلة من المياه العذبة في صخور الأرض. والطّبقات الضّخمة من الجليد التي تراجعت كان لها الفضل في ذلك. وتشكّل الأنهار الجليديّة 70 بالمائة من المياه العذبة في العالم. كما أنّ وفرة المرعى يعكس توفّر الأراضي الخصبة وهو ما تبيّنه الدّراسات المتعلّقة بآثار انحسار الجليد في الشّمال الأمريكي.
الدّحو وإرساء الجبال 
وقبل أن نختم هذا المقال لا بدّ من ملاحظة ذكر إرساء الجبال مباشرة بعد ذكر دحو الأرض في الآية: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} فما الدّلالة المحتملة؟ إنّ عمليّة الدّحو تعمل بصورة عكسيّة لعمليّات نصب الجبال، فقد رأينا أنّ الدّحو يتسلّط على تضاريس الأرض، فيفكّك صخورها ويلقي بها في المنخفضات أي يمحها. ولكيلا يفهم أنّ الدّحو الذي حدث بعد تسوية السّماء قد جاء على كلّ التّضاريس وسوّى وجه الأرض بالكامل، فيقال إنّ ذلك يتناقض مع الواقع المرئي، فقد ذكر تعالى أنّه مع الدّحو وإخراج الماء والمرعى فقد أرسى أيضا الجبال. والجبال المعنيّة هي المنتصبة في يومنا هذا. 
إنّ غالبيّة السّلاسل الجبليّة الحديثة جيولوجيًا تنتمي إمّا لحزام النّار حول المحيط الهادئ أو لحزام جبال الألب. فسلسلة جبال الأنديز الواقعة في أمريكا الجنوبيّة مثلا، تنتمي إلى الحزام الأول وسلسلة جبال الهيمالايا التي تتضمن أعلى قمم جبليّة في العالم، بما في ذلك قمّة جبل إفرست، حيث تبلغ 8,848 متر فهي من الحزام الثّاني. كلّ هذه الجبال نصبت خلال الأربعين مليون سنة الأخيرة، في حين أنّ تسوية السّماء تعود الى عشرات الملايين من السّنين.