مسائل اجتماعية

بقلم
أحمد الإدريسي
الذّمة المالية للمرأة ومساهمتها في استقلال تصرّفها المالي (2/2)
 المحور الثالث: مساهمة الزوجةُ الموظفةُ في بناء بيت الزوجية وتأثيثه، ونفقات البيت؛
أولا: إذا ساهمت الزوجةُ الموظفةُ في بناء بيت الزوجية وتأثيثه.
قد تُسهم الزّوجة الموظّفة في بناء بيت الزّوجيّة وتأثيثه ونحو ذلك، فلا بدّ لها من توثيق ذلك، قال عزّ وجل: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوه»ثم قال تعالى في نفس الآية: «وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا»(1) . قال الإمام مالك: «وإن أنفقت عليه في ذاته وهو حاضرٌ مليءٌ أو معدمٌ، فلها اتباعه به إلا أن يُرى أن ذلك بمعنى الصلة»(2) .
وإذا قدَّمت الزّوجةُ لزوجها المال على سبيل القرض، فلها أن تسترده. وإذا أعطت الزّوجةُ شيئاً من مالها لزوجها على سبيل الهبة، فلا يجوز لها المطالبةُ به، لأنه لا يجوز الرّجوع في الهبة بعد القبض، فعن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن النبي ﷺ قال: «العائد في هبته كالعائد في قيئه»(3). 
وقد أصدر مجمع الفقه الإسلامي الدّولي المنبثق عن منظمة التّعاون الإسلامي قراراً ينظّم الذّمة الماليّة بين الزّوجين، ورد فيه: أولاً: انفصال الذّمة الماليّة بين الزوجين. فللزّوجة الأهليّة الكاملة والذّمّة الماليّة المستقلّة التّامة، ولها الحقّ المطلق في إطار أحكام الشّرع ممّا تكسبه من عملها، ولها ثروتها الخاصّة، ولها حقّ التملّك وحقّ التّصرف بما تملك ولا سلطان للزّوج على مالها، ولا تحتاج لإذن الزّوج في التّملّك والتّصرف بمالها.
وفي الحالات التي تُسهم فيها الزّوجةُ الموظّفةُ في بناء بيت الزّوجيّة وتأثيثه ونحو ذلك دون أن توثق مساهمتَها لإثبات حقّها. وهنا يجب استحضار أخلاق الصّدق والوفاء والمودّة؛ يجب أن يكون كلّ ذلك حاضرا سلوكا وممارسة عن كلّ فرد من أفراد الأسرة.
ثانيا: مساهمة الزوجةُ الموظفةُ في نفقات البيت.
ليس من واجب الزّوجة شرعاً المشاركة في النّفقات الواجبة على الزّوج ابتداءً، ولا يجوز إلزامها بذلك. ويبقى تطوّع الزّوجة بالمشاركة في نفقات الأسرة أمرا مندوبا لما يترتّب عليه من تحقيق معنى التّعاون والتّآلف والمحبّة بين الزّوجين .
وإذا ترتّب على خروج الزّوجة للعمل نفقاتٌ إضافيّةٌ تخصّها، وجب الاتفاق على تدبيرها، لا أن تتحمّل تلك النّفقات لوحدها. ويمكن أيضا أن يتمَّ تفاهمُ الزّوجين واتفاقهما الرّضائي على مصير الرّاتب أو الأجر الذي تكسبه الزّوجة؛ كلّ ذلك ونحن نستحضر مبدأ المودّة بين الزّوجين. 
ثالثا: تغير الحالة المالية للأسرة، ومعالجة سوء التدبير الذي يصدر من أحد الزوجين.
الأصل حسن التّخطيط والتّدبير الجيّد للنّفقات، وألا ّيلجأ الزّوجان إلى الاقتراض، وأن يبحثا عن بدائل أخرى ممكنة تغنيهما عن اللّجوء إلى الاقتراض. ولا ينبغي لهما الاقتراض إذا كانت قيمة القرض تعادل الاحتياجات أم تزيد عن الحاجة. والمؤسف أنّ بعض الأسر التي تجد نفسها أمام عجز مالي في تدبير أمورها الحياتيّة غالبا ما تلجأ إلى الاقتراض من الأهل أو الأصحاب أو من المؤسّسات البنكيّة، وقد يكون ذلك بسبب سوء التّخطيط. وهذا يسبب للزّوج اضطرابا في معاملاته، فعن أمّنا عائشة رضي الله عنها، أنّها قالت: «كَانَ رَسُولُ اَللهِ ﷺَ يَدْعُو فِي اَلصَّلاَةِ؛ «اللّهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم»(4)، فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم (5)، فقال: «إِنَّ اَلرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ  حَدَّثَ فَكَذِبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ» (6).
وإن قُدر وحصل، يجب عليهما التّخطيط والإدارة الجيّدة لهذه القروض، ومن ذلك:
-1 أن تعرف بوضوح الغرض من هذا القرض أهو ترفي أم اجتماعي؟ ضروري مستعجل أو قابل للتّأجيل؟
-2 أن تدرس الأسرة مدى حاجتها للاقتراض وقدرتها على التّسديد في المستقبل وأثر الأقساط على موارد الأسرة المحدودة والتزامات أفرادها.
-3 هل مدّة السّداد مناسبة، لأنّه كلّما زادت المدّة ارتفعت التّكاليف.
وقد تمرّ الأسرة في أزمات ماليّة وخاصّة إذا كان لديها أطفال، وهناك أمور لا تستطيع الأسرة التّهرّب منها كالمناسبات الاجتماعيّة التي تظهر في كلّ شهر وتفاجئ الأسرة. لذلك لا بدّ من التّخطيط، وحسن إدارة ميزانيّة العائلة مع المرونة والتّحسب للظّروف المفاجئة، وكلّ ذلك يسهم أيضا في تحقيق الاستقرار المادّي، والاستقرار الأسري.
ومن المفيد أن يجلس أفراد العائلة للتّحدث بخصوص الميزانيّة، وتسجيل بعض الحسابات، حتّى يتعلم الأولاد أنّ الوالدين يخطّطان للأسرة ويقدّران المصاريف، فليس كلّ ما يشتهيه يشتريه، إلّا إذا سمحت الميزانيّة بهذا، كما أنّهم يستفيدون من ذلك في التّخطيط لحياتهم المستقبليّة وإدارتها. ومن الضروري التفريق عند اتخاذ القرارات بشأن الإنفاق التّفريق بين الاقتصاد والبخل. لكن قد تتقلب الحالة الماليّة داخل الأسرة زيادة أو ندرة، وقد يؤدي ذلك إلى اختلافات بين الزّوجين حول أوجه الإنفاق ونمط الحياة الواجب اتباعه، ومع ذلك ليس للزّوج أن يجبر الزّوجة على العمل خارج البيت. ثمّ إنّ الأزمات الماليّة التي تتعرّض لها الأسرة تكشف مدى متانة العلاقة الأسريّة. وممّا يُنصح به في هذا الباب:
-1 إذا كان للأسرة إيرادات إضافيّة تزيد عن الحاجة، فمن المهمّ التّفكير في تكوين فائض يمكن استخدامه إمّا في الحالات الطّارئة أو استثمار هذا الفائض لتوليد موارد جديدة تمكن من مواجهة أعباء مستقبليّة أو لتغطية مصاريف تعليم الأولاد على المدى البعيد.
-2 من المهمّ للزّوجين التّفكير في تنمية الموارد الماليّة لتقليل العجز من جهة وإشباع مزيد من حاجات أفراد الأسرة.
-3 ضرورة التّفكير في إيجاد بدائل لبعض بنود المصروفات، خاصّة في الظّروف الصّعبة التي تكون فيها الموارد محدودة، وكمثال على ذلك أخذ قرار بشأن ما إذا كان من الضّروري شراء سيارة أم استخدام النّقل العام، تغيير الأثاث سنويّا أو الاقتصار على تصليحه وإعادة تنجيده.
رابعا: مراعاة خصوصيات المرأة في حال حدوث أخطاء مالية. 
الأصل أن تراعي المرأة ، وهي تتولّى مسؤوليّة تدبير المنزل من تخطيط وتنظيم نفقات البيت المطلوبة، التّوسط  والاعتدال في الإنفاق، دون إسراف أو تقتير؛ لأنّ الإسراف مفسدة للنّفس والمال والمجتمع، كما قال عزّ وجلّ: «وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا»(7)، وهي مأجورة على عملها هذا، قال النّبي ﷺ: «إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة، كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب، وللخازن مثل ذلك لا ينقص بعضهم أجر بعضٍ شيئاً»(8). ويجب أن تتجنّب كلّ إنفاق في غير منفعة ماديّة أو معنويّة. فإذا كانت تراعي كلّ ذلك، فلا ينبغي أن يضيّق عليها الزّوج، ولا أن يحاسبها على كلّ صغيرة وكبيرة، مراعاة للمودّة المطلوبة بين الزّوجين، وحفظا لاستقرار الأسرة.
خاتمة:
للمرأة الأهليّة الكاملة والذّمة الماليّة المستقلّة التّامّة، ممّا يؤهّلها للتّمتع بالذّمة الماليّة المستقلّة والتي تتمكّن من خلالها في التّصرف بأموالها وفقاً لأوجه المعاملات المشروعة دون اضطرارها لوصاية من أيّ رجل. ولها الحقّ المطلق في التّصرف في أموالها ما لم يوجد مانع شرعيّ، ولا سلطان لأحد على مالها، إلاّ ما كان من باب التّياسر والتّطاوع والمعاشرة بالحسنى، وهذا هو مذهب الجمهور، والرّاجح عند الفقهاء أنّه يجوز للمتزوّجة مطلق التّصرف في أموالها، لأنّ المرأة من أهل التّصرّف ولا حقّ لزوجها في مالها، ولهم أدلّتهم النّقليّة والعقليّة. ومن جهة أخرى تستحق الزّوجة النّفقة الكاملة المقرّرة بالمعروف، وبحسب سَعَة الزّوج، وبما يتناسب مع الأعراف الصّحيحة والتّقاليد الاجتماعيّة المقبولة شرعاً، ولا تسقط هذه النّفقة إلاّ بالنّشوز.
وعموما، فإنّ الموضوع يحتاج إلى رؤية شاملة ونظرة متكاملة؛ فالنّساء شقائق الرّجال في الأحكام إلاّ ما يخصّ أنوثتها، لذا ينبغي أن تراعي الواقع والظّروف والعادات –التي لا تتعارض مع الشّرع- وأن نَـزِن الأمور بميزان المصلحة والمفسدة، وأن تلتزم الأمّة بروح النّصوص الشّرعيّة ومقاصد الشّرع الحكيم.
وينبغي أن تستوعب الأمّة نصوص الشّريعة الإسلاميّة ومقاصدها، وتتعامل مع موضوع أهليّة المرأة، وموضوع عمل المرأة تعاملا شموليّا ووسطيّا، بحيث تستفيد من طاقات كلّ أفرادها ذكورا وإناثـا، ولا تفقد المرأة وظيفتها الأساسيّة وتحفظ عرضها ولا تحيد عن طبيعة الأمومة والحنان، مع التزامها –كما الرّجل- بالعفّة والحشمة والوقار.
الهوامش
(1) سورة البقرة - الآية 282.
(2)  التهذيب في اختصار المدونة. 1/334.
(3)  رواه البخاري ومسلم.
(4)  المغرم: هو الدَّين. 
(5)  غرم أي؛ أكثر من الديون. 
(6)  رواه الإمام البخاري، كتاب: الأذان، باب: الدعاء قبل السلام، حديث رقم: 832. والإمام مسلم، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: ما يستعاذ منه في الصلاة، حديث رقم: 587.
(7) سورة الفرقان - الآية 67.
(8)  حديث متفق عليه.