في الصميم

بقلم
النوري بريّك
كورونا من جديد ...الدرس لم يكتمل بعد ..إنّه يصرّ علينا أن نتعلّم أكثر..
 لمّا أراد فيروس «كورونا» أن يغيب ، غاب ، ولمّا أراد أن يعود ، عاد، ..ألا  هل من معترض ؟؟..ههه ، أنّه التّحدّي من أصغر مخلوقات الأرض لمن صعدوا الى القمر، لمن  صنعوا كلّ أنواع الفتك، لمن بنوا ناطحات السحاب ..ههه ، لمن ملكوا آبار البترول ونشروا مليارات الأوراق الماليّة على أجساد الرّاقصات.
كأنّي بهذا الفيروس الصّغير يريد شيئا، شيئا دقيقا، ترى هل هو كيف نُشفى منه؟ أظنّه أعمق ، أظنّه لا بدّ أن نعيد فهمنا لقوانين الكون والحياة، وبمعنى أدق : تذكيرنا أنّ نظام الكون لا يحكمه البشر وإن كانوا مشاركين فيه وإنّما يحكمه ربّ البشر ،يحكمه هو وحده؛
كأنّي بعودته، يخاطب «كورونا» سكّان الأرض : هناك مفاهيم مضيّعة لابدّ أن تعود ، لابدّ أن تدخل في حساباتكم بقوّة وأنتم تمرحون وتمشون في مناكب الأرض، وأنتم تُنتجون الغذاء وتصنعون الدّواء وتبتكرون السّلاح، تقسّمون الجغرافيا وتنسجون السّياسة وتوزّعون الرّضا أو السّخط على من تحبّون لا على من يستحق. مفاهيم ضرورية ليعتدل مناخ الطّقس، بل ومناخ القلوب، ضروريّة لمعادلة السّلم والحروب، أكيدة لإخماد نار البطْر، وقهْـر الظلم، واستبداد الحيْف...بل أساسيّة لترضية غضبة الأرض والسّماء، فتمسك علينا جنودها المتنوّعة التي تهاجمنا كلّ مرّة بسلاح..
مفاهيم أساسها : أنّ اللّه هو المدبّر الأوّل والوحيد لمسار الكون، ومنها أنّ ما يصيب النّاس هو بما كسبت أيدي النّاس « وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ»(1) وأنّ المدنيّة المَقُودَةَ بالإيمان هي شرط الخير والأمن والنّماء والسّعادة «الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ» (2).  
هذه العودة بلاغ الى كلّ العالم : التّدين الخرافي الذي يتّكئ في عجزه على القضاء والقدر، ويذكّرنا في ذلك بعبيد «الآلهة» يعلّقون كلّ جهلهم وتخلّفهم بإرادة خفيّة ،،ثمّ التمدّن الأخرق المكتفي بالعلم المادّي العابد للعقل الذي يدّعي«قهْر» الطّبيعة بالتّقنيات .. «كورونا» عاد ليعلّمنا درس التّوازن والإحتكام الى أعظم قانون يتحقّق به الصّلاح : إنّه العدل والقسط في الفكر والإعتقاد وكذلك في الفعل والعمل ..سكّان العالم في أشدّ الحاجة لتخصيص اعتبار محترم لقانون الغيب في حياتهم، كل حياتهم..أرى هذا درسا عاد من أجله ذلك الفيروس المجهري المهين في الحجم والثّقيل في الأثر...
لقد بدأ الإنسان القديم عاجزا أمام ثورة الطّبيعة، ففسّرها بغضب الآلهة، ثمّ وبعد مرحلة التّديّن، كثيرا ما علّق البشر عجزهم أمام الكوارث على مشجب القضاء والقدر، وهذا الغلوّ في الخرافة أنتج غلوّا  في العلم المادّي حيث أسقط الإنسان الغربي كلّ قوانين الغيب، فأعلن موت الدين وقومة العقل وأنّ الطبيعة هي عدوّ الانسان عليه قهرها بالتقنيات والمبتكرات حتى يتحكم فيها كما أراد ولهذا لادخل للأخلاق في العلم وإنما هي مصلحة الدّنيا وحيزها الآن حيث لاغد.. 
  عاد إذا «كورونا» ليذكّرنا أن الإنتباه الى البعد الغيبي ضرورة حتّى تتهذّب النّفس البشريّة من ذئبيّتها، وحرصها على الإفتراس، ويعود صاحبها الى الحقيقة المضيّعة : أنّ هذا الكون بكلّ أحداثه له ربّ حكيم يديره برحمة ولطف وحكمة، وعليه من واجب إنسان العصر أن يكون أكثر إنصاتا لمنطق التّوازن العادل الذي يدعو اليه التّدين الرّشيد،  وعلى نخبنا الذين يدعون الى المدنيّة أن يعلموا أنّه لا مدنيّة حقيقيّة الاّ باحترام قوانين الغيب وإنّهم لن يشتمّوا ريح السّعادة الحقّ إلاّ على قدر إرضاء اللّه المتحكّم في كلّ شيء، فلا جدوى من مناجزة الحقّ.. «كورونا» وأخواته لكم بالمرصاد حتّى تثوبوا أوتُهلكوا دونها ويأتي اللّه بآخرين خير منكم..
الهوامش
(1) سورة الشورى  - الآية 30
 (2) سورة الأنعام  - الآية 82