الافتتاحية

بقلم
فيصل العش
افتتاحيّة العدد 158
 نعيش هذه الايام فترة صعبة، اجتمعت فيها علينا مصائب كثيرة، من تخلّف اقتصادي، وتفكّك اجتماعي، وجهل وتبعيّة، ومن كيان غاصب ينخر في جسد الأمّة، وحكّام لا يمثّلون إلاّ أنفسهم وحاشيتهم، يهرولون إليه مطبّعين، ومن عملاء من بني جلدتنا يعملون ليلا نهارا على وأد حلم الثّورة، ومنع كلّ محاولةٍ للخروج من جحر الاستبداد إلى عالم الدّيمقراطيّة  والعيش بكرامة وحرّية، بالإضافة إلى فيروس «الكورونا» القاتل الذي أبى إلاّ مشاركة  هذه المصائب في خنقنا وتدميرنا والقضاء علينا. 
في هذه اللّحظات الصعبة، اخترت أن أوجّه هذه الكلمات إلى كلّ من قضّى جزءًا كبيرا من عمره - بما فيه أفضل سنوات حياته - وهو يناضل من أجل فكرة أو مشروع يساهم من خلاله في كسر طوق الجهل والفقر والتخلّف الذي يحيط به من كلّ جانب. أوجّه كلماتي إلى أولئك المرابطين في الحقل الفكري والثّقافي، أؤلئك الذين آمنوا بأنّ الثقافة هي ميدان المعركة، وأنّ الفكرة هي أساس التّغيير وأنّ القلم والكلمة هما الرّصاصتان اللّتان بهما يُقضى على الجهل والتخلّف، وأنّه لا أمل في نهضة من دون كتاب ومسرحيّة وشريط وأغنية وإعلام محترف هادف، الذين آمنوا بأنّ البداية تكون بإصلاح الإنسان، وتنقية  ثقافته من كلّ ما يكبّل إنتاجه ويعيق إبداعه. فإذا صلح الإنسان وأصبح حرّا وواعيا ومسؤولا، استطاع أن يلتمس طريقا أفضل للحياة ويسير بخطىً ثابتة نحو  النّمو والازدهار. 
عندما يتوقف أحد هؤلاء  برهة من الزّمن، ليقيّم ما أنجز  من قول وعمل، وينظر من حوله، يكتشف أنّه كمن كان يحرث في البحر، فلا نبات ولا ثمار، وإنّما دمار على دمار. يكتشف أنّ محاولاته لم تنتج سوى السّراب، وأنّ كتاباته، وأقواله، وأعماله، لم تغيّر في الواقع شيئا، كمن يصبّ الدّواء في عين عوراء، يريد شفاءها.  
آمن بأن من واجبه أن يتمّم مكارم الأخلاق، وينشرها بين النّاس، فيكتشف أنّهم قد ولّوا وجوههم عنها، فلم يعد للأخلاق مكان في قاموس حياتهم . 
آمن بأنّ حبّ النّاس من حبّ الله، وأنّ انتشار المحبّة بينهم من شأنه أن يزرع فيهم الطّمأنينة والأمان ويعطي للحياة معنى. فدعى إلى نبذ الأنانية ونشر ثقافة التعاون، فإذا بالنّتيجة عكسيّة، إذ طغت الأنانيّة على النّاس وانتشر الحقد والكراهيّة بينهم، فتخاصموا وتقاتلوا حتّى أصبحت الحرب بين أبناء الوطن الواحد والدّين الواحد خبزا يوميّا، وغدا القتل والدّمار عادة، فلم تعد صور الموتى وأشلاء الضحايا تحرّك في النّاس ساكنا، وكأن ما يحدث أمر طبيعي.
سعى إلى نشر ثقافة العمل وتقديسه ونبذ الكسل وتدنيسه، فخاب سعيه، إذ قلّ عزم النّاس على العمل، وغاب الإيمان بقداسته ولم يعد الطريق لكسب الثّروة والنّماء، فقد تعدّدت طرق جني المال ولايهمّ إن كانت على حساب الغير أو من دون جهد أوعمل . 
حارب «التبعيّة» بجميع أشكالها، فدعى الناس إلى التمسّك بهويّتهم والمحافظة على سيادتهم، فلم يجد لهم عزما. سار أغلب النّاس كما يسير القطيع في اتّجاه عولمة مغشوشة تكرّس النّمطيّة و تعلي من قيمة السّطحي والعابر على حساب ما ينفع النّاس ويمكث في الأرض.
ذكّر الناس بفلسطين، وتاريخها، وبالمسجد الأقصى وقدسيته، مبيّنا أنّها البوصلة وأنّها قلب المعركة مع العدوّ؛ دعى النّاس إلى التمسّك بالقدس لأنّها عروس عروبتهم، ولكن لا حياة لمن تنادي، فقد باع حكّامهم قضيّتها وأدخلوا كلّ زناة اللّيل إلى حجرتها وبقوا يسترقون السّمع لفضّ بكارتها. لم تعد فلسطين من أولوياتهم، فقد هرول أغلبهم إلى المغتصب يرجون التّطبيع .
ليس أصعب من أن يشعر هذا المثقّف بالفشل أو استحالة نجاحه، هو ومن كان على شاكلته، في تحقيق ما يصبون إليه من أهداف. وليس أمرّ من الإحساس بأنّ أمل التّغيير والإصلاح بات ضئيلا. إنّه أمر يدفع إلى الاستسلام دفعا ويصيب العزيمة بالوهن . لهذا رفع  الكثيرون من هؤلاء الرّاية البيضاء وانسحبوا من السّاحة في صمت وألم، ليشتغلوا إمّا بأمور دنياهم كما يشتغل النّاس، أو يعتكفون في الزّوايا والمساجد راغبين في الخلاص الفردي مادام الخلاص الجماعي أصبح أمرا محالا.
أنا لا أختلف كثيرا عن هؤلاء، ولكنّني كلّما أخذ اليأس يدبّ في نفسي تذكّرت قوله تعالى: «وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ»؛ المسألة مرتبطة بالإيمان بما نحمل من أفكار وبما نفعل، وإذا يئسنا من الحصول على ثمرة عملنا؛ فلا يجب أن نترك العمل، عسى أن تنفع ثمرته غيرنا، فلا يقتصر همّنا على تغيير أحوال من حولنا، ولكن نعمل من أجلهم ومن أجل من يأتي من بعدهم، فقد يأتي من أصلابهم من يوقّر أعمالنا ونضالنا، ويحمل المشعل عنّا وينفّذ أفكارنا. وكلما ضاقت بنا السّبل علينا أن نتذكّر أيضا قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا».
فلنغرس بصدق وإخلاص واتقان ما نحن غارسون،  والنّتيجة ... سندع أمرها لله.