في الصميم

بقلم
شيماء الهكار
المعرفة التاريخيّة والعلوم الاجتماعيّة: امتدادات وتقاطعات
 تمهيد:
يعتبر علم التّاريخ فرعا من فروع العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، ومن الطّبيعي أن تكون له علاقة وثيقة بهذه العلوم: كعلم الاجتماع، وعلم الآثار، وعلوم آخرى. الأمر الذي يفرض علينا تناول التّاريخ على اعتباره علما قائما بذاته، تربطه علاقات متشعّبة ببقية العلوم. وقبل الخوض في الحديث عن طبيعة هذه العلاقة لابدّ من الإشارة إلى أنّ علم التّاريخ قد عرف مسارا طويلا وحادّا من التّغييرات، فالتّطورات السّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والفكريّة التي عرفتها أوروبا أواخر القرن 19م، أدّت إلى تغيير مدلول علم التّاريخ وتنويع موضوعاته.
التّاريخ هو: علم دراسة الماضي بأحداثه، وأشخاصه، وظواهره. ممّا يعني أنّ المؤرّخ يدرُس واقعا ولّى وانقضى كما اعتبره ريمون أرون:«واقعا تفصله عنه - أي المؤرخ- مسافة زمنيّة وثقافيّة، واقعا لم يعد له وجود،فما يوجد اليوم وجودا مادّيا فيزيائيّا ينحصر في الآثار والوثائق»(1). والواقع، أنّه بسبب المنهج التّاريخي الوضعي العقلاني الذي اهتم بنشر الوثائق ونقدها وتحليلها؛ تغيّر مفهوم التّاريخ، ودلالته، وأداواته؛ فلم يعد رفاهيّة فكريّة، أو قصصا تروى لأهداف متنوّعة؛ بل أصبحت المعرفة التّاريخيّة مبنيّة على منهج علمي يضاهي ذلك المعتمد في العلوم الدّقيقة، وفي الوقت نفسه فإنّ المؤرّخ احتفظ بمنهجه الخاصّ الذي يُفرض عليه تباعا للموضوع الذي يشتغل عليه، ولاغرابة إذا قلنا إنّ الكتابة التّاريخيّة تعكس بالضّرورة مشاغل شخصيّة المؤرّخ أو الباحث وطموحاتهما، بحيث إنّ نقطة البداية التي ننطلق منها لفحص علم التّاريخ هي وظيفة التّاريخ وواجب المؤرّخ. 
«المؤرخ مفيد في الحياة، إنّه حاجة أساسيّة في المجتمع تسهم في فهم الإشكاليّات العميقة المرتبطة بالحياة» (2). 
من كلام لوسيان فيفر، نستنتج أنّ المعرفة التّاريخيّة باتت بعيدة عن التّاريخ الدّبلوماسي والوقائعي والحدثي، وقريبة من تاريخ  معزّز  ومرتبط بالعلوم الإنسانيّة والإجتماعيّة الأخرى؛ ليدرس المؤرّخ بذلك موضوعات هذه العلوم من وجهة عمله كمؤرّخ محترف للكتابة التّاريخيّة، فإلى أي مدى يمكن القول أنّ علاقة التّاريخ بباقي العلوم تعزّزت بعد بزوغ أفكار المدرسة الحوليّة؟ وما العلوم التي يجب على الباحث في هذا العلم أن يكون ملّما بها؟ وما طبيعة صلتها بعلم التّاريخ؟ وهل استطاع التّاريخ أن يحافظ على كيانه كعلم قائم داخل منظومة باقي العلوم؟
للإجابة عن هذه الأسئلة؛ قسمنا الورقة إلى محورين، الأول:امتدادات المعرفة التّاريخيّة نحو العلوم الإنسانيّة، والثّاني: تقاطعات المعرفة التّاريخيّة في حقل العلوم الاجتماعيّة.
-1 امتدادات المعرفة التّاريخيّة نحو العلوم الإنسانيّة.
بات علم التّاريخ بطبيعة موضوعاته التي عولجت بالدّراسة والتّحقيق  منذ النّصف الأول من القرن الماضي، يستوجب على كاتبه التّسلّح بحمولة معرفيّة يتشرّبها من العلوم الأخرى؛ فكاتب التّاريخ لا يجب أن لا يكون مؤرّخا فحسب، بل دوره يهدف إلى ربط الجسور مع بقيّة هذه العلوم بغية مده بالمعلومات عن الوثائق والظّواهر؛ بهدف استنطاقها، واستخراج الحقيقة النّسبيّة منها. من هنا، شكّلت هذه العلوم- ولا تزال- امتدادا للتّاريخ، ولعمل المؤرّخ بحيث يصعب – إن لم نقل يستحيل-  كتابة نصّ تاريخيّ دون اللّجوء إليها والأخذ منها. وعلى الرّغم من أنّها علوم مساعدة للمؤرّخ فقط، فإنّها تحتفظ باستقلاليتها المنهجيّة والبنيويّة وميادينها البحثيّة الخاصّة، وهذا ما يضاعف عمل المؤرّخ مرّتين .
 انخراط المؤرخ في دراسة موضوعات لم تكن موجودة في قاموس الموضوعات التي وجب الاشتغال عليها؛ فرض عليه -بشكل قطعي- طرق أبواب علوم جديدة بهدف مساعدته للخوض في هذه التّجربة، فقد كانت البداية مع مدرسة الحوليّات  ومع توجّهها الذي حافظ على خصوصيّته لفترة طويلة من الزّمن،أصبحت موضوعات الكتابة التّاريخيّة منفتحة على مجالات جديدة، وباتت العلوم المساعدة من الأدوات الأساسيّة في عمليّة الكتابة التاريخية، لدرجة أنّ الحوليّات وصلت لمرحلة وصفها فرانسوا دوس بدقّة قائلا: لقد نجحت الحوليّات في حشد العلوم الإنسانيّة تحت رايتها»، وأصبح بذلك « الخصم هو دائماً نفسه: التّاريخ المسمّى بالتّاريخ الوضعي»(3). 
 وإذا ما استحضرنا بعض الأمثلة عن العلوم المساعدة للمؤرّخ؛ فإنّنا على وعي بأنّ كلّ هذه العلوم وغيرها، إنّما هي وسيلة يتقصّى من خلالها المؤرّخ الحقيقة التّاريخيّة، ويهدف عبرها إلى تدوين نصّ تاريخي مستند على تنوّع في مادّته المصدريّة، التي تمنحه مصداقيّة وتوازنا علميّا، ومن بين هذه العلوم الإنسانيّة المساعدة، نجد علم دراسة النّقوش «EPIGRAPHIE»،وهو علم يعنى بدراسة المخلّفات المادّية المنقوشة بالكتابة على دعائم صلبة. ويعتبر هذا العلم أحد العلوم المساعدة لعلم التّاريخ، فهو ينبّهنا ويجنّبنا الوقوع في الإسقاطات التّاريخيّة التي قد تقع فيها بوعي أو غير وعي بعض الأعمال الأدبيّة، فمهمّة الإيبغرافي هي فكّ رموز هذه الوثائق المادّية، وتكمن مهمة المؤرخ بالاعتماد على النّتائج؛ لصياغة تاريخ أقرب ما يكون إلى الحقيقة.
ونجد أيضا علم المستندات القديمة «la diplomatique» ، وهو دراسة شكل العقود المكتوبة ومضمونها بغرض نقدها، والحكم على جدّيتها، وتحديد قيمة نصوصها، من خلال استغلال كلّ العناصر من قبل المؤرّخ كاللّغة المستعملة، كما أنّ الأنتروبولوجيا التّاريخيّة تعدّ امتدادا مباشرا لعلم التّاريخ بحيث إنّ كلّ الموضوعات التي تتطرّق إليها تنتمي إلى فروع أخرى من التّاريخ، مثل: تاريخ العادات الغذائيّة، أنواع المساكن، تاريخ إنتشار التقنيات الفلاحيّة، وآليات الاقتصاد الفلاحي، والمعتقدات والثّقافة الفلكلوريّة،...وغيرها. وهي موضوعات يجب التّنبيه أن دراستها بدأت -أوّل الأمر- مع الاهتمام الكبير الذي سلّطه روّاد الحوليّات في مجلّتهم على الظّواهر الاقتصاديّة والاجتماعيّة،وهي مواضيع كانت مهملة قبل ذلك(4)،  ثم نجد علم الأنساب «GENEALOGIE»،والهدف منه هو إجراء دراسات موضوعيّة وشاملة للسّلف والخلف، وعلاقاتهم الأبويّة، وخصائصهم الجسديّة والأخلاقيّة؛ تؤدّي هذه الدّراسة إلى معرفة كاملة للأسر التي ينتمي إليها الفرد، و تفيد كذلك علم الوراثة والتّاريخ الاجتماعي خاصّة؛ حيث يمده بأصول وتطوّرات الأفراد، كما يفيد علم الأنساب في فهم خصال الشّخصيّات التّاريخيّة. ثمّ نجد علم المخطوط الذي يهتمّ بالكتاب، من حيث المضمون والمعاني التي يتضمّنها وأيضا من حيث شكله وبنيته، ودور هذا العلم في إغناء المعرفة التاريخيّة كبير جدا. ومن بين العلوم الاجتماعيّة الأخرى أو الدّلائل المنهجيّة التي لابدّ من ذكرها علم الأماكن دراسة الرّايات والأعلام «VEXILOGIE»، ودراسة الأختام «SIGILLOGRAPHIE»، وعلم الأرشيف وغيرها التي وجب حضورها في عمليّة التّاريخ لأيّة ظاهرة اجتماعيّة كيفما كان حقل انتمائها .
-2 تقاطعات المعرفة التّاريخية في حقل العلوم الاجتماعيّة
على الجانب الأخر، نجد أنّ المؤرّخ أصبح يوظّف قطاعات لا تنتمي بالضّرورة إلى التّاريخ الذي هو تخصّصه، لكنّها تتقاطع معه، ومنها نجد، أولا: الجغرافيا التي ارتبطت بالتّاريخ منذ وقت مبكّر مع حركة الفتوحات الإسلاميّة، ولعلّ المسعودي هو أوّل من جمع بين الجغرافيا والتّاريخ بأسلوب علمي . هناك علاقة وثيقة بين التّاريخ والجغرافيا؛ فالأرض هي المسرح الذي وقعت عليه الحوادث التّاريخيّة، وبدون الأرض لا يمكن أن يقع الحادث. ثانيا: الفلسفة. فهناك علاقة وطيدة بين التّاريخ والفلسفة؛ فالمؤرّخ يحتاج إلى مناهج الفلسفة ونظريّاتها لدراسة الحدث التّاريخي، كما أنّ الفيلسوف يحتاج إلى دراسة الظّواهر الاجتماعيّة في الماضي؛ قصد تتبّع التّطور لوضع منهج يستفاد منه في الحاضر. وكان تأثير الفلسفة واضحا في كتب التّاريخ خاصّة تلك التي تناولت الفرق الدّينيّة ومذاهبها، وفي هذه النّقطة يجدر القول أنّ روّاد الحوليّات وإن كانوا يدعون أنّه:«لا لمنهج تجريدي على الطّريقة الألمانية؛ فأفكار المؤرّخ تستمد من التّاريخ ذاته»(5)، فإنّهم كمارك بلوخ ولوسيان فيفر كانوا حاملين لتصوّر تاريخيّ وفلسفة تاريخيّة (6) .
وبناءً على ذلك، تشعّبت المعرفة التّاريخيّة إلى حقول معرفيّة أخرى، في علاقة تكامل وتقاطع في ما بينها، ولم يعد التّاريخ في خدمة الدّين والمعارك والسّياسة والحاكم وانتصاراته؛ حيث أصبحت كلمة التّاريخ مرادفة لكلّ العلوم الإنسانيّة والاجتماعية، مثل: التّاريخ الاقتصادي، التّاريخ الجغرافي، تاريخ الفنون والآداب، تاريخ الآديان، تاريخ العادات والتّقاليد، تاريخ الأطعمة والأشربة...
هذه إذا، أهمّ العلوم المساعدة لدراسة علم التّاريخ، إذا ما قلنا أنّها تفرض نفسها عليه ولا يستطيع الاشتغال بمعزل عنها. وتبعا لذلك، أصبح المؤرّخ ملزما بالبحث عن المعرفة التّاريخيّة بكلّ الوسائل الممكنة التي يوفّرها له تطوّر عصره. وبالتّالي، وجب عليه أن يكون ملمّا بعديد من العلوم المساعدة. ولعلّ وصف ابن خلدون الذي قدّمه للتّاريخ بالأمس هو ما أصبح مطلوبا، حيث قال «إنّ فنّ التّاريخ محتاج إلى مآخذ ومعارف متنوّعة وحسن نظر وتثبّت يفيضان بصاحبهما إلى الحقّ، وينكبّان به عن المزلاّت والمغالط»(7).
وتلبية لدعوة ابن خلدون، علينا نحن -كطلبة وباحثين- أن نجتهد في تحصيل أكبر قدر من هذه العلوم ومتابعة كلّ جديد حول منهجيّة البحث التّاريخي؛ حتّى نستطيع سبر أغوار مسيرة البحث العلمي التّاريخي بكلّ منهجيّة وعلميّة.
الهوامش
(1)   htpp:/www.ahewr .org/debat/show.art.aspaid-33042www.ahewar.org/debat 
(2)  Lucien Febvre, combats pour l’histoire, in: Lciene febvre vivre l’histoire, p 6
(3) فرانسوا دوس، التاريخ المفتت من الحوليات إلى التاريخ الجديد، ترجمة: محمد الطاهر المنصوري، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2009، ص 93.
(4) نفسه، ص 110.
(5) فرانسوا دوس، مرجع سابق، ص 95.
(6)  نفسه، ص 95.
(7) ابن خلدون، المقدمة، تحقيق:على عبد الواحد وافي القاهرة - 2006، ج.1، ص13