قراءات

بقلم
د. عثمان بوطسان
الهندية جُومبَا لاهيري تعيد كتابة تاريخ كالكوتا غير المعترف به
 تعتبر «جُومْبا لاهيري» واحدة من سيّدات الأدب الهندي الأكثر شهرة،حيث ترجمت أعمالها الى العديد من اللّغات كالفرنسيّة والعربيّة والايطاليّة. كاتبة هنديّة الأصل لأبوين بنغاليين، أمريكيّة الجنسيّة. بعد نيلها لجائزة البوليتزر (عن مجموعتها القصصيّة الصّادرة سنة 1999 بعنوان «ترجمان الأوجاع»)، ونشرها لروايات أخرى كـ «أرض العجائب»،و«الأرض المنخفضة»، قررت خوض مغامرة جديدة والانتقال للعيش في روما من أجل الكتابة بالإيطاليّة. كانت ممارستها للكتابة باللّغة الايطاليّة عفويّة وتلقائيّة، إلّا أنّها تحوّلت فيما بعد إلى ضرورة ملحّة، ووسيلة لتزجي نفسها في عالم جديد وتنغمس فيه. وقد نشرت بعد ذلك كتابا جديدا اختارت له عنوان «بعبارة أخرى» (In altre parole) وهو جناس دقيق، ترجمته إلى الإنجليزية «آنّ غولدستين» محرّرة مجلة النّيويوركر ومترجمة أعمال إيلينا فرانتي.
يتميّز أسلوب «جُومْبَا لاَهيري» باستعمالها للجمل القصيرة والمفاجئة إلى حدّ ما، المليئة بالتّفاصيل الدّقيقة. هناك غرابة خافتة وجذّابة في اختيارها للكلمات اللاّتينيّة سواء في رواياتها المكتوبة بالإنجليزيّة أو الايطاليّة. ما يميّزها عن باقي الكتّاب الهنود، هي الطّريقة التي تعتمدها في بناء الجملة المكثّفة، وخلق نوع من المسافة الباردة بين الكلمات والاشتغال على الايقاع الموسيقي خاصّة في الرّوايات المكتوبة باللّغة الايطاليّة. 
في الواقع، «جُومبَا لاهيري» كاتبة ذكيّة للغاية، بحيث لا يستطيع القارئ التّكهن بمخططاتها السّرديّة. هناك نوع من الرّغبة والغرابة في كتاباتها، تتعدّد الهويّات وتتشتّت كما لو أنّ الكاتبة تحاول إقناع القارئ أنّها غير مكتملة، أنّ هناك شيئا ينقصها دائما. وهذا النّقص يظهر كنوع من المرض الذي تعاني منه شخصيّاتها.
فرواية «المسافات البعيدة» مأساة حديثة مستوحاة من أسطورة الأندروجين، التي تفترض أن كلّ واحد منّا يبحث بشكل دائم عن نصفه المفقود. رواية حول المنفى والهويّة الممزّقة والتي تقدّم دليلاً حيًّا على الموهبة الهائلة لجومبا لاهيري. فبحسب «باراك أوباما» هي: «رواية تختلط فيها المشاعر والتي أعتقد أنّها عالميّة. رواية حول التّطلّع إلى مستقبل أفضل، في مكان آخر، وفي نفس الوقت الشّعور بعدم التّواجد في مكان واحد والحنين إلى الماضي. وبهذا المعنى، فإنّها تحافظ على ارتباط مباشر مع جزء كبير ممّا يشكّل الأدب الأمريكي».
في مرحلة المراهقة، قد يتّخذ المرء أحيانًا مسارًا مختلفًا تمامًا عن مسار إخوانه وأخواته، على الرّغم من القرب الذي يمكن أن يوحّد الأشقاء. بغض النّظر عن الصّلات التي تربطهم، يمكن لمراهقين شقيقين اتباع مسارات معاكسة تمامًا. كان من الممكن أن يكون «سوبهاش» و«عُدَيان» توأمين لأنّ تشابههما المادّي رائع: جسداهما وأصواتهما متشابهة، ولكنّ شخصيّاتهما مختلفة تماما. «سوبهاش» عاقل وحكيم في تصرّفاته ومتحفّظ وجادّ، بينما «عُدَيان» يميل إلى المغامرة والتّمرد. تدور رواية «المسافات البعيدة» إذن، حول قصّة شقيقين هنديين من الطّبقة المتوسّطة، ولدا في كالكوتا في الخمسينيّات، أحدهما حكيم، والآخر متمرّد. كلاهما طالب جيدّ، ولكن بمجرد انتهاء دراستهما، سيصعب عليهما العثور على عمل. بينما يستثمر المتمرد «عُدَيان» في قضيّة الناكساليست (حركة ثوريّة هنديّة)، يقرّر «سوبهاش» المحجوز المغادرة إلى الولايات المتّحدة. وبسبب المسافة البعيدة، يفقد الاتصال بعائلته ببطء حتّى اليوم الذي يتلقّى فيه رسالة تعلمه بوفاة شقيقه، الذي قتلته الشّرطة خارج منزله. يعود «سوبهاش» إلى منزله لحضور الجنازة فيلتقي بغوري، زوجة «عُدَيان» الحامل، التي نبذها والد زوجها الذي عاشت معه منذ زواجها.
يشعر «سوبهاش» بمجموعة من الأحاسيس الغربية (الخجل، الشّعور بالذّنب والشّفقة، دون معرفة السّبب). يعرض على زوجة أخيه الزّواج والسّفر للعيش معه في الولايات المتّحدة، على أن يلتزم بتربية جنينها الذي لم يولد بعد. تقبل «غُوري» طلب «سوبهاش»، لتجد نفسها بين عشيّة وضحاها تعيش في عالم جامعيّ غريب، يسيطر عليها الإحساس بالوحدة، ولكنّها تستغلّ ذلك للاستمتاع بحياتها. بينما تتخلّل ذكرى موت «عُدَيان» حياة النّاجين، تظهر حقيقة الزّوجين. يحاول «سوبهاش» مواساة نفسه من خلال الاهتمام ببيلا الصّغيرة، التي يعتبرها ابنته، في حين أن «غوري»، غير قادرة على عيش دورها كأمّ، تبتعد عن الجوّ العائلي وتنشغل بشكل معمّق في دراسة الفلسفة.
بالرّغم من طول قصّة الأخوين، إلاّ أنّ الرّواية تعيد سرد نصف قرن من التّاريخ الهندي من خلال حياة الشّخصيتين. عندما نتعرف على طفولة الأخوين، نتعرف على دولة شابّة في طور النّمو. نتعرف على الهند ما بعد الاستقلال، ولكن نشوة هذا الانتصار تتلاشى بالفعل في مواجهة حسرة التّقسيم. لا تزال أوصاف كلكوتا مميّزة للغاية تهيمن عليها اللّمسة البريطانيّة. تبيّن لنا «جُومبَا لاهيري»، ما نحتاج إلى معرفته بلمسات صغيرة ودقيقة، من خلال ذكريات الأخوين. ربّما هذه هي عبقريّتها السّرديّة: لا يستغرق الأمر سوى رحلة سرّية مفقودة إلى نادي تولي، من بقايا الإمبراطوريّة البريطانيّة لنكتشف ماضي كالكوتا، والطّريقة التي يواصل بها الماضي التّأثير على الحاضر.
يكتشف القارئ بلدًا ذا وضع سياسي معقّد، مستاء من حركة النّاكساليست والتّوترات الدّينيّة من خلال نظرة مزدوجة: نظرة عديان المتورّطة، ونظرة سوبهاش البعيدة والمحايدة. يعيد القارئ بناء المأساة التي ضربت عائلة ميترا عبر إعادة تشكيل الأحداث في محاولة لكشف اللّغز. فعبقرية جُومبَا لاهيري تظهر أيضا من خلال خياطة العديد من المشاهد المتداخلة التي تمّ سردها من وجهة نظر الشّخصيات الرّئيسيّة. تُشعر الكاتبة القارئ أنّ الشّخصيّات الرّئيسية سوبهاش وغوري قد فاتتهما الحياة، كما لو كانا قد ماتا في نفس وقت وفاة عُديان. تُظهر «جُومبَا لاهيري» بموهبة كبيرة الانقسام بين الولايات المتّحدة والهند، البلدين اللذين يجسّدهما كلّ من الأخوين، والطّريقة التي يمكن للأفراد من خلالها محاولة إعادة بناء أنفسهم بعد الحداد. إنّها حكاية طموحة للغاية، وهي عبارة عن لوحة جداريّة سياسيّة اجتماعيّة واسعة ورواية بين أجيال تمتد لعدّة عقود.
بذكاء كبير، فإنّ رواية «لاهيري» تندرج ضمن النّصوص التي تتناول الجانب المظلم من استقلال الهند في كالكوتا - هذا الجانب المظلم الذي يجد القليل، إن وجد، مكانًا في التّاريخ الوطني الرّسمي - كلّ شيء من خلال إعادة النّظر إلى حدّ كبير في الرّواية «الكلاسيكيّة» للهجرة العابرة للحدود، حيث يتمّ الاحتفال بأمريكا بشكل عام كضمان لتجديد الهويّة. كما أنّ المواضيع الكثيرة للاندماج والاستيعاب الثّقافي غائبة بشكل ملحوظ، ليحلّ محلها سؤال عام حول «الحياة الآخرة» للتّاريخ الذي لا يمكن التّعبير عنه، والطّريقة التي انهار بها الماضي. يمكن القول أنّ هذه الرّواية تحاول من خلال الإيحاء بأنّه بعيدًا عن الولاءات السّياسيّة والمجتمعيّة، فإنّ الذّاكرة المحظورة للقمع الدّموي للدّولة الهنديّة ضدّ النّاكساليين، ممزوجة بذاكرة « الجانب المظلم»من استقلال بنغلاديش (الذي جاء لإيقاظ شبح صدمة التّقسيم لعام 1947)، لم يتوقف أبدًا عن مطاردة سكّان كلكوتا، الشّهود المباشرين أو غير المباشرين للعنف الذي لم يتمّ الاعتراف به عبر إحياء ذكرى وطنيّة.
تعتمد رواية «المسافات البعيدة» على الجوانب المتعدّدة للتّاريخ البنغالي الإقليمي الغارق لعقود حول الاستقلال في صمت يصمّ الآذان. إنّه هذا الصّمت الذي حمله سوبهاش، الأخ الأكبر في أمتعته إلى الولايات المتّحدة رغم معارضة والديه. فعندما عاد سوبهاش إلى كلكوتا عام 1971 بسبب وفاة شقيقه الأصغر، لم يجرؤ والداه على قول ما رأياه من شرفة المنزل: إعدام عُديان من قبل القوّات شبه العسكريّة، واختفاء جسده في شاحنة مدرّعة. هو نفس الصّمت الذي سيعيشه سوبهاش، عندما يقرّر الزّواج من غوري ليتمكّن من السّفر معها الى الولايات المتّحدة وبالتّالي تجنّب التّرمّل المكافئ في الهند للموت الاجتماعي. إنّه نفس الصّمت الذي يديم للجيل القادم، على الأراضي الأمريكيّة، عندما تظلّ بيلا، ابنة عديان وغوري جاهلة حتّى تصبح بدورها أُمًّا. نفس الصّمت الذي يحوم حول هويّة والده البيولوجي والظّروف المأساويّة لميلاده. إنّ هذا الصّمت وهذه الأجزاء من التّاريخ تخلق مسافة لا يمكن التّغلّب عليها بين سوبهاش ووالديه، سوبهاش وغوري، وفيما بعد، بيلا ووالدتها، اللتين يبدو أنّهما استقرّتا في طبقات من «الأراضي المنخفضة» من حيّ طفولة الشّقيقين (Tollygunge)، كما لو كان هذا الفيضان سيصبح الشّاهد الوحيد والوعاء الوحيد، لذاكرة إقليميّة مستحيلة وبصمة قاتلة عبر الأجيال.
هناك الكثير ممّا يمكن قوله عن الطّريقة التي تعيد فيها لاهيري النّظر في موضوع المضاعفة من خلال العلاقة بين الأخوين المتنافسين والمتواطئين المولودين قبل سنوات قليلة من عام 1947. سأكتفي هنا بإبداء بعض الملاحظات حول الطّريقة التي يبدو بها هذان الأخوان «مقيّدين» بالتّاريخ، وهنا يمكن أن نستخدم تعبيرا يحتفظ به سلمان رشدي لسليم سيناء، الشّخصيّة الرئيسيّة «لأطفال منتصف اللّيل» المولود في منتصف ليل 15 أغسطس عام 1947، في تزامن مثالي مع ولادة الأمّة الهنديّة. بالنّسبة للاهيري، فإنّ الاقتراح القائل بأنّ مصير الأخوين هو الاندماج في التاريخ (وحتّى عام 1947) ليس أقلّ قوّة من مصير رشدي، حتّى لو بدا بالتّأكيد أقلّ ميمونًا. في الواقع، في 15 أغسطس 1947، بينما كانت احتفالات الاستقلال على قدم وساق، كان سوبهاش وعديان - وهما أخوين يبلغ الأول منهما عامين والآخر أربعة- في قبضة حمّى شديدة، معلّقين بين الحياة والموت. تمّ بناء هذه المرحلة من حياتهما بأثر رجعي على أنّها «الذّكرى الأولى» لسوبهاش أثناء وجوده بالفعل في الولايات المتّحدة - ذكرى يسيطر عليها قلق الوالدين، والتي ستظلّ موجودة في ذاكرته لعقود، حيث لا يستطيع الأخوان البقاء على قيد الحياة بسبب الحمّى - وهكذا يصبح الاستقلال مضاعفًا بمرض لا يتوقّف أبدًا عن نشر ظلاله المهدّدة. إضافة إلى ذلك، تتكرّر هذه المعارضة بين القصّة والتّاريخ الوطني والإقليمي في عام 1971، عام استقلال بنغلاديش، عندما فشل عديان مرّة أخرى بسبب حمّى شديدة، في الهروب من القوّات شبه العسكريّة للحكومة المركزيّة من خلال الاختباء في غابات الأراضي المنخفضة. يبدو أنّ حمّى عُدَيان وإعدامه من أعراض المصالحة المستحيلة بين الهويّة الإقليميّة والوطنيّة.
أخيرًا، من خلال منفى سوبهاش، وراديكاليّة عُدَيان السّياسيّة، يبدو أنّ شقيقَي لاهيري يجسّدان وجهين من نفس الاستحالة؛ كونهما بنغاليين وهنود في كلكوتا حيث يتمّ التّصدي بعنف للقصص (الإقليميّة والوطنيّة والإمبرياليّة)، ولكن بعد عام 1947 لن يكون هناك نسخة واحدة فقط من الحقائق، كما لو كان يجب على القصّة العظيمة للاستعمار الهندي بعد الاستقلال والتّحرير الوطني أن تحجب كلّ الحقائق الأخرى.