شخصيات الإصلاح

بقلم
التحرير الإصلاح
لويس جارديه
  يعتبر لويس جارديه Louis Gardet من أبرز فلاسفة أوروبا الذين درسوا الفكر الإسلامي والحضارة الإسلاميّة دراسة واعية ومتعمّقة. ولد لويس بمدينة تولوز في 15 أوت 1904. ونشأ  في أسرة كاثوليكيّة محافظة، وكان منذ حداثته شغوفًا بمعرفة مبادئ الدّيانات السّماوية. وكان لديه هاجس نفسيّ يؤرِّقه، هو تلك الألغاز والأسرار التي يراها في ديانته؛ ممّا دفعه إلى البحث عن أصول الأديان الشّرقيّة من بوذيّة وهندوسيّة وغيرها؛ لعلّه يصل إلى الحقيقة.
عرف هذا الفيلسوف بثلاث هويات تتوافق مع ثلاث مراحل من حياته: نشر بعض النّصوص في المراجعات الأدبيّة السرّية تحت اسم «أندريه هارلير»  برعاية الأخ «أندريه ماري» ، ثمّ انضمّ في عام 1933 إلى جماعة الإخوة الصّغار في قلب يسوع المقدّس «les Petits Frères du Sacré Cœur de Jésus»  تحت رعاية «لويس جارديت» ، ثمّ كرّس نفسه للبحث في الإسلام.  
شاء اللّه أن يقرأ «لويس جارديه» ترجمه لمعاني القرآن، فوجد فيها أمورًا كثيرة اطمأنَّ إليها قلبه، فانجذب نحو الإسلام، وأخذ يتعمّق رويدًا رويدًا في الإسلام، فتعلَّم العربيّة، وقرأ القرآن بالعربيّة، ثمّ اتجه إلى دراسة الحضارة الإسلاميّة، ووجد أنّ الإسلام هو ضالّته المنشودة، فآمن به كعقيدة سماويّة صحيحة. كتم «جارديه» إيمانه ولكنّه في المقابل قَصَرَ جهده وعمله وماله وفكره على نصرة هذا الدّين لأنّه كان يعلم أنّه بإشهار إسلامه سيواجه كثيرًا من العقبات أمام انتشار أفكاره في المجتمعات الأوروبيّة.
لاحظ «لويس جارديه» أنّ الصهيونية تقوم بشنّ حرب عدوانيّة ضدّ كلّ ما هو إسلامي في أوروبا، واستُخدمت فيها كلّ الوسائل العدوانيّة بدايةً من محاولات تحريف بعض آيات القرآن الكريم، وتصدير المصحف الشّريف إلى مناطق إفريقيّة كثيرة بعد تحريفه، والمساهمة في تشجيع الباحثين المتعصّبين لنشر مؤلّفاتهم ودراساتهم التي تقوم على تشويه صورة الإسلام، وإلصاق المثالب والرذائل بالمسلمين ورسولهم. فأصدر كتابه «المسلمون ومواجهة الهجمات الصهيونية».
تفرَّغ «لويس جارديه» لدراسة الفلسفة الإسلاميّة مدةَ خمسة عشر عامًا كاملة من (1957 - 1972م) بمعهد الفلسفة الدّولي بمدينة تولوز، وزار عدّة أقطار عربية، وحاضر في عدد من جامعات المغرب والجزائر والقاهرة.
وضع «لويس جارديه» عددًا من المؤلفات الإسلاميّة المهمّة، من بينها كتاب «المجتمع الإسلامي»، و«الإسلام لكلّ العصور»، و«الدّين والمجتمع» (1967) و«الله ومصير الإنسان» (1967)، و«رجال الإسلام، الاقتراب من العقليات» (1977)، كما شارك الدّكتور محمد أركون في تأليف كتاب «الإسلام: أمس، غدًا» (1978). وشارك في وضع الموسوعة الإسلاميّة باللّغة الفرنسيّة.
في كتابه «الإسلام دين لكلّ العصور»، شرح «لويس جارديه» كيف استطاعت القيم والمبادئ الإسلامية أن تستمر على مدى العصور والأجيال، وأن تظلَّ جديدة ومتجدّدة ومطلوبة ومؤثّرة في كل عصر!!
وفي كتابه «أهل الإسلام»، بحث «جارديه» في طريقة عيش المسلمين مع قيمهم الرّوحية خلال تاريخهم الطّويل، وكيفيّة تجسيد هذه القيم في عالم الواقع الحيّ المتطور بتطور الظّروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة. وتساءل عمّا إذا كان الإسلام باعثًا أو مساعدًا على تكوين نموذج إنساني، أم أنّه يتدخّل كعامل اختمار روحي لا يغير من الذّهنيّات الأساسيّة والسّلوك اليومي. ليجيب بأنّ الإسلام دين سماوي يحمل قيمًا لا مثيل لها من العقيدة، والثّقافة والحضارة، وأنّ الذّهنيّة الإسلاميّة يغّذيها موقف واحد مشترك نحو اللّه، ثمّ المجتمع والعالم.. ويستشهد بقول الفيلسوف المسيحي (أوليفيه لاكومب) الذي يرى أنّ أوروبا المنزوعة الإيمان لا بدّ من أن تفكّر مليًا وستجد في رسالة الإسلام البلسم المناسب لأنّها رسالة تهتمّ بجوهر الحياة والإنسان. هذه الرّسالة السّماوية التي يجب نشرها وتعميمها بعد تخليصها من البدع حتّى تكون خلاصًا ومنقذًا للبشريّة التّائهة المعذّبة. 
يرفض «جارديه» مزاعم بعض أصحاب النّظريات الفلسفيّة من أنّ الإسلام (دين الصّحراء)، ولا يصلح لسواها من المجتمعات؛ فيردّ على هؤلاء بقوله: «إنّ الصّحراء كانت مجرّد المكان والمنطلق فقط لهذا الدّين الجديد عندما جاء، فيها اكتملت أسسه، وفيها اتضحت معالمه ليصبح دينًا عالميًّا، ولم تكن الصّحراء بأيّ حال من الأحوال مستقرًّا للشّعوب الإسلاميّة، بدليل أنّ العالم الإسلامي يضمُّ اليوم ما يزيد على مليار مسلم، ويمتد من داكار في السّنغال ليصل جزر الفلبّين في المحيط الهندي».
كرّس «جارديه» كتاباته للردّ على افتراءات بعض الغربيّين عن الإسلام والمسلمين، كاتهام المسلم بأنّه إنسان (قدريّ متواكل)، فيرد جارديه على ذلك بعشرات من الآيات القرآنية والأحاديث النّبوية التي تحضّ المسلم على العمل وإتقانه، وتحمّله كامل المسؤولية في مجالات حياته المختلفة. ثم يردّ الاتهام القائل بأنَّ الإسلام دين شعائر مظهريّة وطقوس تؤدَّى بصرف النّظر عن السلوك الحياتي، فيرد على ذلك بقوله: «إنّ مثل هذه الأمور قد ظهرت في عصور الانحطاط، والحقيقة أنّ العبادات لا يمكن قَبولها إلاّ إذا كانت صادقة ومقترنة بالنّوايا الخالصة».
كان «جارديه» إنسانا مفعما بالمطلق، مطلق اللّه. كان جائعا للعدل لا يشبع، وعطشان لا يرتوي. وكان مؤمنا باللّه كحقيقة وحبّ لا كعنف ورعب، ويعتقد بأنّ سلاح الرّوحانيات أمضى وأقوى من سلاح القوّة وعنف. لذلك سعى إلى تفنيد مزاعم بعض المفكرين الغربيّين أنّ الإسلام دين الخوف، فيؤكّد أنّ اللّه في الإسلام هو (الرّحمن الرّحيم)، وأنّ بين أسماء اللّه الحسنى التّسعة والتّسعين لا يوجد سوى اسمين فقط يصفان الذّات الإلهيّة بالجبروت والهول والعقاب، وهاتان الصّفتان لا يستعمل معناهما إلاّ مع العصاة والكافرين.
وبعد رحلة كبيرة من الاجتهاد ونصرة الإسلام، غادر «جارديه» الحياة في 17 يوليو 1986 وهو مؤمن بأنّ اللّه هو الحقّ والعدل وأنّ الدّين استقامة أخلاقيّة، ومعاملة إنسانيّة قبل كلّ شيء، وما عدا ذلك تفاصيل.