فواصل

بقلم
عبدالمجيد بلبصير
الأسس الموضوعية الستة لوحدتنا
 الوحدة لغة الانفراد والتميّز، والوحدة الإسلاميّة -كضميمة اصطلاحيّة- رابطة اجتماعيّة بين مختلف أجناس المسلمين، مبنيّة على عقيدة التّوحيد شعارا، وأخوّة الإسلام اعتبارا، يصير بها أفراد المسلمين ومجموعهم، رغم اختلاف الجنس واللّون واللّسان والمكانة، كالجسد الواحد متميّزا عن غيره بالعلم النّافع والعمل الرّافع. وهي تتأسّس على جملة أركان موضوعيّة يمكن إجمالها فيما يلي:
الأساس الفطري الإنساني
ويمكن أن تنشأ عنه أخوّة فطريّة، إذ الأصل في مجموع البشر الوحدة، والاختلاف عارض «وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا»(1) ويشهد له أنّ الإنسان اجتماعيّ بطبعه، ولو مع مخالفه في الاعتقاد والتّفكير، متى امتدت جسور السّلم والأمان بينهما «لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ»(2) وتاريخ الإسلام حافل بمواقف البرّ وشواهد القسط مع المسالمين من المخالفين في الاعتقاد، وخصوصا مع متّبعي سلطانه من أهل الذّمة، إذ حرص الإسلام دينا ودولة على حفظ حقوقهم وأمن روعاتهم، وصون كرامتهم وحرياتهم «فكان في زمن النّبيء ﷺ يهود خيبر وقريظة والنّضير، ومجوس هجر، فلم يتعرّض لأحوال اعتقاداتهم. وبعد فتح العراق، وجدت ملّة الصّابئة في أهل الذّمة، فلم يُتعرّض لمعتقداتهم؛ وقضيّة أبي إسحاق الصّابئ مع الشّريف الرّضي ليلة مبيته عنده وقيامه بصلاة الصّابئين من آخر اللّيل معروفة في ترجمتهما»(3).
واليوم، وبعد أن حالت على بلاد الإسلام أحوال، تردّت فيها من أوج الشّموخ والالتئام، إذ كانت أمّة عزيزة آمنة السّاح والبطاح، إلى درك الخنوع والاستسلام، إذ صارت أنظمة خاضعة وشعوبا مهيضة الجناح؛ اشرأبت أعناق صنّاع الفتن –وما تزال- من المتربّصين بالإسلام وأهله، مخابرات ومنظّمات ومراكز للدّراسات، إلى خلخلة الأوضاع، إذكاء لدعاوى الجاهليّة، وتجفيفا لمنابع الاستقرار، وتمكينا للطّامعين من منافقي حكّام المسلمين خاصّة، لأجل السّطو على حقوق المواطنين المسلمين عامّة.
الأساس الفكري الإيماني
 وتنبني عليه أخوّة عقديّة بين مجموع المسلمين، ناشئة ابتداء عن وحدة المبدإ والمنشأ «إن ربكم واحد وإن أباكم واحد»(4).وقد صانها الإسلام من جانب الوجود باعتبارها كمال الإيمان «لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»(5) ومن جانب العدم بنحو تحريم تكفير المؤمن «أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لأَخِيهِ: يَا كَافِر؛ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا؛ إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِلا رَجَعَتْ عَلَيْهِ»(6).
 ولعلّ اقتران آصرة الأخوّة بالإيمان لفظا ومعنى كما في نحو الحديثين، وكما في الآية الأصل «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» (7) دون سائر الأواصر الأخرى كالأبوّة والبنوة مثلا، مقصود منه فيما هو مقصود، التّجرد عن الغلوّ في التّوقير والمهابة والطّاعة بين المسلمين، بما يتيح للتّواصل فيما بينهم أن يكون عفويّا تلقائيّا؛ كما يقصد منه عدم استنكافهم من اقتباس محاسن العوائد من مختلف أجناسهم وبيئاتهم، على نحو قول عمر رضي اللّه عنه بعد الهجرة «فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الأَنْصَارِ»؛ ناهيك عن قصد تزكية عواطف المؤانسة والمواساة، وإخماد عواصف الحميّات والمعاداة.
 الأساس التعبدي الرباني
وتنبني عليه أخوّة عمليّة في الواقع، ناشئة عن وحدة القصد «وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ»(8) وذلك بشرع التّجمع للمسلمين في الصّلوات والحجّ والجمعات، فضلا عن تقوية آداب المعاشرة بينهم بنحو التّحريض على إفشاء السّلام وعيادة المريض وشهود الجنائز وقبول الهدايا. ولئن كانت تجليّات هذا الأساس أقوى مظهرا في أمّة الإسلام –على ضعفها- منه في غيرها على المستوى الشّعائري، بحيث لم يبق على الأرض من يعبد اللّه بشرعه الحقّ إجمالا غير المسلمين، فإنّ آثاره على مستوى التّعبد التّعاملي ما تزال في الغالب منحسرة، وخصوصا على المستوى الرّسمي، ما أودى بذوي الفاقات من مسلمي القارّات، إلى أن يكونوا لقمة سائغة لحملات التّبشير، واستقطاب اليائسين من بني جلدتنا في إحداث التّغيير، حتّى إذا استيأس هؤلاء المستضعفون، ركبوا فيمن ركب قوارب الموت، أو حرقوا أنفسهم بدافع كسر حاجز القمع والصّمت، وهي مواقف محظورة شرعا كما أفتى العلماء، إذ حاجة الأمّة اليوم إلى من يحيا لأجلها في سبيل اللّه أكبر من حاجتها إلى من يموت لأجلها في سبيل اللّه، فكيف بمن يقدم على الانتحار حرقا أو غرقا، ووسائل الاحتجاج والصّمود من المأذون به شرعا بحمد اللّه في سعة، وهي دون شكّ تحتاج إلى طول نفس.
الأساس الجغرافي السلطاني
إذ لابدّ لوحدة المسلمين من مكان يؤويها، وسلطان يحميها، حتّى تتعاضد سائر الأخوات قبل في كنف اتحاد الدّار والقرار. وهو من أعظم الحكم المستخلصة من مشروعيّة الهجرة النبويّة، وإيجاد المدن لإيواء المسلمين، وطاعة أولي الأمر من الرّبانيين الرّاسخين في العلم الشرعي ، أو المسندين بأمثالهم  في التّحقق به، إذ مطلق الأمر بطاعة أولي الأمر في آية النّساء مقيد بما ورد في آية آل عمران «لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ»(9) «فإنّ أولي الأمر هم العلماء على أظهر الوجوه للمفسرين» (10).
وإذا غاب العلم الشّرعي المقصود بالتّعبد به ابتداء إخراج المكلّف عن داعية هواه، لم يبق إلاّ تحكيم الأهواء في معالجة قضايا المسلمين، نحو توتّرات الحدود التي هي من مخلّفات الاستعمار كما هو معلوم، إذ ينبغي تطهير بلاد الإسلام تطهيرا ذاتيّا من هذه الفتن، بكافّة الوسائل السّلميّة، مسندة بحقائق التّاريخ، وإلاّ كان على الأنظمة الباغية وزر حرمان المسلمين من تزكية القدرات وتنمية الثّروات وتبادل الخبرات وصون الكفايات سدّا للحاجات، فضلا عن وزر تقطيع الأرحام وخرم الأمن والسّلام.
الأساس التاريخي العمراني
ذلك أنّ التّجربة التّاريخيّة لبلاد الإسلام بعمرانها المادّي والمعنوي شاهدة على تشبّع أهلها بروح الإسلام، حيث تمّ إعداد قياداتها الرّاشدة الرّائدة وجندياتها الصّابرة الصّامدة وفق قيمه، حتّى إذا ما انقضت القرون السّبعة السّمان، وآل الأمر غالبا إلى الانحدار في السّبعة العجاف، ظلّ حسّ التّدين في الأمّة، على ما اعتراه من البلى، نابضا، فانبرى العلماء المجتهدون بفضل اللّه إلى تجديده، وبنت عليه حركات المقاومة الوطنيّة في سائر بلاد الإسلام المستعمرة مشروع الاستقلال، لولا ما وقع عليه من السّطو والالتفاف، إذ غالب المقاومات العارية عن التّحصين الكافي محفوفة بالاختطاف.
الأساس اللغوي اللساني
وذلك باعتبار العربيّة نواة وحدة لغة التّفاهم بين أجناس المسلمين، بما شرّع الإسلام من تعلم شيء من القرآن «فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ»(11) وهي متميّزة عن سائر اللّغات بقوّة مناعتها، بدليل أن تقهقر أهلها لم يوجب اجتثاتها بقدر ما أوجب ضعفها، وعسى أن تثمر جهود الغيورين من أبنائها ، ما يعود بها إلى عافيتها في كنف وحدة أمّتها.
الهوامش
(1) سورة يونس - الآية 19
(2) سورة الممتحنة - الآية 8
(3) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام للشيخ الطاهر بن عاشور ص173 الشركة التونسية للتوزيع من غير تأريخ
(4) من قول الرّسول ﷺ «يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى» رواه أحمد (5/411) (23536)
(5) رواه البخاري (13) ، ومسلم (45) من حديث أنس
(6) رواه البخاري  ومسلم.
(7) سورة الحجرات - الآية 10
(8) سورة الأنبياء - الآية 92
(9) سورة النساء - الآية 83
(10) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام ص174
(11) ينظر المرجع السابق ص134