اثراء للنقاش

بقلم
رضا السمين
أنصار العدل والتوحيد ”الرؤية السياسية“

طاقة هائلة للعيش في الأكاذيب والكآبة والعُهر، التواطؤ على المظالم اليومية والقهر، تخثّر الأوضاع الاجتماعية والتعليمية والأخلاقية، الصمت الموحش للجماعات المحلية، والإنسان نفسه في قيعان مجتمعاتنا يتنفّس التّلوّث والغبار، لا غذاء لا كساء لا حبّ ولا سكن، يهلكه القرف وتكثر بداخله ومن حوله العوالم السُّفليّة، يطحنه الإكراه واللامبالاة... وكلّما هَتكَ الأعداءُ بلاده يَحزن ويزداد غمّا على غمّ، لكن والحمد للّه، يأبى الله إلاّ أن يُتمّ نوره، ولو كره المجرمون، فينتفض الشعب ويريد، "ولقد جئت على قدر يا موسى": الثورة والربيع العربي. من نحن وماذا نريد ؟ ما الذي يميزنا عن غيرنا، من حيث الرؤية والمصالح ؟ كيف نفكّ حصارا أو نتجاوز عائقا ؟ أين الإخفاقات وأين الانتصارات ؟ كيف نفعّل العلاقة بالحق وبالقرآن وبواقعنا وبالآخرين وبالعالم ؟ مَنْ ذا الذي يفكّ قيدا أو يداوي جرحا أو يكشف غامضا أو يتكفّل يتيما أو يفتح طريقا أو يشقّ نفقا؟

ـ اللاسلطوية.

ـ القيام بالواجب والمطالبة بالحق. 

ـ العمل الصالح لتحقيق العدل السياسي والعدل الإجتماعي والعدل القضائي والعدل بين المرأة والرجل.

ـ الفقراء أوّلا ومجتمع الكفاءة والرحمة وما ينفع الناس. 

ـ التعاون والعمل كقيم كبرى بها يتحقّق الإنسان.

 

1ـ مفهوم اللاسلطوية

الديمقراطية ليست تقسيم سلطة (...) بل أن يعيش المواطن في مشهد اجتماعي تعاقدي ورابطة سياسية تعتبر الفرد هو الفاعل السياسي الأول في دولة الناس، وأنّ تعاون المجتمع السياسي هو شرط النموّ والتقدم. واجبنا الأوّل هو الدفاع عن "المصالح العليا" للمجتمع الأهلي، وتغليب قيم العفو وتحكيم العقل، ومقاومة غرائز الانتقام وردّ الفعل، والرحمة للناس كافة.

نسعى ليتجاوز المجتمع الأهلي الدولة دون نقض سيادتها، ونرفض أن يكون ماضي الدولة السلطانية هو مستقبلنا أي سجن المواطَنة في "الدولة" التي كرّست أن "لا وطن ولا مواطن بدون هيبة السلطان"، وندفع من أجل المشاركة الواسعة والأفقية في حلّ المشكلات لتجاوز أسطورة "مطالبة الدولة بحل كل مآزق المجتمع". إنّ تغيّر "ما بقوم" شرطه الذي لن تجد له تحويلا ولا تبديلا هو تغيير "ما بأنفسهم"، انتصار المجتمع اﻷهلي في هذه الحياة وانتصار المؤمن العامل في الآخرة، وكل إنسان ألزِم طائره في عنقه أي يتحمّل مسؤولية ونتائج أعماله. 

القضايا الكبرى التي تشغلنا هي: المصالح الاقتصادية، والعلاقات الاجتماعية في المدن، وقراءة القرآن والرحمة للعالمين، ومكانة الإنسان وهويته، ومسائل المرأة، وقضايا البيئة والأوبئة والتعاون، والخصوصية والعالمية، والعقل وتنازع المعاني، والفردي والعام ومسائل الحميمية، والاحتفاء بالإنسان وبالمكان وبالزمن وبالجسد وبالإرادة وبالعقل الفعال المبادر، وتوليد القدرة على تحدي الظرف التاريخي والإيمان بقوة الفعل الإنساني ورحمة الله و"مشروعية الشعب"، واعتبار المواطنة واجبات وحقوق للتعاون من أجل نموّ الإنسان وترويض وحش الدولة، أي القطع مع أدلوجة وعقيدة أن السلطة هي مسألة حياة أو موت، ونقل الاهتمام السياسي والفعل المدني من الدولة إلى المجتمع الأهلي، دون أن يعني ذلك توريط المجتمع المدني في تحمل كلّ أعباء العدل الاجتماعي الذي تخلت عنه الدولة في الحقبة النيوـ ليبرالية، والتي تغوّلت فيها سلطة الدولة وتوحّشت على حساب الناس، رغم محاولات الشعوب، سلمًا أو ثورة، للحصول على حقها في المشاركة السياسية والعدالة الاجتماعية، فالثابت أن الدولة، أيًّا كان شكل نظام حكمها، هي في مواجهة المجتمع لإخضاعه، وفي مرحلتنا التاريخية هذه، لصالح الشركات المتعدّدة الجنسية، وتحويل العلاقات الاجتماعية إلى علاقات سلعية والإحلال الكلّي للمنفعة مقابل المَرحمة. زائد أنّ التطورات السياسية والاقتصادية، في زمن العولمة، باتت تتحدى مركزية الدولة، وكلّما قَلتّ "هيبة الدولة" ظهر المواطن وانتصر الناس في مواجهة قيود السلطة.

ديمقراطية المواطنة هي أساسا ممارسة الحرية والوجود الإنساني في المجال العام، وأنّ المواطن \ الفرد هو محور المجتمع الحديث، وهي ممارسة المواطن لحقوقه ونزع القدسية عن السياسي، والإنتماء لأرض وجماعة ودولة وعقد اجتماعي، وإكساب الحقوق مكانة قانونية ودستورية، بدلا من حكم "الولادة والعادة" المبني على التوافق التاريخي أو الغلبة... وفي النظام الرأسمالي الليبرالي يغلب على تصور المواطن الاعتبارات النفعية الاقتصادية أساسا، وقد عمّمت العولمة نموذج المواطن المستهلِك، وكشفت التناقض بين سيادة السوق العالمي والمواطنة الديمقراطية المنشودة (مع العلم بأنّ إسرائيل والشركات المتعدّدة الجنسية هما أهمّ أدوات الرأسمالية النيوـ ليبرلية).

 

2ـ مفهوم "القيام بالواجب والمطالبة بالحقّ".

كيف نخرج من أسر الليبرالية أو إتباع الآباء ؟ في قضايا المرأة والتعددية الثقافية والأقليات، وتفعيل دور الإنسان الفرد في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وحماية البيئة ونوع الحياة على الأرض، والدفاع عن حق الحياة واللغات وكرامة الشعوب ضدّ هيمنة الرأسمالية، وواجب الاستقامة في السلوك والأخلاق وتوحيد الله وقراءة القرآن، والإبداع في تجديد نوعية العلاقة بين الفرد والجماعة السياسية، بين التنمية والحرية والعدالة، بين الإنسان والكائنات الحية والميزان، والضرورة الحيوية لاستعادة المواطن والوطن من سجن السلطة دون السعي بالضرورة لا لهدمها ولا للسيطرة عليها. 

الخيار الإستراتيجي هو المساهمة في ما يحقق مزيدا من التحرر الإنساني، ومواجهة مسألة الاستبداد دون تردد ولا التفاف، وحلّ قضية العلاقة بين الحاكم والمحكومين، لأنه لا قيام ولا كرامة لمجتمع تختلّ فيه علاقة السلطة بالمجتمع، ومن هنا الأهمية القصوى للقضاء على الاستبداد كعقلية وكممارسات، ومواجهة التحايل على الحرية... سواء كان التحايل بإضفاء "الصبغة الديمقراطية" وإبطالها عمليا ! أو التحايل عبر البحث عن كل المبررات لتأجيل البناء الديمقراطي بالمقولات الجاهلية التي تدّعي أنّ المجتمع غير "مؤهل" ! أو التحايل بالكلام عن الديمقراطية كغاية واستخدام وسائل غير ديمقراطية ! أو التحايل بتحقيق المؤسسات صوريّا وعدم العمل بوظائفها عمليا ! أو التحايل بإيجاد "تعددية اسمية وهامشية" مضادة لما هو مطلوب من أجل ديمقراطية حق ! أو التحايل بإشاعة مضادات الديمقراطية في المجتمع مثل الرشوة والمحسوبية وكل ما يعرقل "مجتمع الكفاءة". والحقّ أنّ مسألة الديمقراطية لا تكمن فقط في المظاهر الخارجية، من تعددية برلمانية وانتخاب وأغلبية، بل لها قيم أساسية تقوم عليها وهي الكرامة الإنسانية، ومجتمع الكفاءة، وتعزيز الثقة بالنفس لدى الأفراد وفي المجتمع الأهلي، والقناعة الفكرية بصلاحيّة الديمقراطية والتبادل السلمي للسلطة عند النخبة وفي المجتمع، واعتبار الألم الإنساني شرّا في حدّ ذاته، وأنّ العدالة هي الأصل للنموّ والتقدم والسلم الأهلي.

إذا كانت الدولة هي التي تصنع تقدم الشعب في الغالب، فقد كانت عندنا فاشلة، سواء في طريقة عملها في السلطة، غياب الحريات والمشاركة، أو في إدارتها للشأن العام دون رؤية علمية ولا فعاليات اجتماعية، واكتفائها منذ عقود بوظيفة النهب وأجهزة الأمن الهمجية، مما جعل دولة المسخ معادية لكل اختلاف أو إبداع ومحارِبة للمجتمع الأهلي، وما نتج عن ذلك من ظلم وشرّ. "الدولة المسخ" قبل الثورة أي العهر بالمال وبالحكم، واستغلال المناصب الحكومية والوظائف العامة لتكوين الثروات والرشوة والصفقات، وغسل الأموال عبر المصاهرة و"الأسماء المستعارة" في مجالات الإعلام والزراعة والإسكان والأراضي والبنوك والمنشآت السياحية، وتحويل البلاد مقابل عمولات رخيصة إلى سوق مستباحة للشركات الأجنبية، ودفع كلّ تلك الأموال الهائلة إلى الحسابات السرية في الخارج.

إنّ لبّ مشكلنا السياسي هو كيف نجابه الواقع المعيش المُتمثّل في التناقض المجرم بين الدولة والمجتمع الأهلي ؟ من هنا وجب علينا أن نفهم حقيقة الدولة المُعاصرة : الدولة هي جهاز مسلّح وإدارة وولاء، الجهاز المسلّح الحديث (الجيش، الأمن، القضاء، وأدوات الهيمنة النفسية) والإدارة التي تعمل كجيش مدني لترتيب العمل الجماعي.. بهدف اقتصاد الوقت والجهد، توحيد لغة التعليم ولغة المعاش، وتوجيه الثقافة نحو "العلم التطبيقي" (لا الإدارة المسخ قبل الثورة والتي لا تعدو أن تكون "عطالة مقنّعة" أو مأوى لمرتزقة الحزب الحاكم، ولا تعبّر عن أيّ تنظيم عقلاني !) ووجود قدر معيّن من الإجماع الذي هو وليد التاريخ وتعبير عن مصلحة حالية في نفس الوقت، وهذا الإجماع يُعبّر عنه الفرد ويترجمه إلى ولاء وكلّ دولة لا تملك درجة متناسبة من ولاء وإجماع مواطنيها لا محالة فاشلة.

"التأسيس" لحرية التفكير والتعقّل وحفظ الكرامة والحقوق، وللعدل بين الرجل والمرأة وأوّلية الانتماء لنفس واحدة ولشعب واحد. وتشجيع المبادرات الفردية والأهلية، لحل القضايا الحياتية وأمور المعاش في السلم أو وقت الأزمات. والتعرّف على ماذا يملك المجتمع من ثروات ؟ وما هي احتياجات كل فئة أو جهة ؟ وتشبيك الكفاءات ودعم كل مبادرات المجتمع الأهلي والمدني في مواجهة "الدولة" و"العولمة". وابتكار الحلول لمسائل الجنس والعائلة والزواج وتثقيف المستهِلك، ودعم المشاريع الاقتصادية الصغيرة والمتوسطة، ومسائل خلق الثروة، وغير ذلك من الأعمال المتعلقة بحاجات الناس، والثقافة والترفيه، والعمل الدائم على رفع مستوى الشعور بالوحدة والتعاون في وعينا وحسّنا الفردي والجماعي. 

توليد القدرة على التداول السّلمي للسّلطة شرط الحرّية السياسيّة، لنبني مجتمعا يحيا بالمشاركة والكفاءة، وتنمية الوعي الأهلي بمسائل التّنمية الإنسانيّة القائمة على تبادل الخبرات البشريّة، وأن لا يتّخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، والحفاظ على الأرحام والتعاون على البِرّ، وحماية حقوق النّاس... ليتمتّع بها الجمعُ والأفراد.

"مجتمع أهلي" يقاوم نهب نخبة الفساد والظلم، ويقاوم "التّدمير الأجنبي"، ليمارس المجتمع الأهلي دور الحماية الذاتيّة لوجوده من الانهيار والتفكّك أو الاختناق والموت جوعا ومرضا، والحفاظ على وحدة المجتمع، وتنظيم مقاومة مدنية فعّالة ضدّ صنوف العدوان الوحشي السلعي والعسكري والفكري. ومعرفة السياق العالمي وموازين القوى فيه وحاجيّات المجتمع الذّاتيّة، وعدم تجاهل المصالح العليا للفقراء والمستضعفين والمهشمين، خاصّة وحالنا اليوم يتميّز بغياب إستراتيجية واضحة تفصّل الطّريق وتوضّح الرّؤية في مجالات التّغذية والتعليم والدّفاع والتنمية.

إنّ المصير اختيار يتقرّر في النفوس، قبل أن يحدث في الأرض أو يأتي من السماء، فـ "ما بقوم" مرتبط بـ "ما في أنفسهم"، وتغيير ما بالنفس مهمّة الإنسان. إنّ تغيير ما بالنفس أعمق وأوسع من التزكية الأخلاقية أو التخلص من المعاصي، بل يعني إكسابها القدرة على الفعل، وعلى تحقيق الواجب والجهر بالحقّ.

نسعى للدفع بالقدرات المحلية لتطوير المهارات والتواصل داخل نسيج المجتمع المحلي مباشرة (الأسرة، العائلة الممتدة، جماعة الجيران، جماعة الأصحاب، النقابات الأهلية التي تحمي الصُنّاع المحليين وصغار التجار وغيرهم ممّن ينتسبون إليها وتحميهم من ظلم ونهب رؤوس الأموال المتعدّدة الجنسية، جمعيات رعاية أصول المهن وتربية وتكوين الحرفيين الجدد، وقد قامت في تاريخنا أكبر المستشفيات على العمل الأهلي، بل وقام التعليم على الأوقاف الخيرية، ضد هيمنة اليأس أو السلطان، وتفعيل التعاون الاقتصادي في العلاقات العشائريّة، الجماعات المدنية، الطرق الصّوفيّة، وبناء الجمعيّات الخيريّة وجمعيّات التّضامن المختصّة، ودعم أهل الحرف وجمعيّات الخدمات الاجتماعية، والنّشاطات النّسويّة، وتزكية شبكة العلاقات في الجوار والحيّ وأماكن التعبّد، وشبكات التواصل الاجتماعي...) أي الربط بين التغيير الداخلي للإنسان، وهي مسؤولية تقع بالكامل على عاتقه، وبين المتغيرات التي تحدث في مُحيطه، سواءٌ سلباً أو إيجاباً، مجتمع يأخذ كتاب الله بقوة ويبني المدينة والدولة المدنية. هذا الوجود الجماعي الطبيعي أصابته كثير من الأمراض، ممّا حرم المجتمع من مواجهة التّحدّيات العمليّة التي تواجهه وتواجه أفراده، والحقيقة أنّ إضعاف هذه الرّوابط بدعوى وجود هذه الأمراض أو بدعوى وجود "مؤسّسات حديثة" تعوّضها، هو خسارة هائلة تٌدخل العباد والبلاد في عنت كبير وفشل خطير، مع ضرورة الاستفادة من التّجارب البشريّة في مختلف بلاد العالم، حتّى يتمّ إثراء يومي للخبرات في حلّ المعضلات التي نواجهها على مستوى التنظيم وحلّ المشاكل الزّراعية والصّناعية بخبرات محلية، ومسائل التّجارة العادلة غير النقدية والتّبادل بأنواعه المختلفة وعقلنة القوى والإفادة من تنظيمها وسدّ حاجاتنا الفعلية، فلا يتواصل التّسميم السياسي الذي نشر بيننا الإحباط والتخريب واليأس والتّفقير والتجهيل والانحراف ولوّث أجواء أسرنا ومدارسنا وعامّة اجتماعنا، وجعل مجتمعاتنا مجتمعات عالة وتسوّل... وعيشة الهانة بالاستبداد والدّعارة والمخدّرات أو الهجرة والنفي.

إنّ أداء الواجبات هو الطّريق الوحيد للحصول على الحقوق، في هذه الحياة الدّنيا وفي الآخرة، والإعراض عن الهذيان والشقاق، والعمل على بناء "الإرادة السّياسيّة" المشتركة التي تدفع بملايين السّواعد العاملة والعقول المفكّرة الصّالحة في بلادنا نحو الهدف الجماعي في التنمية والحرية والكرامة. 

نحن في حاجّة ملحّة إلى توقيت دقيق، وتحويله إلى ساعات عمل حقيقة، أو ساعات فرح ومتعة حقيقية ! واستعادة القدرة على الإنتاج في حياتنا الحاضرة كي نحلّ مشاكل تأخّرنا عن تلبية حاجاتنا نحن الحقيقية والهائلة وخوض "رحلة التغيير الذاتي". الإنسان القرآني (الذي يجتث القابليّة للاستبداد والإفساد من عقله وقلبه وجوارحه وسلوكه) والعمل على أن الحضارة تعاون وبناء وهندسة وكفاءة وخبراء، وليس تكديسا للمقتنيات والبضائع والاستهلاك ! العمل هو الذي يفتح الأبواب المغلقة، ويزيل السدود والحواجز، ويرفع الحصار، وهو الذي يجعل المجتمع قادرا على التفاعل مع المتغيرات المُستجدّة وفق مصالحه العليا.

الإفادة من تبادل الخبرات الكثيرة، الناجحة والمتطورة، في أمكنة عديدة من العالم، مع الذين "يدعون إلى القسط" في كل القارات، والحكمة ضالّة المؤمن أنّا وجدها التقطها فهو أحق الناس بها، فهناك أنهار من أفكار وبرامج وخبرات وتجارب وموارد وطاقات يُمكن الإفادة الكبيرة منها، في توليد الطاقات المحلية بوسائل قليلة، وحل قضايا حقيقية بتمويل محلي متواضع، وخبرات إنسانية عالمية في مناهضة "العولمة" ومناهضة الحرب، والتجارب الناجحة في الاقتصاد التبادلي غير المسعّر بالعملة SEL، وفكرة التعاون والتفاعل حول قضية معينة ومحدّدة بغض النظر عن الاختلاف الذي يمكن أن يوجد في القضايا الأخرى.

 

3ـ مفهوم "العمل الصّالح" أو كيف نقيم العدل في عالمنا وعلى أرضنا ؟

الأساس الصحيح هو العدل السياسي والعدل الاجتماعي والعدل القضائي والعدل بين الرجل والمرأة. 

لقد أصابتنا الكارثة في الماضي، عندما أخرج "علم الكلام" العدلَ من مجالات السياسة والاجتماع والقضاء والأسرة (...) وراح يزايد في الحديث عن العدل الأخروي، وهي كلمة حقٍّ أريد بها باطل أي السكوت لمصلحة الظالم ومن يجلد ظهرك ويسلب أموالك، في حين أن العدل هو أساس المجتمع القرآني في هذه الحياة، ومقصد كل الرسالات والأنبياء ضد البغي والظلم (بجميع معانيه وأشكاله وأدواته) وشرط التنمية في واقعنا الحاضر...

تجربة التأويل وإعادة قراءة القرآن في تاريخنا، أعطت نموذجا مميّزا لما يجب أن يكون عليه التديّن كداعم اجتماعي للناس بإيجابية الأثر والتأثير، وعلى عكس توظيف التديّن في خدمة الاستبداد استطاع القرّاء أن يجعلوا الدين مع الناس وفي خدمة مصالحهم العليا وليس ضدهم، الإسلام ضدّ الفقر وضدّ امتهان كرامة الإنسان، والدين جاء لتحرير عقول الناس، ولكن ما يحدث في كثير من الأوقات هو العكس تماما، حيث يستخدم التديّن كباعث على الجمود والتردي في هاوية التقليد الأعمى، واستخدامه كسلاح يشهر في وجه الآخر أيا كان، وجعله سببا دائما للشقاق والصراعات، والمشكلة تكمن في الممارسات والتقاليد غير المبرأة عن الهوى، والتي تحجب الرؤية وتمنع الإبصار والتبصر. أليست واجباتنا الأولى هي: الصّدق ضدّ الكذب، الأمانة ضدّ الخيانة، التّبليغ ضدّ الكتمان، البصيرة ضدّ الجهل، العلم والذّكاء ضدّ التّهوّر، والشكر لله ضدّ الجحود ؟! سواء في الآفاق أو في أنفسنا، ليس في الخلق أثر للعبث، ولا خطأ في الكون والوجود... فليعرف كلُّ فرد لماذا يحيا ؟ وما الهدف من الخلق ؟ التّوحيد هو تحقيق القرآن في حياة الأفراد والجماعات ضدّ الظّلم بأنواعه وضدّ الفساد بأقنعته وأسلحته المختلفة، وإنّ كثيرا من النّاس ليظنّون بالله تعالى ظنّ السّوء !! ولا يسلم من ذلك إلاّ من تدبّر القرآن وتعرّف على آياته. الوحي جاء ليعرّفنا بخالقنا سبحانه وتعالى (لا كما تتحدّث عنه الإسرائيليّات)، وعن تجربة الإنسان كعالَم بكامله مع ربّه ومع محيطه الخارجي ومع نفسه، وعن تجارب الجماعات والأنبياء ضدّ الظالمين والمستكبرين وادّعاءاتهم الاجتماعية والتاريخية، ولم يأت كحزمة حدود ونواهي. 

ديننا هو إسلام العمل الصّالح لتغيير ما بأنفسنا وما بواقعنا والجهر بالقول. ليس الإيمان وراثة، فالتّكليف الإلهي هو لفرد عاقل حرّ ومسؤول وليس لصبيّ أو مجنون، أو لتابع آبائه وعشيرته فيكون مثلهم إيمانا أو كفرا، سفيها أو عاقلا، عاجزا أو قادرا. الإنسان لم يُكلّف عبثا وحياته مواقف وامتحان لجهده وفعله. الإنسان حبيب الله وخليله، مخلوقه وكليمه، بدليل إرسال الوحي إليه، وجعله في قلب الكون، وتسخير ما في السّماوات والأرض له، وتكريمه في البر والبحر، هذا وضع الإنسان في الحياة كما بيّن لنا القرآن الكريم ليثق الناس بأنفسهم ويعرفون عظمة مكانتهم. احترام الإنسان روحًا وجسدًا، وضمان حقّه في الأكل والشرب واللباس والسكن والحبّ... منذ الولادة حتى لحظة الموت. 

لكن بسبب الاستبداد والفساد صرنا من أكثر المجتمعات التي تُعاني من التفاوت الفاحش بين الفقراء والنّاهبين، بين الجوع وعهر الاستغلال. واجبنا اليوم وبعد الثورة أن نقدّم للناس رؤية قرآنية بلا غبش، ونذكّرهم بأيّام الله، وأن نتقدّم أمامهم لمواجهة عدوّهم من ظلم وفقر وجهل.

القرآن جاء للإصلاح في الأرض ومواجهة الإفساد فيها... ليحرر الإنسان من الأسر "الطبيعي" أو الاجتماعي أو السياسي، ليحثنا على واجب التعاون والمشاركة في الأفكار والأموال، وليُبيّن لنا وجود قوانين لبقاء أو فناء المجتمعات وتطورها : لا يمكن وجود حياة كريمة في مجتمع مبنيّ على الهلاك، أي غياب أصل العدل فيه.

أهم أصول الإسلام : إقامة علاقة مباشرة بين الإنسان وربّه دون أيّة واسطة، فلا بُدّ من إصلاح الخلل الذي أصاب تلك العلاقة في زمننا المتأخّر، ورفع الوصايا والحواجز، سواء الموروثة أو المبتدعة حديثا. أم على قلوبٍ أقفالها ! لنكسّر الأقفال... ونحطّم كل ما يرسّخ التخلف والمرض والعهر، سواء في التعليم أو السلوك اليومي، سواء في النظر أو العمل، وكل ما يمنع العلم عن الناس أو يهدم العقل، وكل ما يمنع عنهم تعلم المداواة والبرء من الأمراض، وكل ما يمنعهم من النظافة وحسن العيش وطيّب الكلام، والتصدّي بإحسان لكلّ من يفتن بين الناس أو يسعى لتفكيك وحدة المجتمع الأهلي وشق صفوفه، وتفريق عامته وإشعال البغضاء بينهم.

كيف نقيم الميزان، بين الواجبات وكرامة الإنسان في واقعنا المعاصر؟ الأنس بين حقوق الفرد والجماعة؟ تجب معرفة الإسلام من القرآن بمساعدة معجم جيّد للغة العربية، وممّا صحّ من السنّة بدليل قطعيِّ الدلالة متّصل السند بالله سبحانه وتعالى، ومن معرفة منهجية لسيرة الصالحين ووقائع التاريخ وحوار الأفكار، وإلاّ سرنا ـ والعياذ بالله - في طريق الشيطان ونحن نظن أننا نسير في طريق الرحمان. 

المعرفة بوسائل الحوار والجدل بالتي هي أحسن، بالتعقّل والدعوة إلى التفكّر، بتنمية الاستجابة الطوعية... وتقبُّل التساؤل والحيرة، ودعوة النّاس بصبر وعلى بصيرة. وتأكيد الدّعم لحقوق الناس التي يكفلها القرآن الكريم لكلّ إنسان دون نسخ أو مسخ. كرامة الإنسان كإنسان، واستعادة كرامة المرأة المسلوبة ظلما وعدوانا، في مؤاخاة مع كرامة الرجل، والتحرّر من هوامات التقاليد اللاإسلامية المكبّلة والغادرة التي كلّستها عادات الآباء والقبائل. 

استعادة الأنس بين المساجد وبين التنمية المدنية، بتفعيل دورها في التنمية المحلية والدفاع المدني (إضافة للعبادة)، بدعم المبادرات المحلية الإنتاجية وتنمية الفطنة الاجتماعية وتعلّم القرآن، والنباهة والحسّ بالتاريخ، فتثري مشاركة الفرد والمجتمع الأهلي في الاقتصاد المحلّي وفي النشاط السياسي الأهلي. استعادة النشاط الاجتماعي في كل مسجد، مهما كان بناؤه متواضعا وعدد المصلين فيه قليل، هو أحد أهمّ نقاط القوة لشعبنا، ومن أعظم المكتسبات لبلادنا، وهي من أهم مراكز التقاء المجتمع الأهلي. 

ثقافة باسم الله ومن أجل النّاس ومصالحهم العليا، ضدّ فرعون وهامان وقارون والنّاكثين، ضدّ الظلم والإستحمار والاستغلال والتدليس، ضدّ الاستبداد والأحبار والمترفين والمنافقين، ولمواجهة المسائل التي يتحدّانا بها هذا العصر كقضايا المال والتّخريب الاستعماري الجديد، القضايا الجنسيّة ومحاولات تدمير الأسرة، قضايا البيئة وتخريب البرّ والبحر والهواء، وضرورة تثبيت الدّيمقراطيّة بممارستها في كل حال وحين، وحق التّواصل والحوار والمشاركة مع كل الشعوب في المجابهات العينيّة للظلم العابر للقارات، وتحريم الخوض في مسائل لا تفيد نهضة الأمّة بتجنّب المعارك الجانبيّة أو التي لا تعمّ بها البلوى في هذه المرحلة الأخطر من تاريخنا، والجهر بإنكار المنكر، كُلّ حسب همّته وإمكانيّاته، ومحاربةُ الجيمات الثلاث: الجور والجهل والجوع. 

إنّ التّاريخ البشري هو تاريخ الصّراع ضدّ الظلم والاستكبار، بأبعاد جديدة في كلّ مرحلة، وأمام كلّ إعادة إنتاج للظّلم ونشر الظلمات يهبّ الصّالحون وأنصار العدل والتوحيد لتقديم رؤية للعالم وللوجود مضادّة للظّلم وللفساد، تفسّر الكون وسننه وتحمي الفرد روحا وجسدا، تدافع عن المجتمع اﻷهلي وتدفع عنه الظلمات والحصار. 

التّوحيد والعدل، يعني عمليّا القضاء على الشّرك في السّلوك العملي والخُلقي للأفراد وللجماعة، أي بناء مجتمعات بلا قهر ولا تسلّط ولا استغلال. "لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله" تُحرّر شعور الإنسان وواقعه من كلّ القيود والسّلاسل الاجتماعية والسياسيّة والمادّية... تُحرّر الفرد من كلّ أسوار القهر، وتربط بين التغيير الداخلي للإنسان وهي مسؤولية تقع بالكامل على عاتقه وبين المتغيرات التي تحدث في مُحيطه، سواءٌ سلباً (الأنفال 53) أو إيجاباً (الرعد 11)، لنبني مجتمعا يأخذ كتاب الله بقوة ويسعى للتعارف في محيط العالمين. فبناء الوعي والواقع السياسي على أساس التوحيد هو رفض "هدم العقل"، والعمل ضدّ الظّلم والفساد في اﻷرض، والقراءة ضدّ الجهل والهمجية. الإنسان ذو عقل وكرامة وإرادة ووعي وعمل وجهد، مستخلف فيما أودعه الله سبحانه بين يديه، له حقّ التّصرّف والاستثمار والانتفاع والشّكر للخالق الرزّاق الكريم، وليس للإنسان حقّ الاحتكار والشرك والإفساد، ولا يجوز بأيّ حال تحقير النّاس وتدمير حياتهم أو الاعتداء على حُرمة أجسادهم وحرّياتهم، وهم الّذين كرّمهم الحقّ على كثير من خلقه. نقرأ القرآن ونهتدي به لمواجهة مشاكل النّاس كما هم في هذا العالم وهذا العصر (لا مشاكل عالم وعصر آخر) ونستعدّ بالقرآن ليوم الحساب. والقرآن يؤكّد لكلّ قارئ ولكلّ مؤمن يتلوه، واجب التّفكّر.. التّدبّر.. التّعقّل.. وهو يدعونا لما يُحيينا (ولن تتكشف معاني القرآن العظيم وأسراره قطّ للقاعدين ! بل هو نور للذين لا يخافون في الله لوْمة لائم، والذين لا يتّخذون القرآن مهجورا.) غاية القرآن هي رفض آليات القهر والنهب، ورفض ثقافة السحر والحظ والخنوع، والرفض أشدّ الرفض للتقليد وإتباع الآباء دون برهان أو بحث. يدعونا إلى النظر في أنفسنا وفي كتابنا وفي العالم، ويحثّنا على الاجتهاد ورفض الشرك والوساطة والتقاليد وكل ما يُعارض التحرّر والعدل والعقل من ظلم ووهم وظن ولُبس في الرؤية، ويؤكّد على الوضوح والبيان في النظر والعمل. والتكليف قائم على النظر والفهم وبذل المجهود، ويعني حرّية الإنسان وضرورة اختياره، بين الخير والشر، بين العدل والظلم، بين الحق والباطل، بين الفضيلة والرذيلة، بين الحسنة والسيئة، وبين الطيبات والخبائث... وما ينتج عن هذا الاختبار من الجزاء. الإسلام هو تمكين حقّ المظلومين والضعفاء ورعاية مصالح الناس والدفاع عن الحرمات، وكلٌ يأتي ربّه فردا والعاقبة للمتّقين.

واجبنا الجهر بالقرآن ضدّ الظلم وضدّ الفساد، واستعادة التغيير الجذري الذي أتى به القرآن منذ كلمة "اقرأ"... والإقبال على تفهّم الآيات في الكتاب وفي النفس وفي الآفاق. "اقرأ"(...) الكلمة الحضارية التي أدهشت النبي الأمّي، وحفزّت أصحابه، وأثارت عليه العالم. حضارة جديدة متواصلة مع خط الأنبياء التوحيدي... بتفعيل قراءة وفهم المسلمين للقرآن الكريم، وتحويل العالم إلى "دار الشهادة" وتجاوز التقسيم القديم إلى دار إسلام ودار كفر والذي لم يعد مطابقا للواقع منذ قرون، فنكون الأمّة الشاهدة على الناس. أي نكون شواهد على الاستقامة ومكارم الأخلاق وتجسيدا للعدل، نحاور للإقناع وتشجيع الاستجابة الطوعية والاختيار الواعي. إنّ مفهوم "المداولة" القرآني للحضارة ولأيام التاريخ، يعني أن حركة العالم مستمّرة لا تتوقف... إلى أن يرث اللهُ الأرضَ ومَن عليها. حضارة "اقرأ" والدهشة النبوية المعرفية أمام هذا "الأمر" دعوة لقراءة الكتاب ولقراءة آيات الكون وللآيات في أنفسنا، وتحويل هذا الأمر... إلى برنامج عمل يشارك في تحقيقه المجتمع الأهلي كفرض عين على كل رجل وامرأة. التعلّم والعمل الصالح (...) أي التعامل العقلي والعلمي مع جميع ظواهر الخلق الإلهي في العوالم والنفوس والمجتمعات. الأمّة الشّاهدة والعمل الصّالح حتى نكون خير أمّة أخرجت للناس، فالعدل والقسط والميزان هو أساس الاجتماع والعمران. 

سرّ نجاح الأنبياء أنهم قاموا لهداية الناس دون منّة ولا أجر، وصدعوا بالحق ضد الظلم، حتى يخرج الناس من عبادة العباد، سياسياً وفكرياً ودينياً واقتصادياً، إلى عبادة الخالق وحده، الذي أحسن كل شيءٍ خلقه ثم هدى، وسخّر لهم ما في السماوات والأرض، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة. إسلام القرآن والسُنّة الصحيحة، هو التحرر من الأسر ومن الأغلال، بدءا من التقليد وإتباع الآباء وكل القيود، وحتى التحرّر من ثالوث الشؤم : فرعون وهامان وقارون. "أفلا يبصرون ؟ أليس لهم آذانٌ يسمعون بها ؟ أفلا يعقلون ؟ أم أنهم لا يكادون يفقهون قولا ؟ أم على قلوبٍ أقفالها ! لنكسّر الأقفال... 

إنّ افتتاح القرآن العظيم بـ "بسم الله الرحمن الرحيم" وكلّ السور (عدا "براءة") إنما يبيّن ومنذ البداية أنّ السمة الجوهرية لهذا الدين تقوم على الرحمة والمغفرة والتسامح بين البشر، فطبعَ المسلمين بطابع الرحمة والتراحم والتعاون (من المفيد الانتباه إلى أنه لم يفتتح السّور بأحد أسماء الله الحسنى الأخرى). فالله سبحانه وتعالى بَعث خاتم رسله، رحمة للعالمين، ليجمع الفرقة وليزيد الألفة، ولم يبعثه ليفرّق الكلمة وليتحرش الناس بعضهم ببعض، بل لتحقيق الأخوّة وليخرِج الناس من عبودية العباد والأغلال التي تكبّلهم إلى عبادة الرحمان الذي خلق كلَّ شيءٍ ثم هدى، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.

أيّة رؤية للديمقراطية ؟ الديمقراطية الليبرالية هي نموذج مناسب لصفقة (...) الدولة المهيمنة التي تقبل تغيّر مقاعد السلطة، لكنها لا تقبل العدل الاجتماعي ولا تحديد سلطتها في مواجهة ميلها الطبيعي للتغوّل، في حين أن ديمقراطية المواطنة (كتعبير سياسي عن جماهير الناس) تؤمن بالتعاون وبفكرة المنفعة العامة التي "تتجاوز" مجرد قسمة مقاعد بين المصالح الفردية المتعارضة، المواطن الديمقراطي يشارك في المجال العام بهدف التعاون على البِرّ والرحمة، وينظر للسياسة بمنظور اجتماعي، وحسّ ثوري بالمسئولية الأخلاقية، ويستمد طاقة نوره من عقيدة الشعب ومشروعيته، مشكاة نور المواطنة، لا "خطر الظلامية" كما يزعم الظالمون من الليبراليين الجدد الذين أضاعوا مفاتيح تاريخهم ويحلمون بحماية السلطة أو حتى المحتلّ، والذين يريدون أن يطفئوا نور الله في الإنسان ليصبح محض مستهلك للسلعة وللهيمنة. إنّه لا دولة ناجحة بدون هوية وإدارة مسؤولة وانتماء، ولا ديمقراطية حقيقية بدون عدل وحرية، ولا إنسان بدون الرحمان. 

الإنسان فيه أبعاد مطلقة لا يمكن اختزالها في الطبيعة وحدها، ومن هنا ضرورة التعامل الاجتماعي والتاريخي مع متغيرات عودة الدين للمجال العام، وعودة القيم إلى المجال السياسي والاقتصادي، فالحركات الإحيائية عمت العالم كله جنوبا وشمالا، ومن الضروري الخروج من ثقل الإيديولوجيات الحداثوية وصناعة الأوهام، ونقد فصل العقل عن الوحي والواقع عن الغيب، خاصة وأنّ الإسلام يمثل أفقا تقدميًّا وديمقراطيًّا.

ما يرهبنا، في مرحلتنا التاريخية وواقعنا المعاصر، ليس شبح القرون الوسطى، مع العلم بأنّ صور هذا الشبح تختلف من مجتمع إلى آخر ومن حضارة إلى أخرى، بل إنّ ما يرعبنا هو النظام العالمي الجديد بنهب شركاته المتعدّدة الجنسية وحروب تدميره الشاملة، بخطاب إنسانيته المزدوج وقدرته على التدمير والقصف، بإغراقنا بالتلوّث البيئي والسلع والأوبئة، بتغريب الإنسان وتفقير الثقافة والمعنى.

العلمنة كانت في جوهرها نزع القداسة عن الدين وعن العالم ـ نشأة وتطورًا ومآلا ـ وإسباغ هذه القداسة على الدولة، ولأن مفهوم الدولة كان وما يزال هو المفهوم المركزي في النظرية السياسية السائدة، فقد بقيت "أسطورة" الدولة العلمانية في مجال النظرية السياسية أقوى من أن تتعرض لنقد جذري برغم أن الإشكاليات المطروحة، في مرحلة ما بعد الحداثة وهيمنة الرأسمال العالمي وإحياء مقاومة التديّن التحرّري وتراجع العلمانية في الواقع السياسي للشعوب شمالا وجنوبا، إشكاليات مثل إعادة التأسيس للرابطة السياسية، وضمان الحريات العامة والعدالة الاجتماعية داخل المجتمع الواحد وفي العالم، وتشابك قضايا الثقافة والأخلاق والسياسة والعمل، هذا الواقع الجديد كان فرصة ذهبية للحداثة لتجديد نفسها وإنقاذ غاياتها العليا الأصلية ضدّ غلبة الجانب الاقتصادي الليبرالي على جذورها الديمقراطية. 

وتبقى المهمّة على سلّم الأولويات... تجاوز الإعاقات الذاتية والضغوط الخارجية المضادة لحرياتنا، والتوترات الاجتماعية والسياسية والنّفسية الموروثة عن الاستبداد، ومواجهة الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تعصف أصلا بمفهوم "المشاركة" تحت سقف الجوع والحرمان من أبسط مقوّمات الحياة الكريمة، والخروج من ثقافة الإحباط والثرثرة، واستعادة "الفرد الإنسان" كقيمة، ومنع هدر كرامته التي غابت في وعينا ولاوعينا الجمعي والفردي.

عدوّ المجتمع الأهلي هو "شبكة الفساد والاستبداد" وحلفائها في الخارج، وكلّ همّهم إحباط ثقافة الحرية في المجتمع وإبطال "مشروعية الشعب". شبكة تدفع الشباب المتعلّم إلى قيعان المدن والأرياف، وتحاصر أية إمكانية لميلاد الفرد الحرّ كفاعلية اجتماعية وسياسية وقانونية تبادر بالأفكار والإنتاج والفعل السياسي، وتمنع ظهور مؤسسات المجتمع الأهلي الفاعلة والمدنية، وتسعى دائما لتحويل "الحُكمْ" إلى نظام إدارة الطوارئ... وسط أرياف متصحرة ومدن ريفية وأحياء مليونية للمهمّشين، وإجبار الناس على تضييع الحياة والطاقة في التحايل على البطالة وأزماتها الكثيرة أو الهجرة، وسعيها لتعمية الصراع الاجتماعي بالتخويف من الفراغ الأمني والأزمة الاقتصادية وهروب السائح... 

أثبتت التجربة الجزائرية وغيرها، أنّ إيمان بعض عصابات "النخب الحديثة" بالديمقراطية هشٌّ وضحل... بل أنها على استعداد لاستعداء "المؤسسة العسكرية" أو أيّ قوّة خارجية ضدّ المجتمع الأهلي، للحيلولة دون وصول خيار شعبي للسلطة متى حصل على أغلبية ديمقراطية، هذا مع كثرة الأحزاب الهامشية من جهة إحداث "جعجعة" ديمقراطية دون بناءات وخيارات وقوى فعلية، وعملت "االحداثة المسخ" على خنق أي إبداع مدني في المجال المهني والعمالي والثقافي والاجتماعي والسياسي وحاصرت المجتمع الأهلي في كل المؤسسات الوسيطة... 

إنّ نخبة الفساد والاستبداد هي قوّة شرّ مُسلّحة، تنهب المجتمع الأهلي "كلّه" وتُرغم الناس على الموت البطيء، وتدفعهم دفعا إلى اليأس المهين في الداخل والخارج. أقلّية الفساد والظلم هذه جماعات اجتماعية صغيرة ولكن تحتل مواقع خطيرة تهيمن و"تتحكّم" في النسيج الاجتماعي والإداري للبلاد، فهي صغيرة ولكن مصمّمة ومُنظّمة، وتخدم في ذات الوقت مصالح أجنبية فاسدة. نُخبة ناقمة على المجتمع الأهلي ! هناك في بلادنا إرادة قوية داخلية مرتبطة بإرادة أجنبية قوية، تعمل على إدامة التأزّم والخوف، وتعميق التفكّك الاقتصادي والاجتماعي، وإدامة الفشل السياسي لمجتمعاتنا. الصراع الآن والتدافع بعد ثورة الكرامة، هو بين شبكة الشرّ والمجتمع الأهلي. كيف نستعدّ نفسيا وعقليا وعمليا، لمواجهة شبكة الفساد والناقمين على المجتمع الأهلي وثقافته، شبكة فاسدة تصارع المجتمع الأهلي على أرضنا لنهبه وقهره، بل تعمل وفق خطط الاستعمار الجديد على إلغائه لصالح دويلة "انفتاح" تدّعي لنفسها صورة الدولة وهي في الحقيقة لا تملك إلا السرقة والظلم. 

إنّ إغفال شبكة أجهزة الشرّ، التي تحمي الفساد والاستبداد، يؤدي إلى مآزق تنظيميّة ونفسية وسياسية إذا جاءت لحظة، بعد الثورة، قد تقرّر فيها الأقلية الفاسدة مهاجمة المجتمع الأهلي من جديد، بالنار والأسلحة والأجهزة الإيديولوجية والإعلامية. 

تبقى مشروعية النقاش العلني والعام حول مسألة، تسليح المجتمع والأفراد، دفاعا عن الحريات وعن المجتمع الأهلي وخياراته، بموازاة مع أسلحة الدولة (دون حاجة لأن يكون ذلك "ضدها")، هل هذا الخيار ضد السيادة، وأية سيادة، وبأي عقد اجتماعي في أية لحظة تاريخ ؟ وفي واقع إمكانية غدر الدولة بالناس ؟ وهل هذا ضد العصر وشروط المنتصرين في هذا العالم ؟ أم هو تطوير فعلي لـ "أفق المعنى" واستعادة لمعاني في السلم الاجتماعي تمّ تهميشها، وإحياء لمعاني المجتمع المحلي القادر على الدفاع عن الكرامة، والإنسان المقاوم للظلم ولو كان فردا ؟ النقاش واقعي وحقيقي في مجتمعات كثيرة بما فيها الولايات المتحدة التي يمكن شراء السلاح فيها كما يشترى الخبز وتنتشر فيها التيارات المعادية لاحتكار الدولة للسلاح، ونعرف مدى تعقّد هذه المسألة وعلاقتها بصناعة التسليح ومخاطر العنف الأفقي والجريمة، ومع ذلك نؤمن بمشروعية النقاش العام حول هذه المسألة، فلا بدّ من الاهتمام بالواقع وأولويّته على الماضي، وأولويّة المصالح العليا للمجتمع الأهلي والمواطن الكريم، والانشغال بالإنسان في حاضره الاجتماعي الثقافي السياسي والتعامل مع قضاياه العملية وإعداده لمواجهة الكوارث الطبيعية أو الخارجية أو الهمجية، في حالات "عدم الاستقرار" و"عدم الاتفاق" و"عدم اليقين".

 

4ـ مفهوم "الفقراء أوّلا ومجتمع الكفاءة والرّحمة وما ينفع الناس".

خيارنا الاقتصادي يهتمّ "بنوع الحياة" لا شراء كل جديد، حيث الأولوية لوسائل النقل الجماعية والنظيفة، الضمان الصحّي للجميع، التعليم للكل، العون والرعاية للقاصرين والعجّز والمعاقين، الدفاع عن الكائنات الحية سواء كانت حيوانات أو نباتات أو فقراء جائعين، الاهتمام بالماء ورعايته وصونه، وحماية الأرض جوفها وتربتها ومناخها. العمل على توفير الأكل واللباس والسّكن وحقّ تكوين أسرة وحقّ العمل والحقّ في العدل... لكلّ واحد وللناس جميعا. مجتمع مقتصد ومتعاون، رحماء بينهم أشدّاء على المفسدين في البر والبحر والجوّ، مجتمع أهلي يؤمن بالله الخالق الكريم، يحمي الحرمات الفردية والجماعية، ويحبّ الأرض وتنوع الحياة.

إنّ نظام "المنافسة" الذي بناه النظام الرأسمالي وعمّمه، وثقافة "الربح المالي"، أي بمعنى صراع كلّ واحد ضد كلّ الآخرين... حوّل الحياة ولقاءاتها إلى معركة تُحدّد الرابح والخاسر بمعايير مالية وعنصرية لا مبالية بمصالح الناس العليا وبثقافاتها، ولا مبالية بالحياة وتوازنها البيئي، وبما أنّ (سفينة الأرض) في زمن العولمة باتت صغيرة جدّا حيث فعل كل واحد، سواء كان فردا أو دولة أو جماعة أو عرقا، يؤثر على كل الناس، وعلى نوع الحياة في كوكبنا، فإنّ الخيار الرّأسمالي وما ينتج عنه من كوارث، يدفع المجتمع الأهلي للبحث عن كيف يقاوم ويدافع عن الحياة. 

النظام الرأسمالي ظالم ومُفسد لمُقدّرات الطبيعة، ويعمّق يوما بعد يوم الفوارق الاجتماعية الفاحشة ! وهو سبب الكوارث المتلاحقة في البيئة وعلى رؤوس الفقراء، من اضطرابات المناخ واستباحة تنوع الحياة، وإبادة أنواع كثيرة من الحيوانات والنباتات إلى الأبد، والحروب من أجل السيطرة على النفط وقريبا من أجل السيطرة على الماء، إذ أضحى الماء العذب ثروة تقِلّ يوما بعد يوم بشكل خطير ومتواصل نتيجة تحويل وجهة الأنهار والاستهلاك المهول للمياه في غير الأساسيات، والرأسمالية تزيد الفوارق الفاحشة بين الشمال والجنوب، وبين حفنة من الأغنياء وملايين الفقراء في كل بلاد، وتمسّ بشكل خطير بمقومات الحياة : الهواء والماء والشجر، بل وتصنع الأوبئة كأنفلونزا المواشي والبقر والطيور والخنازير... والقادم أخطر، والاحتباس الحراري والغازات السامة، والقضاء على التوازن البيئي وتهديد تنوّع الحياة. 

إنّ أيّ مشكلة أو مأساة في أي مكان تأثّر في كل البلدان فعالمنا تحوّل، أكثر من أي وقت مضى، إلى "سفينة" بكل ما تعنيه هذه الكلمة من خطورة وحميمة وشعور بالكارثة، خاصة إذا استمر هذا الإفساد المنظّم للشركات المجرمة المتعددة الجنسية والتي لا يهمّها إلا زيادة أرباحها المالية !

إنّ الدولة الاقتصادية الناجحة هي الدولة السياسية الناجحة، الدولة التي عندها القدرة على اتخاذ القرار، وتبنّي خيارات اقتصادية علمية والسّير فيها، وليس الدولة ـ المسخ التي كل همّها الاستهلاك وأمن النظام المباشر ونشاط السياحة وتهريب الأموال ! ! ! حتى لا تكون مجتمعاتنا مجرّد مستهلكة جاهلة خانعة غافلة متهافتة ومبدّدة لأوقاتها وثرواتها، ولمنع نهب ثروات المجتمع وتبديد أمواله، والخروج من الربا المحلي والعالمي المخرّب للاقتصاد، والقضاء على الفوارق الفاحشة في الرزق بين الأغنياء ووكلائهم والفقراء وعائلاتهم، والتصدّي لأكل مال اليتامى والمعوّقين، ورفض سرقة ما بباطن الأرض واقتسام العمولات مع الشركات المتعددة الجنسية، والاستنكار القاطع لقتل النفس بغير حق، أيّا كانت، أو تعذيبها وإيذائها، مع الإقرار بواجب رفض السكوت عن الظلم الواقع في فلسطين وفي بلاد الجنوب. 

واجب علينا جميعا التعاون في تدريب من نستطيع على المهارات المختلفة، وتشجيع المبادرة والابتكار، خاصّة ومجتمعاتنا في أوضاع سياسيّة تعيسة مع حالة اقتصادية متردّية وتفكّـك اجتماعي، والعمل مع الجيران أو الأصحاب، لمواجهة "طوفان" الفقر والظلم والمرض، فريضة لازمة على كلّ مواطن ومواطنة، لتنظيم جهدهم وكفاءاتهم، سواء كان ما يواجهونه تخريبا ثقافيا أو تسميما سياسيا أو سلعا أو همجية للتّخريب الاقتصادي والتّعطيل الاجتماعي. 

وجب التّدريب على الدّفاع المدني للكافّة، حتّى يكون كلّ فرد رجلا أو امرأة مؤهّلا ومستعدّا، إذا ما جابهتنا كارثة سواء بيئية أو اقتصادية، عدوانا أو وباءا... والوعي اللاّزم بأنّ هذا التّأهيل ليس نافلة بل واجب، جهاد حقيقي لا "حديث النّفس". والفرد "العادي" لا يُسأل فقط عن عمله الشّخصي، بل سيحاسَب أيضا عن مجتمعه، بناء على الوحدة بين الفرد ومجتمعه المستمدّة من معنى التّوحيد "يوم تدعى كلّ أمّة لكتابها" (...) فلكلّ أمّة حسابا جماعيّا عند الله إلى جانب الحساب الفردي لكلّ إنسان، ممّا يجعل مسؤوليّة المجتمع تقع على كلّ عضو من أعضائه... شعور كلّ فرد بأنّه سيحاسب على مجتمعه وسلوكيّاته وأوضاعه كما سيُحاسب عن نفسه، يبيّن رسالة الاستخلاف ويربط العبادة والتّوحيد بما يحقّق الحياة الطيّبة في الدّنيا للمجتمع الأهلي وفي الآخرة لكلّ فرد من أفراد المكلّفين بعينه " تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ " سورة الملك 1ـ2. تجديد الصّلة بالله سبحانه وتعالى، والتأكيد على المؤاخاة كفكرة دافعة يوميّا للتأليف بين أعضا