بهدوء

بقلم
محمد بن نصر
تفعيل القيم الدينية في المجتمع (2/2)
 مقدمة
لم يستعد الدّين -بعد- فعاليته، حيث إنّ التّنامي السّريع والواسع للظّاهرة الإسلاميّة في المجتمع لا يتناسب مع الدّور الذي يلعبه الدّين في تغيير المجتمعات وإصلاحها؛ حتّى بدت  هذه الحالة لدى البعض كأنّها ظاهرة مولدة للمشكلات أكثر منها منتجة للحلول. 
 إنّ هذه الورقة صدى لأسئلة الطّلبة المهمومين بالسّؤال عن شروط التّفعيل، وقد سعينا في الجزء الأول منها إلى البحث في هذا الإشكال من خلال التطرّق إلى عنصري: «الفكرة بين الصّلابة المبدئيّة والهشاشة الواقعيّة» و«ما يجب تجاوزه لإيجاد الفعالية المفقودة للدّين». وسنواصل في هذا الجزء الأخير البحث في العناصر التالية: «الإنسان محور الاهتمام»، و«من الشّأن الخاصّ إلى الشّأن العام ومن علم المعلوم إلى علم المجهول»، و«ضرورة تحرير الدّين من التّراث الدّيني». 
الإنسان محور الاهتمام
قامت الإنسيّة الغربيّة على مقولة مركزيّة الإنسان في الوجود، وكان ذلك أمرا في غاية الأهمّية بالرّغم من المآلات الكارثيّة(1) لها، وتكمن أهمّيتها في إعادة الثّقة للإنسان الغربي بنفسه، وانطلاقه في مسار تحرّري شامل مدفوعا إيجابيّا بالإيمان بقاعدة التّنافس على الإتقان، ومدفوعا سلبيّا بالخوف من قاعدة البقاء للأقوى، فيبرّر لكلّ أنواع النّهب الرّاقي أو بالأحرى النّهب النّاعم، تنافسا مدمّرا لأنّه رهن السّعادة الأرضيّة للنّسبة الأقلّ من البشريّة، بشقاء النّسبة الأكبر منها. ولكن نجاحات الإنسان  المتحرّر من قيود التّقليد وثقل الماضي جعلته يشعر بالغرور حتّى تألّه فعمد إلى إلهه فقتله؛ قتله ذاتا فلم يعد يعترف بالوحي مصدرا للمعرفة، وقتله موضوعا فلم يعد يهتم بأسئلة المصير الكبرى المتعلّقة بالإنسان ومصيره والكون ومآله.
ولكن تراكم المعرفة الإنسانيّة في معرفة العالم يقابله تضاؤل في معرفة الإنسان بنفسه. في كتابه الإنسان ذلك المجهول«إن الإنسان ابتعد عن نفسه ونسيها بقدر ما اهتم بالعالم الخارج عن نفسه، وتقدم فيه»، يقول علي شريعتي «ولكن مع هذا كله، لا يمكن غض النظر عن الجهد الذي بذل في سبيل معرفة الإنسان، وكوّن له نوعا من الانطباع عن الذّات والحقيقة الجوهريّة؛ لأنّ «معرفة الإنسان» تعني معرفة أنفسنا، وبدونها يستوعبنا نوع من «اللاّوعي عن الأسود»، بحيث لا يمكن لضوء العلم المشعّ (الوعي) أن يقودنا إلى مكان ما، وهذا هو عين النّقص الفجيع الذي حرم إنسان هذا العصر، من الفهم الصّحيح لمعنى الحياة ومفهومه الوجودي، بالرّغم من نجاحاته الباهرة في عالم العلم، وعلى حدّ قول «ديوثيّ» جعل الإنسان أضعف من الإنسان القديم في سيطرته على نفسه وأكثر جهلا منه»(2). 
أتيت على ذكر مسألة مركزيّة الإنسان؛ لأبيّن الفرق بين القول بالمركزيّة، والقول بالاهتمام المحوري بالإنسان، وأثر ذلك في تفعيل المبادئ الدّينية. دافع المفكرون الإسلاميّون القدامى في معظمهم عن الحرّية الإلهيّة على حساب الحرّية الإنسانيّة، فطغت الموضوعات ذات الطّابع العمودي، مثل: مشكلة الحرّية، الجبر والاختيار، وحرّية الإله في مقابل حرّية الإنسان...وغابت المسائل الأفقيّة؛ فلم يقع الاهتمام بالإنسان باعتبار أنّ الاهتمام به قد يُعلي من شأنه، حتّى يصبح المخلوق في منزلة الخالق، بل إنّ الإنسان -الذي كرّمه اللّه تكريما مطلقا- أصبحت كرامته مرتبطة بصفته الثّانية، حيث أنّ انتماءه العرقي والمذهبي والعقدي مُقدّم على ذاته الإنسانيّة، ولعلّ ذلك ما أسهم في تهميش الإنسان وقضاياه قديما؛ ولعلّ مآل الإنسان المغرور بعقله وبقدرته على الإدراك، وادعائه الاكتفاء بذاته المُحرّرة، فلم يعد بحاجة للعناية الإلهيّة، هو ما جعل الفكر الإسلامي المعاصر يتردّد في التّعاطي الإيجابي مع منجزات العقل الإنساني؛ خوفا من أن يحوّله تماهيا مع الفلسفة الغربيّة، التي قالت بمركزيّة الإنسان إلى ندّ للإله. 
هناك فرق شاسع بين القول بمركزيّة الإنسان في الوجود، والقول بكونه محور اهتمام الشّارع، وبالتّالي محور اهتمام الإنسان. من الصّعب أن يستعيد الدّين حيويته وفعاليته في صياغة الحياة الإنسانيّة إذا ظلّ على هذا الحذر من الإنسان ومن أشواقه التّحرّرية.
من علم المعلوم إلى علم المجهول
ترتبط فعاليّة الدّين أيضا بمدى وعي المتديّنين بضرورة إعادة النّظر في تصنيف العلوم وترتيبها. العلم في تقديري لا يتعدّى كشف المجهول، واختراع الجديد، وتطوير القديم، وتوضيح الغامض. ولو طبقنا هذه المواصفات على علومنا -التي نسمّيها علوما شرعيّة- لوجدنا أنّ معظمها من المعلوم المُعاد، لكنّ هذه العلوم الشّرعيّة التي حازت مكانة الشّرف الأولى قد بلغت سدرة المنتهى، وكما يقول ابن خلدون «...إنّ هذه العلوم الشّرعيّة النّقليّة قد نفقت أسواقها في هذه الملّة بما لا مزيد عليه، وانتهت فيها مدارك النّاظرين إلى الغاية التي لا شيء فوقها، وهذبت الاصطلاحات ورتّبت الفنون فجاءت من وراء الغاية في الحسن والتّنميق…»(3) 
 لطالما ألحّ عليّ السّؤال حول الحكمة من تفصيل القرآن لأحكام الدّين، بينما اكتفى بإشارات وتوجيهات عامّة عندما يتعلّق الأمر بالطّبيعة أو الإنسان. وأقدّر-واللّه أعلم-أنّ اللّه أراد من المؤمن أن يفرغ جهده في معرفة أسرار الطّبيعة وأسرار نفسه -فردًا وجماعة-، وأن يتقبّل بنفس مطمئنة ما أمره بفعله، وأن يترك الخوض في الجزئيّات التي لا تؤدّي في النّهاية إلاّ إلى بلبلة الأذهان وغياب الفعل، وكذلك الخوض في قضايا عالم الغيب؛ فقال عن علمنا به إنّه علم محدود، وعلم مُؤتى، ولم نكسبه بجهد منّا، ذلك حظّنا منه. فلماذا نريد أن نزن بالعقل ما لا يوزن به وتركنا ما به يوزن؟ «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً، وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً، إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراّ» (4) ‏‏.
 بهذا المعنى، فالعلم -سواء أكان موضوعه كتاب اللّه أم الطّبيعة، أم الإنسان- علم شريف تشدّ إليه الرّحال، ولذلك عندما قال النّبي ﷺ «أطلبوا العلم ولو في الصّين» ـوما أظنّ أن العلم المطلوب هو علم يتعلّق بالكتاب والسّنة، وإن كان ذلك ليس محالا من النّاحية النّظرية، كان يتحدّث عن العلم في معناه الشّامل، بل إني أظنّ- وليس كلّ الظّن إثم- أنّ العلم الذي يجب أن تشدّ إليه الرّحال هو العلم المتعلّق بالطّبيعة وبالإنسان، أمّا العلم بالأحكام فقد فصل فيه الكتاب والسّنة من أجل أن يتربّى عليه الإنسان، وليس من أجل صرف العمر في تحصيل الحاصل واستفراغ الجهد في الخلافات الفرعيّة. وما نشهده من تكاثر لطلبة العلم فيما يطلق عليه عادة العلوم الشّرعيّة، وكذلك ترك الكثير من أصحاب الاختصاصات الأخرى مجالات تخصّصهم لينخرطوا في المعركة الوهميّة المتعلّقة بإعادة قراءة النّص الدّيني- وهو حقّ أريد به باطل- حيث توهّمت النّخبة أنّ نهضة الأمّة أصبحت رهينة تجاوز هذه المسألة، بدل أن يبدع كلّ في مجاله في ظلّ الهدي القرآني، دليل على أنّ الأولويّات المقلوبة هي التي هدرت الطّاقات الذّهنية والإمكانات البشريّة في غير مجالها.
 منذ أن بدأ المسلمون التّفكير في إصلاح أوضاع مجتمعاتهم، جعلوا من التّعليم حجر الزّاوية في عمليّة الإصلاح؛ فسعوا أوّلا إلى إدماج العلوم العصريّة في برامج التّعليم في المؤسّسات الإسلاميّة التّقليديّة، ولكنّهم جوبهوا بمعارضة من غالبيّة فقهاء تلك المرحلة، أولئك الفقهاء الذين رفعوا شعار صون الدّين والعقيدة، بعضهم عن حسن نيّة أو عن سوء فهم أو عنهما معا، معتقدين -خطأ- أنّ الدّين لا دخل له في الشّأن العام، طوّروا عن غير وعي منهم ما أطلقنا عليه العلمانيّة الدّينيّة غير الواعية بنفسها، وبعضهم من أجل المحافظة على موقعه الاجتماعي المميّز مع علمهم أنّ هذا الموقع الاجتماعي الذي كانوا يتمتّعون به في المجتمع التّقليدي آيل إلى التّهميش إن لم نقل إلى الزّوال، بدليل أنّ علماء الجامعة الزّيتونيّة -على سبيل المثال- الذين عارضوا مشاريع إصلاح التّعليم الزّيتوني قد سارعوا إلى إلحاق أبنائهم بالمعاهد العصريّة التي تخرّجت منها النّخبة الحديثة(5)، حيث أصبح عدد منهم في ما بعد من أعمدة المدرسة العلمانيّة في أشكالها الأكثر تطرّفا. تلك المعاهد التي كانت نواة الجامعات العصريّة في العالم الإسلامي، والتي بدأت تدريجيّا تتخلّص من البرامج ذات المحتوى الدّيني، فإذا كانت نهايات القرن التّاسع عشر قد شهدت الدّعوة إلى إدخال العلوم المدنيّة في المؤسّسات العلميّة التّقليديّة، فإنّ نهايات القرن العشرين قد شهدت الدّعوة إلى إدخال العلوم الشّرعية في الجامعات التي غلب عليها التّوجه العلماني؛ فقوبلت بنفس القوّة من الرّفض، فبرزت بعض المؤسّسات العلميّة في العالم الإسلامي التي سعت إلى تحقيق فكرة الدّمج بين العلوم، ولكن هذه المحاولات واجهت مشكلات في التّنزيل؛ بسبب عدم توفر الشّروط الموضوعيّة لتفعيل الفكرة، وأيضا بسبب الاختلاف في فهم المشروع، فالفكرة عادة ما تفقد خصوبتها إذا تحوّلت إلى خانة ضيقة تُخنق فيها الأسئلة وتُغتال فيها المبادرة. المشروع الفكري بطبعه يكره التّقولب، ويرفض الاستقطاب، والحقيقة في تعيّنها الإنساني عادة ما تكون موزّعة بين أطراف عديدة. والتّمترس في إطار الثّنائيّات المتقابلة  المتنافرة يقتل الحوار، ويحدّ من إمكانيّة الإبداع، والخروج من التّخلف الموروث والتّخلف المفروض.   
ضرورة تحرير الدّين من التّراث الدّيني 
لكي يستعيد الدّين فعاليته، يجب أن يقوم المتديّنون بمعركة مع أنفسهم، ويستعدّوا للقيام بعدد من الخطوات الجارحة، لا شكّ أنّ مخالفيهم من التّيارات الأخرى لجؤوا إلى التّراث ينتقون منه النّصوص والوقائع التي تُدينهم؛ فأصبحوا على حذر من كلّ عمل يسعى لتحرير معاني الدّين ممّا لحق بها من أفهام فاسدة، أو بالأحرى من أفهام معبّرة عن ثقافة عصرها أكثر من كونها مُعبّرة عن جوهر الدّين. ليس من المعقول أن ندعو للحرّية، ونستمر في الدّفاع عن مفاهيم مناقضة لها، ونصوص ألبوسها قداسة، بدعوى أنّ الأمّة تلقّتها بالقبول، مازالت متداولة ومستخدمة في برامجنا التّعليميّة، دون مراجعة. بل نلجأ في أغلب الأحيان إلى تبريرها والدّفاع عن أصحابها، وكأنّهم قوم فوق التّاريخ وفوق الجغرافيا؛ حتّى أصبح «المقدّس الإنساني» حاجزا أمام فهم المُقدّس الإلهي (كلام اللّه) دون وساطة، بل مانعا من التّعامل العلمي النّزيه لتفسير وتأويل المتقدّمين له.
 لنأخذ على سبيل المثال، الفخر الرّازي، الأصولي والمتكلّم الجهبذ والمفسر المالك لناصية اللّغة كما تصفه كتب التّراجم، ففي تفسيره للآية  «ومِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يتفكرون»(6)، يقول الرّازي: «قوله خلق لكم دليل على أنّ النّساء خلقن كخلق الدّواب والنّبات وغير ذلك من المنافع! كما قال تعالى:«خلق لكم ما في الأرض» وهذا يقتضي أن لا تكون مخلوقة للعبادة والتّكليف. فنقول: خلق النّساء من النّعم علينا، وخلقهن لنا، وتكليفهنّ لإتمام النّعمة علينا، لا لتوجيه التّكليف نحوهن مثل توجيهه إلينا... وأمّا من المعنى فلأنّ المرأة ضعيفة الخلق، سخيفة، فشابهت الصّبي؛ لكنّ الصّبي لم يكلّف، فكان مناسبا أن لا تؤهّل المرأة للتّكليف؛ لكنّ النّعمة علينا ما كانت تتمّ إلاّ بتكليفهن؛ لتخاف كلّ واحدة منهنّ العذاب؛ فتنقاد للزّوج، وتمتنع عن المحرّم، ولولا ذلك لظهر الفساد»(7).
 طبعا لا نجد من عاب عن الرّازي في عصره هذا التّأويل الغريب، الذي أسقط به إنسانيّة المرأة وأسقط عنها التّكليف، وذلك -لعمري- أمر طبيعيّ باعتبار الثّقافة السّائدة في ذلك العصر، لكن أن يظلّ هذا الكلام على حاله ويُدرّس في علوم التّفسير فتلك هي المصيبة. المشكلة ليست فقط في فساد هذا القول، لكنّها في القيم التي يرسّخها باعتباره جسر العبور لفهم النّص. ويمكن أن نقيس على ذلك في مسائل جدّ حيويّة: هل يمكن أن يكون لحديثنا عن الحرّية معنى وبين أيدينا نصوص تُجرّم الحرّية؟ وهل يمكن أن نحارب الإرهاب وإن كنت أفضل مصطلح الجريمة المنظّمة، لأنّ مصطلح الإرهاب لم يُرد منه محاربة الإرهاب بقدر ما أريد منه إرهاب من ينتقد قوانين الإرهاب التي تستهدف بالدّرجة الأولى الحرّيات العامّة والخاصّة، هل يمكن أن نكون ضدّ العنف المنظّم وفي نفس الوقت ندرّس النّصوص المُؤسّسة له؟
 قد يقول قائل: لم تعيبون علينا وجود هذه النّصوص والأقوال المناقضة للحرّية والعدالة في منظوماتنا الفكرّية، ألا يوجد أمثالها وأكثر في التّراث الفكري الغربيّ؟ أكان ذلك عائقا لتفعيل القيم الغربيّة؟ اعتراض وجيه، ولكن غاب عنه أمر في غاية الأهمّية وهو أنّ الغرب يتعامل مع الأقوال المناقضة لأقواله الحاضرة وليس بالضّرورة مع مناقضة لأفعاله مع غيره باعتبارها تاريخا توقّف عن صناعة الوعي العام لشعوبه. بلغة أخرى، قرأ الغرب تاريخه واستخلص منه العبر وتجاوزه زمنا ووجدانا، وقد ساعده في ذلك عظمة حاضره قياسا بضعف ماضيه، أمّا نحن، فماضينا متلبس بحاضرنا، ولعلّ ذلك يعود لعظمته قياسا بحاضرنا. ماضينا يتحكّم فينا، ألا ترانا ننتصر للفرقة الفلانيّة وللمذهب الفلاني، منخرطين بحماسة فائقة في معركة فريدة من نوعها، حيث يشترك فيها الأحياء والأموات!  من يستمع لنقاشاتنا ومحاوراتنا قد يلتبس عليه الأمر؛ فلا يدري أنحن أبناء القرن الرّابع أو الخامس هجري أم أبناء القرن الواحد والعشرين؟ 
يجب أن نحسم هذه المعركة مع أنفسنا أولا، قبل أن يحسمها آخرون من بني جلدتنا على حسابنا، ومن منطلقات وأغراض تتناقض مع منطلقاتنا وأغراضنا. نحن أولى من غيرنا بالوقوف على ما اعوج من تراثنا، وأن نمتلك الجرأة والشّجاعة لنقول إنّه يتناقض مع قرآننا وما صحّ من سنّة نبينا ﷺ. ونتوقف عن الإسراع باتهام من يقدّم قراءة جديدة لقرآننا أو مراجعة مدوّناتنا الحديثيّة بالكفر والإلحاد. الغريب أنّنا نفعل ذلك وألسنتنا تردّد أنّ القرآن لا تنقضي عجائبه، وفي الوقت نفسه لا نسمح لأحد بالقول بأنّه قد تأمّل في القرآن واستخرج منه معاني لم يتوصّل لها أحد من قبله. أيتجرّأ ويقول إنّه أتى بما لم يأت به علماؤنا القدامى؟  بل نعتبر عمليّا ما قاله البخارى ومسلم في منزلة الوحي؛ لا يجوز لأحد مراجعته. نقول ذلك وفي الوقت نفسه نقرأ لمسلم وصفه للبخاري بـ«أنّه منتحلي الحديث»(8) ونحن نتصدّى لكل من يحاول أن ينقد الصّحيحين؛ مخافة أن يكون ذلك مدخلا للتّشكيك في القرآن. مالكم كيف تحكمون؟ أتجعلون الجهد البشري المُعرض بطبيعته للنّقصان في مقام الوحي الذي تعهّد اللّه بحفظه فاستعصى عن كلّ محاولات التّحريف، قديمها وحديثها حيث قال عزّ وجلّ «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»(9). لا خشية على القرآن وإنّما الخشية على أنفسنا وعلى مسؤوليّة الاستخلاف التي حُملناها.
إذا لم نتحلّ بالجرأة العلميّة الكافية للقيام بهذا العمل -الذي لا نرى حرجا في حواراتنا  العلميّة الخاصّة من ولوجه، ولكن عندما يستوجب الأمر الإعلان عن ذلك نكبكب ونرتقي أوّل ربوة ونتسلّح بالانتظار- فإنّ الدّين سيكون فاقدا للفعاليّة، ومعرّضا للعطالة بفعل خطاباتنا المزدوجة . 
خاتمة
تلك هي شروط تفعيل الدّين وقيمه في المجتمع كما نزعم. لقد أمضينا وقتا طويلا في توضيح مبادئ الدّين ورسالته، وعلينا الآن أن نفكّر بجدّية في شروط تفعيلها في الواقع، ولا يكون ذلك ممكنا -في تقديرنا- إلاّ بتوصيف صحيح للواقع، والاهتمام بالإنسان مُطلقا -بغض النّظر عن انتمائه الفكري، وتموقعه الاجتماعي -والتّصدي لمشكلات المجتمع الحقيقيّة، والتّفاعل مع كلّ الأفكار التي أثبتت جدارتها في هذا  المجال، والترفّع عن القضايا الهامشيّة المفتّتة للجهد والمعطلة عن التّفكير.
الهوامش
(1) تُعتبر هزيمة العقل أمام الغريزة وهزيمة الأفكار أمام الأشياء وهزيمة القيم أمام المنافع، أكثر النتائج كارثية على الحياة الإنسانية 
(2) علي شريعتي، أصالة الإنسان (بيروت : دار الأمير، 2001) ص.55 
(3) المقدمة:  مصدر سابق، ص436
(4) ‏سورة الإسراء‏،‏ من الآية85 إلى الآية87‏ 
(5) في دراسة بعنوان « العلماء بين العجز النظري والتهميش الواقعي» تعرضنا فيها للأسباب التي جعلت النخبة التقليدية التي رفضت في اتجاهها الغالب التحديث، كانت سببا في إنتاج أشكال من الحداثة المشوهة والتي تعكس بدورها حالة الانفصام التي عاشها أغلب روادها  
(6) ‏سورة الروم،‏ الآية 21
(7)  التفسير الكبير25/97
(8)  صحيح مسلم - مسلم النيسابوري ج 1 ص 22
وقد تكلم بعض منتحلى الحديث من أهل عصرنا في تصحيح الأسانيد وتسقيمها بقول لو ضربنا عن حكايته وذكر فساده صفحا لكان رأيا متينا ومذهبا صحيحا، إذ الإعراض عن القول المطرح أحرى لإماتته وإخمال ذكر قائله وأجدر أن لا يكون ذلك تنبيها للجهّال عليه، غير أنا لمّا تخوفنا من شرور العواقب واغترار الجهلة بمحدثات الأمور وإسراعهم إلى اعتقاد خطأ المخطئين والأقوال السّاقطة عند العلماء رأينا الكشف عن فساد قوله وردّ مقالته بقدر ما يليق بها من الرّد أجدى على الأنام وأحمد للعاقبة إن شاء اللّه 
وزعم القائل الذى افتتحنا الكلام على الحكاية عن قوله والأخبار عن سوء رويته أن كل إسناد لحديث فيه فلان عن فلان وقد أحاط العلم بأنهما قد كانا في عصر واحد وجائز أن يكون الحديث الذى روى الرّاوى عمّن روى عنه قد سمعه منه وشافهه به، غير أنّه لا نعلم له منه سماعا ولم نجد في شيء من الرّوايات أنهما التقيا قطّ أو تشافها بحديث أن الحجّة لا تقوم عنده بكلّ خبر جاء كهذا المجئ حتّى يكون عنده العلم بأنّهما قد اجتمعا من دهرهما مرّة فصاعدا أو تشافها بالحديث بينهما أو يردّ خبر فيه بيان اجتماعها وتلاقيهما مرّة من دهرهما فما فوقها فإن لم يكن عنده علم ذلك ولم تأت رواية تخبر أن هذا الرّاوى عن صاحبه قد لقيه مرّة وسمع منه شيئا لم يكن في نقله الخبر عمّن روى عنه ذلك والأمر كما وصفنا حجّة وكان الخبر عنده موقوفا حتّى يردّ عليه سماعه منه لشيء من الحديث قلّ أو كثر في رواية مثل ما ورد. 
وهذا القول يرحمك اللّه في الطّعن في الأسانيد قول مخترع مستحدث غير مسبوق صاحبه إليه ولا مساعد له من أهل العلم عليه وذلك أنّ القول الشّائع المتّفق عليه بين أهل العلم بالأخبار والرّوايات قديما وحديثا أن كلّ رجل ثقة روى عن مثله حديثا وجائز ممكن له لقاؤه والسّماع منه لكونهما جميعا كانا في عصر واحد وإن لم يأت في خبر قطّ أنهما اجتمعا ولا تشافها بكلام فالرّواية ثابتة والحجّة بها لازمة الاّ أن يكون هناك دلالة بيّنة أنّ هذا الرّاوى لم يلق من روى عنه أو لم يسمع منه شيئا، فأمّا والأمر مبهم على الإمكان الذى فسّرنا فالرّواية على السّماع أبدا حتّى تكون الدّلالة التى بيّنا فيقال لمخترع هذا القول الذى وصفنا مقالته أو للذّاب عنه قد اعطيت في جملة قولك أن خبر الواحد الثّقة عن الواحد الثّقة حجة يلزم به العمل ثمّ ادخلت فيه الشّرط بعد فقلت حتّى نعلم أنهما قد كانا التقيا مرّة فصاعدا أو سمع منه شيئا فهل تجد هذا الشّرط الذى اشترطته عن أحد يلزم قوله وإلاّ فهلمّ دليلا على ما زعمت فإن ادعى قول أحد من علماء السّلف بما زعم من ادخال الشّريطة في تثبيت الخبر طولب به ولن يجد هو ولا غيره إلى ايجاده سبيلا ..... الخ كلامه.
(9) ‏سورة الحجر،‏ الآية 9