تقديم كتاب

بقلم
د.عماد هميسي
الأنا والآخر في القرآن الكريم
 إنّ القول بأنّ الإنسان مفطور على الاجتماع، وبأنّه كائن اجتماعي قد بيّنه الإسلام بوضوح، ودّعمته الدّراسات الإنسانيّة بمختلف اتجاهاتها، وتّنوع أساليبها: الفلسفيّة، والنّفسية، والاجتماعية، والاقتصادية، القديمة، و الحديثة. فالإنسان خلق مدنّيا بالطّبع، لأنّه لا يمكن بحال أن يحقّق الأفراد مصالحهم إلاّ بالاجتماع و التّعاون، ولا تنتظم للإنسان مصالحه إلاّ عند وجود مدنّية تامّة، حتّى أنّ هذا يحرث، وذلك يطحن، وذلك يخبز، وذلك ينسج، وهذا يخيط، فيكون كلّ واحد منهم مشغولا بمهمّ، وينتظم من أعمال الجميع مصالح الجميع، فثبت أنّ الإنسان مدنّي بالطّبع. وهذا يعني وجود ما يسّمى  بالعلاقات الإنسانيّة التي تكوّن المجتمع الإنساني، فقد تعرّض الإسلام إلى هذه الصّلات تعرّضا يفيد أنّها عديدة كمّا وكيفا، فهي صلات الآباء بالأبناء، وصلات الأبناء بالآباء وصلات الأقارب بالأقارب، وصلات المؤمنين بغير المؤمنين، وصلات الرّاعي بالرّعيّة إلى غير ذلك مّما لا يدخل تحت حصر.
غير أنّ تلك العلاقات على الرّغم من حاجة المجتمع الإنساني إليها، وعلى الرّغم من كونها المقوّم الأساسي في تكوين الاتحاد، الذي لولاه لما استطاع الإنسان أن يحافظ على بقائه، ولا أن يكونّ لنفسه حضارة، فإنّها معرضة للاعتداءات والاضطرابات. لاسيّما أنّ الفساد كثيرا ما يبعد الإنسان عن الفطرة، فيتحّول إلى كائن عدواني، تنطبق عليه مقولة «الإنسان للإنسان عدّو، والإنسان للإنسان ذئب». 
فكان لا بدّ من وجود قوانين وأنظمة وتوجيهات وقواعد إلزامية تحدّد وتحمي العلاقات الإنسانية، وقد سبق الإسلام الفكر الإنساني بصفة عامّة في اعتبار هذه الأنظمة والقوانين أمرا لازما. إذ أنّه بمجرد ما التأمت للمسلمين جماعة قوّية وتهيّأت لهم الظّروف لإقامة مجتمع متميّز، بدأت الأوامر والتّشريعات القاضية بإقامة وتأسيس السّلطة والقوانين التي تضبط سلوك الأفراد، وتحدّد حقوقهم، وتبّين واجباتهم. وانتشرت من جهة أخرى التّوجيهات الإسلاميّة في القرآن والسنّة، كلّ ذلك من أجل بناء علاقات إنسانيّة سليمة.
وفي هذا المضمار أشير إلى رغبتي في دراسة هذه العلاقات الإنسانيّة من خلال القرآن الكريم أعبّر عن حاجتي لأن أتدبّر الآيات القرآنية، وأن أنكبّ على تحليلها، باحثا عن القواعد والمبادئ التي سنّها القرآن الكريم حماية للعلاقات الإنسانية ممّا يفسدها، وتحقيقا للألفة بين البشر وحتّى تستقيم الحياة على منهجها القويم. 
وإيمانا منّي بضرورة الاهتمام أكثر بموضوع العلاقات الإنسانيّة سعيت إلى إبراز جوانب أخرى من هذا الموضوع، والتي لم يقع تناولها في كتب السلّف مثل الجانب النّفسي والجانب الأخلاقي والجانب الاقتصادي... فحاولت الرّجوع إلى كتب التّفسير مثل: «تفسير التّحرير والتّنوير لابن عاشور»، وإلى كتب الأخلاق مثل «كتاب الأخلاق»، وإلى كتب الفقه مثل كتاب «الحلال والحرام ليوسف القرضاوي»، وإلى كتب المعاصرين مثل كتاب «نظام الأسرة في الإسلام»، وإلى كتب القانون المدني مثل كتاب «الموسوعة الجنائيّة»... للاستعانة بها، و لعلّي أجد فيهما مبتغاي.
وما يمكن قوله هو أنّ محاولة دراسة هذا الموضوع من عدّة جوانب، من شأنه أن يضفي على الدّراسات نوعا من الحداثة التي نحن في أمسّ الحاجة إليها الآن، ذلك أنّ هذه الآيات القرآنيّة تحتاج إلى نظرة جديدة تتماشى مع مقتضيات العصر، لأنّها مصدر متجدّد وصالح لكل زمان ومكان.
ومن أهمّ القضايا المتّصلة بموضوع العلاقات الإنسانيّة التي استخرجتها بعد قيامي بالدّراسة التحليليّة للآيات القرآنية وجعلتها على شكل فصول:
الفصل الأول: علاقة المسلم بالبشر عامّة، ويتضمّن مبحثين: 
- أوّلا: كيف يمكن أن نحمي العلاقات الإنسانيّة ممّا يفسدها كالكذب، وقول الزّور، وبذاءة اللّسان، والتّحاسد والتّدابير.
- ثانيا: ما هي السّبل الكفيلة بتوطيدهــا و تنميتها و نذكر منها: الخلق الكامل، و التّعاون الإنســاني، و المعاملة الحسنة. 
الفصل الثاني: علاقة المسلم بالمسلمين، والذي تناولت فيه: 
أوّلا: يتعلّق بدعوته ﷺ إلى حماية الأنفس، والمحافظة على الأعراض والأموال. وأمّا الثّاني فيتعلّق بالأسس التي سنّها الرّسول ﷺ لتنظيم العلاقة بين المسلم والمسلمين هذه النّعمة الجديرة بالتنّويه، إذ بوجودها بين النّفوس تزول الأحقاد، وتنمحي البغضاء، وتتوارى الخلافات ويذهب شبح الهلاك إلى غير رجعة، وينشأ عنها حتما وحدة إنسانية لا تنفصم.
الفصل الثالث: علاقة المسلم بمحيطه والتي تناولت فيها بالدّرس خمسة مباحث: من رفق بالزّوجة، ودعوة للبرّ بالوالدين، ورحمة بالأولاد، وصلة لذي الرّحم، وحسن جوار للجيران، فالشّعور بالاستقرار الذي يجده المسلم في محيطه، يعدّ حقلا خصبا لتنمية العلاقات وإنعاش الصّلات الإنسانيّة وتغذيتها.