قراءات

بقلم
محمد بن الظاهر
«الأروقة السوداء».. عن الحجر الصحي وأشياء أخرى
 مازلتُ أتذكّر إحدى قصص «أنطوان تشيخوف» المدهشة، والتي أخذتْ فيها إحدى الشّخصيّات (الأب) السّرد مطيّة للنّصح لشخصيّة أخرى (الإبن) بتجنّب التّدخين. هذا فيما يخصّ سباق المسافات القصيرة (إستعارة من يوسف إدريس ذات حوار له، كناية عن كتاب القصّة القصيرة)، أمّا بخصوص الطّويلة فقد يكون الأمر مختلفا. هنا يلحّ سؤال «جدوى الأدب؟!» دقّ بابنا، أن يتكلّف السّرد إبداع/خلق الحلول الواقعيّة لما نعانيهِ من آلام، وأن يرمّم ما تحطّم ويعيد ترتيب الفوضى.
تأتي رواية «الأروقة السّوداء» لصاحبها محمد النعمة بيروك، أحدثُ إصداراته والتي تعدّ التّجربة الثّانية بعد روايته «كولومينا»، هذا النّص الذي حاز على جائزة عبد القادر الحسيني بالقاهرة، بينما وصلت «الأروقة السّوداء» للقائمة القصيرة لجائزة راشد بن حمد الشّرقي للإبداع في دورتها الأولى. وقد فصلها إلى ثلاثة فصول؛  بدر، سمية، أمّة. وعدد صفحاتها 136 من الحجم المتوسّط، وصدرت طبعتها الأولى في سنة 2019 عن دار راشد للنشر- الفجيرة بدولة الإمارات العربيّة المتّحدة.
هذا النّص الذي يَعِدُ صاحبهُ بالكثير، يعالج إحدى التّيمات التي عادةً ما ينظر إليها الكاتب ويعالجها في قالب سردي ماتع؛ لأنّها تصنّف ضمن الهامش، هذا الهامش الذي صنعناه نحن بالطّبع. تتجلّى للقارئ تيمة الرّواية في مطلع الفصل، حيث يجد الطّفل «بدر» وقت فراغ الصّالون فرصة سانحة ليمدّ يده بين السّتائر السّوداء للنّافذة ليشعر بألسنة الشّمس على يده «من حسن الحظّ أن أحداً لم يرني، وإلاّ كنت تعرّضتُ لحرمانٍ من مشاهدة الرّسوم على التّلفاز ومن «لعبة الثّعبان» على هاتف «نوكيا» لمدّة أسبوع على الأقل، تلك عقوبة أقسى من الضّرب.. هم على كلّ  حال لا يضربونني في الغالب بسبب حالتي المرضيّة كطفل قَمري، تلك هي الحسنة الوحيدة التي جلبها لي هذا المرض». 
بداية النّص تأتي قاطعةً الطّريق بذلك عن كلّ التّأويلات المُسبقة وبادئ الرّأي الذي يخلقه العنوان «الأروقة السّوداء». أيكون بهذا قد كشف صاحب الرواية للقارئ أوراقه منذ البداية؟.
لاتنفصل نصوصه السّردية عن المجتمع الصّحراوي وثقافته الحسانيّة، هذه الخلفيّة the background التي يدخل بها الكاتب لرسم عوالمه التّخيّليّة الغرائبيّة، سواء في «كولومينا» أو «الأروقة السّوداء». وقد أدخلنا منذ الفصل الأول على يد سارد/راوٍ مشارك صغير السّن اسمه بدر مصاب بداء «جفاف الجلد المصطبغ» xeroderma pigmentosum أو أطفال القمر (اللّمحة العلميّة في الرّواية) في أسرة غريبة يلحفها الغموض من مدينة كلميم، شخوصها يمتازون باللّبس نفسياً واجتماعياً. فالبطل بدر؛ ونرى سيميائيّاً علاقة الإسم بالحالة، لا يخرج للباحة للعب إلاّ عندما يرخي اللّيل سدوله، وفي النّهار يجالسه الأب الذي تقاعد بمعاشٍ ضئيلٍ من إحدى الشّركات كان يشغل فيها منصب سائق ولم ينل من التّعليم شيئاً، ففرض عليه الحال إقامة جبريّة. إذ لا يملك أصدقاءً يجالسهم إلاّ مذياعهُ القديم، ومع التّوغل في الأحداث نرى أنّ هذه الشّخصية/الأب رغم قساوتها لا تملك من أمرها شيئاً.
يروي بدر علاقته مع عالميّه الظّلامي/النّوراني، فالأول يسكنه والثّاني يغريه، وكذلك تصوير معاناة هذه الشّريحة الهامشيّة الهشّة مع المرض ونظرة المجتمع الصّحراوي بكلّ تناقضاته وتعقيداته. ولبدر أمٌّ تشتغل في مشفى تتكفّل بتشخيصه. 
مع اختفاء الأب ستتحوّل وضعيّة الأسرة «المستقرّة» جرّاء تخاصم مفتعل. وتتشابك خيوط السّرد (العقدة). لتتلقّف الخيط سمية أخت بدر، فترسم بورتريهاً نفسيّاً وعلائقيّاً عنها وعن الآخَرين. فبعد اختفاء الأب ستتكفّل هي بدورها رعاية بدر، فتنقطع عن الدّراسة والخارج وكذلك الإبن البكر بكّار سينقطع عن هذا «الخارج» ليوهم الجيران أنّه ذهب إلى فرنسا لدراسة الطّب والصّيدلة. وتعدّ هذه الشّخصية الحلقة الأقوى، إذ نجمَ من ظلمتيّ الحجر والجهل اللّذين احتُجز فيهما بدر.
في الفصل الأخير يتبدّد السّواد عن الشّخوص وعين القارئ بيد سارد مشارك ينمازُ بنرجيسيّتهِ وتسلطهِ الجنوني، وهي «أمّة» لتروي للشّرطة ما صنعت يداها من وقائع إختطاف بدر لأنّه «زهري» لتقضي على سوء الطّالع و «العين» والدّيون المتراكمة لشيوع فكرة «بركة» مثل هؤلاء الأطفال، ولإخفائه عن الأنظار ابتكرتْ مرضاً يمنعه من الظّهور «داء أطفال القمر» ووهمت بذلك بكر وسميّة المتبنّيين من إحدى الخيريّات، لأنّهما لا يُنجبان الأطفال.
رسائلٌ كثيرةٌ مبثوثةٌ هنا وهناك يتلمّسها القارئ عندما يباشر القراءة. يمكننا بهذا التّلخيص أن نقرأها قراءة أفلاطونيّة؛ عن سكان الكّهف الذين يربتون في الكهف متوهّمين حقيقة هذا العالم المظلم ولا ترهبهم سوى شمس الحقيقة وذلك العالم النّوراني. لا تصِلهم سوى الظّلال المشوّهة «الحقيقة المزيّفة»، ليحاول الإبن البكر إكتشاف الحقيقة/ النور فيودع الوثائق للشّرطة. 
إنّها رواية عن الحجر الصّحي في أزمنة السّواد لكن هذه المرّة الموجودة خارج المنزل.