الرأي الحرّ

بقلم
محمد المولدي الداودي
في الرّهاب السياسي والثورة الشّريدة
 الخائف المذعور يخطئ دائما ولا يصيب أبدا ..لا يستطيع التّوقف للتّفكّر وتحديد الاتجاه خوف الوقوع ولا يستطيع بلوغ النّهاية لأنّه لم يرسم معالمها ولم يحدّد أهداف ما يصنع..فقط يعتقد النّجاة في الهروب دائما..كذلك السّياسيّ الذي حملته الأقدار وألقته في مدارات الحكم والسّلطة على حين غفلة من التّاريخ وغفوة منه..مايزال يدور بمسار تلك اللّحظة التّاريخيّة يستطلعها ويتطلّع إلى أثرها في واقع لا يراه.. 
الثّورة في تونس ما تزال عالقة بين التّجارب التّاريخيّة التي كتبت سيرتها في كتب التّاريخ وألهمت الفلاسفة والمفكّرين وعلماء الاجتماع وماتزال كذلك معلّقة بين المعاني ..الثّورة في تونس أسقطت قليلا من نظام وأبقت آثاره ورجاله ومؤسّساته ومحاور نفوذه المالي والجهوي .. في ظلّ هذا الواقع الثّوري الجديد المحكوم بكلّ المقامات القديمة تعثّر المعنى وأضحت كلّ الكلمات المنحوتة في السّياق الجديد ميّتة فارغة ..الكلمات الكبيرة التي أعادت نسخ الشّعارات الثّورية كالعدالة والكرامة والشّغل وغيرها أبلتها السّنوات العشر وأدمتها صراعات الهواة من السّياسيّين الذين أعادوا إلى حلبة الصّراع السياسي معارك الإيديولوجيا نهاية الثّمانينات ..
كل خطابات السّياسيين اليوم عن تجربة الانتقال الدّيمقراطي في تونس أضحت بلا معنى لأنّها خطابات مستهلكة مكرّرة بلا سياق يسندها أو مقام يصقل دلالتها ..فما قيمة الحديث عن إكراهات الحكم والخوف من المؤامرات الداخليّة والخارجيّة التي امتدت على كلّ سنوات الحكم مابعد الثّورة؟
جمهور النّاس لا تعنيه كلّ هذه التّبريرات الممجوجة المحفوظة الملقاة بلا سهو في المنابر الإعلاميّة وتحت قبّة البرلمان..يبدو أنّ البضاعة الرّائجة عند السّياسيين اليوم من المحسوبين على الثّورة هي بضاعة التّخويف والترهيب..دائما صناعة الأشباح تنقذ الفاشلين من رجال السياسة والحكم..
لقد أمضى سياسيو الثّورة إلى حدّ هذا اليوم نصف ما أمضاه نظام بن علي ومن حقّ الباحث في التّاريخ النّظر في كلّ زوايا البلد وثنايا الطّريق اجتماعيّا واقتصاديّا وتنمويّا..من حقّ المواطن التّقييم والتّقويم بعيدا عن محفوظة الثّورة والثّورة المضادّة وذلك الخطاب التّهميشي لجوهر المسائل ومضامينها الحقيقية..
الثّورة التّونسية كانت هطلا نازلا بلا سحاب وهي في الواقع السّياسي التّونسي بلا قيادة حزبيّة أو نقابيّة أو فكريّة كانت فعلا شعبيّا خالصا بلا شائبة التّوظيف الحزبي أو النّقابي وهذا من فضلها ومن معجزاتها..فهي هبة من اللّه بلا أمّ ولا أب..ولذلك يبدو الحديث عن الثّوريين في مقابل غير الثّوريين ضربا من السّفسطة ومن الخطأ إسناد الفعــل السّياسي بالخطاب الثّوري لأنّه تمييع له وترذيل للثّورة ..
ما فعله السّياسيّون ما بعد الثّورة قتل كلّ مضامينها وألغى كلّ امتداداتها الوجدانيّة كمشترك وطني جامع يشترك فيه أغلب التّونسيين..الثّورة اليوم ملك سائب يتنازعه مشرّدو السياسة بدءا من الرّئيس القادم من مدار الغموض المحمول فوق مجازات اللّغة واستعاراتها وأمثالها ورموزها وحتّى أوهامها وهلوساتها ومرورا بالحكومة ورئيسها التي جمعت في تحدّ للقوانين الفيزيائيّــة كل المتناقضات..
الائتلاف الحكومي في تونس معادلة غير منطقيّة ولا تستقيم حسب قواعد علم الحساب ولا يمكن أن تكون فعلا قويما منتجا أو مؤثّرا ..مخالفة قوانين الطّبيعة في المجال الفيزيائي تساوي في المجال السّياسي تشكيل حكومة تجمع فيها بين التّيارات اليساريّة والقوميّة والإسلاميّة ونحن اليوم في مرحلة « الإكراه السّياسي» ولا إكراه في السّياسة..
إنّ ما يفعله الرّئيس التّونسي قيس سعيد القادم من مدارات الغموض وما تضمره القوى المساندة له لا يختلف شكليّا أو مضمونيّا عمّا تدعو إليه عبير موسي ومن يدور في مدارها ..وما تفعله النّهضة وقلب تونس ومن يدور في مدارهما لا يمثّل إلاّ وجها من وجوه المحافظة على مكتسبات القوى الجديدة المسنودة بمؤسسات الحكم القديمة التي تميل إلى الاستقرار الشّكلي والارتخاء العملي عبر المحافظة على المكتسب والإبقاء على الموجود.
والمسألة في حقيقتها تتجاوز الاختلاف بين المختلفين سياسيّا وفكريّا حول نجاعة الحكم وآثاره الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والتربويّة وإنّما هي تعبير عن تنازع بين هذه القوى المختلفة حول الحكم وصلاحياته ومصالحه.
لماذا يظل شعار « الإصلاح» بعيدا عن الفعل السّياسي في تونس؟
لأنّ الثّورة لم تسقط نظاما إنّما أعادت ترتيبه وتصنيفه وفق آلياته وقواعده وشروطه ومؤسّساته ورجاله والأكثر صوابا في هذا الإطار هو أنّ النّظام القديم أعاد تشكيل الثّورة شعارا وفعلا وخطابا وتوجّها ولذلك كانت الثّورة عند الكثيرين من المواطنين مظهرا من مظاهر الفشل لأنّها وبكلّ بساطة مظهر من مظاهر إعادة إنتاج القديم توجّها في الحكم ورؤية تنمويّة وتربويّة واجتماعيّة واقتصاديّة وديبلوماسيّة..
وخلاصة هذا القول هي أنّ الذين يدعون إلى إسقاط النّظام الجديد برلمانا ورئاسة ورئاسة حكومة أو الذين يدعون إلى إسقاطه دستورا وقانونا انتخابيّا والذين يتمسّكون ببقائه والمحافظة عليه جميعهم متّفقون في الصّراع على الحكم لا الصّراع على خدمة المحكومين..