حوارات

بقلم
فيصل العش
مع الأستاذ الدكتور عبداللطيف الحناشي (الجزء الثاني)
 (7)
س: الأستاذ الدكتور عبد اللطيف الحناشي، هل حقّا هناك محاولة لتغريب تاريخ تونس؟
ج: غير ممكن تغريب أو تشريق تاريخ مجتمع أو دولة...هناك قراءات ومقاربات لفترات متعدّدة. عرفت تونس قبل الإسلام المسيحيّة والوجود الرّوماني والفينيقي، ثمّ جاء الإسلام وتأسّست عدّة دول منذ ذاك الحين على خلفيّة عربيّة إسلاميّة وتصدّت الحركة الوطنيّة لمحاولة نشر المسيحيّة وحركة التّجنيس بكلّ قوّة...وإن حاول البعض أن يقدّم قراءات معاكسة للمنطق وللعقل، فلا أعتقد أنّه نجح أو تمكّن من تحقيق ذلك...
(8)
س: ماهي أسباب غياب الدّراسات الأكاديميّة لتاريخ الثّورة وما حصل أثناءها؟ وكيف السّبيل إلى كتابة موضوعيّة للحدث من دون تأثير السّياسة و الإيديولوجيا؟
ج: من خلال متابعتي، اطلعت على الكثير من البحوث والدّراسات حول الثّورة التّونسيّة سواء في اختصاص علم الاجتماع أو علم السّياسة والقانون والاقتصاد، وحتّى المؤرّخون كتبوا حول هذه الثّورة...غير أنّ الكتابة العلميّة الدّقيقة للثّورة وخاصّة ظروف اندلاعها وظرفيّتها والأحداث بين 17 ديسمبر 2010 و 14 جانفي 2011 تتطلّب معطيات دقيقة أي الاطّلاع على أرشيفات وزارات وشخصيّات ذات علاقة مباشرة بتلك الأحداث. أمر للأسف غير متوفّر الى الآن برغم صدور قانون النّفاذ الى المعلومة.
كما يتطلّب ذلك تأصيل لعدّة مفاهيم كالثّورة والانتقال الدّيمقراطي....ومواصفات الفاعلين وهل هناك دور لبعض الأطراف الخارجيّة في كلّ ما حدث ... الكتابة الايديولوجيّة في الغالب هي غير صادقة ولا قيمة لها كما أنّ صلوحيتها محدودة ولكن لا مستقبل لها... 
(9)
س: هل من نبذة عن الحقل التّاريخي الذي تهتمّون به في بحوثكم الأكاديميّة؟
ج: الأبحاث والكتب التي حبّرتها كانت على خلفيّة مقولة الفيلسوف الألماني هيغل « مكر التّاريخ» ما يعني أنّهم يريدون شيئا  والتّاريخ يريد شيئا آخر. 
بالنّسبة لي (هم) تعني  الاستعمار والتّاريخ هو ما يفعله الآخرون المعاكسون لإرادة الاستعمار، أمّا منهجيّا فلم ألتزم بمنهج دون آخر بل وظّفت المناهج التي أعتقد انّها تساعدنا على صياغة مقاربات موضوعيّة غير متحيّزة. كما  استفدت كثيرا ممّا كتبه الفيلسوف الفرنسي ميشل فوكو الذي اعتبر أنّه  ساهم في «تثوير علم التّاريخ»..
على المستوى المعرفي كان اهتمامي، في بداية المشوار، بالتّاريخ المحليّ الاقتصادي والاجتماعي من خلال دراسة علاقات الإنتاج ما قبل الرّأسمالي انطلاقا من دراسة عقود المحاصصة(عقود الشّغل:الخمّاسة والمغارسة..)بجهة قابس خلال فترة الاحتلال...ثمّ تركّز اهتمامي بالسّياسة العقابيّة الفرنسيّة بالبلاد التّونسيّة وذلك من خلال إصدار كتابين يتعلّق الأول  بعقوبة الإبعاد السّياسي(بجميع أنواعه وأشكاله ومنه النّفي الى الخارج) التي سلّطتها إدارة الحماية وأجهزتها المختلفة على الوطنيّين التّونسيّين بين 1881-1955، ثمّ كتاب ثان يتعلّق بعقوبة السّجن لأسباب سياسيّة وأخرى مدنيّة التي تعرضّ لها التّونسيّون والجزائريّون واللّيبيون المقيمون في البلاد التّونسيّة وكذا المستوطنون الأجانب في نفس الفترة...
ثم تحوّل اهتمامنا للبحث في خطاب الحركة الوطنيّة عامّة وتحديدا إزاء القضيّة الفلسطينيّة وقمنا بنشر حول ذلك: «تطوّر الخطاب السّياسي في تونس تجاه القضيّة الفلسطينيّة  1920-1955» ونحن بصدد مواصلة هذا الموضوع من زاوية أخرى ونتمنى أن نوفّق في نشره خلال هذه السّنة...
بعد الثّورة  توجّه اهتمامنا بالتّاريخ الرّاهن(حقل معرفي تاريخي جديد) وأصدرنا كتابين، الأول بعنوان: «الدّين والسّياسة في تونس والفضاء المغاربي» والثاني بعنوان: «تونس من الثّورة التّائهة الى الانتقال الدّيمقراطي العسير»...وهناك كتاب تحت الطّبع بعنوان «السّلفية التّكفيريّة في تونس: من خيم الدّعوة الى تفجير العقول» ستنشره الدّار التّونسيّة للكتاب(في الأصل تطوير كمّي ومعرفي لتقرير كنت أنجزته بطلب لأحد مراكز البحث والاتحاد الأوروبي بتونس) 
(10)
س: بما أنّكم تحدّثتم عن إصداراتكم، اسمحوا لنا أن نوجّه إليكم بعض الأسئلة حول البعض منها. في العام 2018 أصدرتم كتابا حول «الدّين والسّياسة في تونس وفي الفضاء المغاربي» تطرقتم فيه إلى العلاقة بين ثنائيّة الدّين والسّياسة من زاوية عالم التّاريخ، ماهي الخلاصة الأساسيّة التي خرجتم بها من هذا البحث؟ وهل هناك تشابه بين تجارب التّيارات الاسلاميّة في بلدان المغرب العربي؟
ج: هو مساهمة في الجدل الدّائر داخل الحقل السّياسي في علاقة الدّيني بالسّياسي وإبراز بعض مظاهر التّحولات التي تشقّ النّخبة التّونسيّة خاصّة والمجتمعات المغاربيّة عامّة حول تلك المسالة. هو محاولة للتّعريف بالحركات السّياسيّة ذات المرجعيّة الإسلاميّة في تونس وبعض دول المغرب العربي من زوايا متعدّدة:  تحليل أفكار وبرامج ومواقف تلك الأحزاب وعلاقاتها في ما بينها ومع الأطراف السّياسيّة الأخرى داخليًا وخارجيًا، مع التّركيز على طبيعة التّحولات التي عرفتها تلك الحركات وحدودها وآفاقها وانعكاساتها المختلفة على الأوضاع العامّة في تونس والمنطقة المغاربيّة. كما أكّدنا أنّ نجاح التّجربة الدّيمقراطية في تونس تحديدًا مرتبط أشدّ الارتباط بمشاركة فعّالة وناجعة للأحزاب ذات المرجعيّة الإسلاميّة الوسطيّة التي بإمكانها المساهمة في تصحيح «العلاقة المعياريّة ما بين الدّين والسّياسة، أي الدّين والدّيمقراطية، وإطارها العلماني، الذي من دونه لن تكون ديمقراطيّة حقيقيّة بشرط أن تتبيّأ وتتكيّف مع تاريخ البلاد التّونسيّة وخصوصيّة المجتمع التّونسي.
أمّا عن التّشابه بين التّيارات ذات المرجعيّة الإسلاميّة في الفضاء المغاربي، فموجود ولكنّه محدود نتيجة اختلاف  طبيعة الأنظمة السّياسيّة وشكلها ودرجة سماحها لتلك الأحزاب بالنّشاط، بأي شكل من الاشكال، أو دون ذلك...كما أنّه هناك اختلافا في تجارب تلك الأحزاب ودرجة تفاعلها مع الواقع المحلّي...لذلك نجد تباينات عديدة في بعض مواقفها أو طريقة تفاعلها مع المشاكل اليوميّة والإشكاليّات الفكريّة والسّياسيّة... 
(11)
س: من خلال دراستكم لتاريخ شعوب المغرب العربي، هل ترون أنّه بالإمكان توحيد المغرب العربي؟ وهل هذه العمليّة التّوحيديّة ضرورة؟ وما هي الشّروط التي يجب أن تتوفّر لتحقيقها؟
ج: تاريخيّا كان الفضاء المغاربي موحّدا ثم انقسم وتشتّت حتّى قبل الاستعمار الأوروبي الحديث. وكان من أهداف حركات التّحرر الوطني في منطقة المغرب العربي توحيد النّضال للتخلّص من ربقة الاستعمار ثمّ الاتحاد، ويمثّل مؤتمر طنجة 1958 أحد التّعبيرات القصوى لهذا الهدف...ورغم توفّر كلّ الشّروط التّاريخيّة اللّغويّة والاجتماعيّة والحضاريّة والطّبيعيّة المساعدة على تجسيم هذا الاتحاد، غير أنّ الدّولة الوطنيّة في المنطقة «خانت» الأمانة. وحتّى قيام الاتحاد المغاربي في مراكش 17 فيفري  1989 المتّصف مضمون انبعاثه بالعقلانيّة والبراغماتية، ظلّ حبرا على ورق وهيكلا بدون روح وفاعليّة ... ورغم كلّ الخيبات، لديّ شخصيّا ايمان عميق بإمكانيّة تحقيق هذا المشروع لأنّ لا خيار لتلك الأنظمة غير السّعى لتحقيقه وصدّ كلّ العقبات والإكراهات الدّاخليّة والخارجيّة وتجاوزها...
(12)
س: أصدرتم مؤخرا كتابا جديدا اخترتم له عنوان «السّياسة العقابيّة الإستعماريّة الفرنسيّة بالبلاد التّونسيّة 1881-1955».  هل من بسطة لقراء الإصلاح على مضمونه والأهداف التي تسعون إليها من البحث في هذا المجال؟
ج: تناول هذا الكتاب،الذي صدر عن الدّار التّونسيـــة للكتاب  في 285 صفحة  بالدّرس عقوبة السّجن التي سلّطت على الأجانب والعرب فضلا عن سكّان البلد المحتل سواء لأسباب سياسيّـــة أو حقّ عام.
 احتوي الكتاب على قسمين إثنين: تناول القسم الأوّل منه السّياسة العقابيّة الاستعماريّة الفرنسيّة إزاء التّونسيين، وتضمّن خمسة فصول، شرحت للقارئ أسس النّظام العقابي للإدارة الاستعماريّة وإستراتيجيّاته ثمّ جالت به بين عوالم سجون الإيالة التّونسيّة إبّان الاحتلال وما عرفته من اكتظاظ وسوء عناية وتفشّ للجريمة، وما ولّدته الوضعيّة المادّية والصّحيّة البائسة للسّجناء من ارتفاع لحالات الوفاة في صفوفهم. ثم عرضنا الإطار القانوني وتطوّر عدد السّجناء وأنواع التّعذيب التي كانوا يسومونها بكلّ من المستعمرة السّجنية بـ «الغويان» الفرنسي وهي من مستعمرات فرنسا في أمريكا الجنوبيّة وبالسّجون الفرنسيّة بالجزائر بين 1939 و 1955. 
في حين تناول القسم الثّاني «السّياسة العقابيّة الفرنسيّة إزاء المستوطنين والمقيمين الأجانب والعرب»، وقد شمل على ستّة فصول كاملة، إضافة إلى عرض الإطار القانوني للسّياسة العقابيّة الفرنسيّة إزاء الأجانب المقيمين بالإيالة التونسيّة، وتمّ إفراد الإبعاد الذي لحق الجاليات الفرنسيّة والإيطاليّة والبريطانيّة (خلال الحرب العالميّة الثّانية) وكذا النّشطاء السّياسيين من الجزائريّين المقيمين بتونس وباقي سجناء الحقّ العام من العرب في السّجون الفرنسيّة بتونس، بفصول خاصّة ومفصّلة في جداول وإحصائيّات وتوزيع بحسب الجنس وطبيعة الجرائم السّجنيّة المرتكبة.
كما عرضنا وبالاعتماد على مصادر أرشيفيّة فرنسيّة (أرشيف وزارة الخارجيّة الفرنسيّة- أرشيف الإقامة العامّة الفرنسية) وتونسيّة، جداول تفصيليّة للتّهم التي أحيل بسببها 210 من الوطنيّين التّونسييّن على المحاكم الفرنسيّة، وقائمة في المحكوم عليهم لأسباب نقابيّة وأخرى تخصّ تطوّر نسبة الوفايات في سجن «لامباز» بالجزائر ، فضلا عن طبيعة الأمراض السّارية في السّجون وعدد المصابين بها، حيث ضمّ الكتاب 44 جدولا فصّلت نوعيّة العقوبات والأمراض التي تخصّ المساجين. واستندنا في بحوثنا على بعض العلوم  الرّديفة (علم الاجتماع، علم النّفس ،القانون والفلسفة)  وتحديد المواصفات الاجتماعيّة والجغرافيّة والمهنيّة للسّجناء وتحليلها والحياة اليوميّة للمسجونين (زوايا سوسيولوجيّة- أنثروبولوجيّة). من النّاحية القانونية طرحنا  مسألة “إسقاط” الدّولة الفرنسيّة لقوانينها بخصوصيّاتها التّاريخيّة والإجتماعيّة والثّقافيّة على مجتمع آخر ...نعتقد أنّ الاهتمام بحقل التّاريخ العقابي مسألة حاسمة لفهم آليّات تحكم الإستعمار بالمجتمعات المستعمرة، ليس من الجانب السّياسي فقط بل من الجوانب الإجتماعيّة والنّفسيّة  والثّقافيّة أيضا... 
(13)
س: كلمة أخيرة لقراء مجلّة الإصلاح؟
ج: بداية أريد أن أشكركم على هذه الاستضافة في هذا الرّكن وإتاحة الفرصة لنا للتّعريف ببعض إنتاجنا المعرفي والتّفاعل أيضا مع  الأسئلة الدّقيقة الرّاهنة التي قمتم بطرحها....أنا من المتابعين للمجلة سواء بشكلها هذا أو في شكلها القديم و أثمّن  هذا المجهود المعتبر من قبل أسرة المجلّة. 
نرجو أن تواصلوا المشوار للمساهمة في نشر الفكر النّقدي والثّقافة الإنسانيّة  باختلاف مشاربها  ونشر الثّقافة الدّيمقراطيّة وقيم التّسامح والسّلم والسّلام .... لا شكّ أنّ استمرار صدور مجلة ذات طابع فكري –ثقافي، مجانيّة، في ظروف خاصّة، يبدو مغامرة مكلّفة غير أنّ إرادة المشرفين  على المجلة  وإيمانهم برسالتها  كفيلان بضمان استمرارها...