نفحات

بقلم
عبد الله البوعلاوي
لحظة يقظة في وقت الابتلاء (الإنسان بين محنة الوباء ومنحة الإيمان)
 الحديث عن هذا الوباء أو هذا المرض شغل أذهاننا وكياننا، وأقض مضاجعنا، أذهب عنا أفراحنا ومسرّاتنا، شوّش علينا تفكيرنا، وقلب موازين حياتنا بين عشية وضحاها.  هذا  المرض ( فيروس كورونا) جعلنا نلازم مساكننا، خوفا على أنفسنا ومن تجمعنا به قرابة من الهلاك، وهذا من جبِلَّة الإنسان وفطرته الخوف على نفسه، والحفاظ على النفس من كلّيات الدّين، واللّه تعالى يقول «وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا»(1)، ويقول أيضا: «وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا» (2) وفي نفس  الوقت يقول سبحانه: «تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» (3) ، تأملوا معي حالَ الدّنيا، تتعاقب فيها الأيام واللّيالي والأجيال، كلّ بعيد فيها قريب، وكلّ جديد سَيَبْلى، وكلّ كائن سيفنى، وكلّ حياة  إلى منتهى، ألا كلُّ آتٍ قريبُ المَدى، وكل ما هو آت آت، «مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ»(4)، ما بالُنا والتّشبث بالحياة خوفا من الرّحيل، «دخل سليمان بن عبد الملك المدينة، فأقام بها ثلاثاً، فقال‏:‏ ما ههنا رجل ممّن أدرك أصحاب رسول اللّه ﷺ يحدّثنا‏؟‏ فقيل له‏:‏ ههنا رجل يقال له أبو حازم، فبعث إليه فجاء‏.‏ فقال سليمان‏:‏ يا أبا حازم، ما هذا الجفاء‏؟‏ قال أبو حازم‏:‏ وأيّ جفاء رأيت منّي‏؟‏ فقال له‏:‏ أتاني وجوهُ المدينة كلُّهم ولم تأتني‏؟‏‏!‏ فقال:‏ ما جرى بيني وبينك معرفة آتيك عليها‏.‏ قال صدق الشّيخ‏.‏ يا أبا حازم، ما لنا نكره الموت‏؟‏ قال:‏ لأنّكم عمّرتم دنياكم وخرّبتم آخرتكم، فأنتم تكرهون أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب»(5) ‏.‏
كلّ منّا مطالب ليُقوِّم حياته ويصحّح سلوكاته، لأنّنا مدعوّون إلى دارِ نعيمُها لا ينفذ ولا ينقطع، من أجل هذا أخذ النّبي ﷺ بمنكبيّ عبد الله بن عمر رضي اللّه عنه فقال: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ»، وهذا - الحديث - أصل عظيم في قِصر الأمل، وألاّ يتّخذ الدّنيا وطنًا وسكنًا، بل يكون فيها على جَناح سفر مهيّأً للرّحيل، والحديث فيه تنبيه إلى أنّ عمُرَ الإنسان في الحياة وإقامَته فيها قصير جدّا، وفي الحديث بيان بعدم التّمسّك بقيمة الدّنيا وعدم الرّكون إليها. وعابر السّبيل يكون قاصدا في سفره، يأخذ ما يُعينه في طريقه ليصل إلى غايته، يُعِدُّ العدّةَ اللاّزمة ويتزوّد من الدّنيا بالعمل الصّالح وغايتُه أن يصل إلى ربّه، فيبقى على حال المسافر لا يتثاقل إلى الأرض،هِمَّتُه عالية، يحبّ لقاء ربّه، شعاره «إِنَّمَا هَذهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ» (6) .
لماذا كلّ هذا الخوف والهلع، والابتلاء فرصة للتّضرّع والتّوبة والإنابة والانكسار بين يدي العزيز الجبّار، وتمحيص الإيمان، فالدّنيا دار ابتلاء وامتحان، يُبتلى المرء فيها بالشّر والخير: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ» (7) ، فتتعدّد الابتلاءات ليُعلم من يشكر ومن يجحد ومن يطع ومن يكفر، فلا يغْتَرَّ المرءُ بجمالها وزينَتِها، فهي إلى زوال وفناء وانقطاع، علينا أن نُراجع أنفسنا فيما يُصيبُنا من خير أو شرّ «لِيَسْتَرْجِعْ أحَدُكُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ حتَّى فِي شِسْعِ نَعْلِهِ فإنَّها مِنَ المَصَائِبِ»(8) ، وينظُرْ إلى نفسه ويَتَّهِمْها، وينظُرْ إلى موضِعِ تقصيره، ويعلمَ عندما ينتهي الابتلاء «فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرهُ»(9). كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ «إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الْمَسَاءَ وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ» وكان يقول: «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رَاكِبٍ قَالَ «أي استظل» فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا»(10). فالدّنيا مهما عمَّر فيها الإنسان فهو في إدبار عنها وإقبالِ على الآخرة، أيّامُها مراحل، وساعاتها قلائل، «وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ»(11)، وما أقبح الغفلة والتسويف.
إنّي واللّه لأعجب من خوف النّاس من المرض أو من الابتلاء، ولا يسلم أحد من الابتلاء أو المرض، فلو كان خوفهم من اللّه كخوفهم هذا، ورفعوا أيديهم إليه لاستجاب لهم. فكلّ النّاس مُبتلى مهما اختلفت عقائدهم وتباعدت أقطارهم وتنوّعت ألسنتُهم، لكنّ الفرق في طريقة  النّظر إلى الابتلاء، فكلّ شيء عند اللّه بقدر وقضاء، والمؤمن تعامل مع الأقدار بالأخذ بالأسباب بدون تسخّط أو عدم الرّضا، فالأقدار حكم بالغة في الوجود، وسنن اللّه تعالى في الكون لا تجابي أحدا من رعاها راعته ومن حفظها حفظته ومن  ضيّعها ضيّعته، واللّه تعالى يقول: «وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ»(12)، وأعقلُ النّاس من اتعظ بغيره.
ومن الأمور الأساسيّة في التّعامل مع الابتلاء، أن نعلم أنّه ما أصابنا لم يكن ليُخطئنا وما أخطأنا لم يكن ليُصيبنا، فاللّه هو الضّار وهو المانع، فكلّ شيء عنده بمقدار، يبتلي الإنسان من أجل التّمحيص الصّادق في الإيمان من الكاذب، يقول اللّه تعالى: « أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ»(13). فكم من محنة تصبح منحة لصاحبها، فربّ ضارّة نافعة. وعلينا أن نعلم أنّه كلّما اشتد البلاء قرُب الفرج، قال الله تعالى: «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» (14) وقال النّبي ﷺ: «واعلم أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً»(15) علينا فقط أن نحسن الظّن باللّه تعالى فهو عند التّضرّع وكثرة الاستغفار يجلب الخير ويرفع البلاء، ويكفي الاستغفار حديث «من لزم الاستغفار جعل اللّه له من كلّ ضيق مخرجا ومن كلّ همّ فرجا ورزقَه من حيث لا يحتسب»(16). والاستغفار يمنع نزول العقوبة على العباد في الدنيا ويدرأ عنهم العذاب في الآخرة. قال تعالى: «وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ»(17).
لقد جعل اللّه الدّنيا أَرضَ زراعةِ الأفعال والأعمال، نعيش فيها مراحلَ فنُجازى بها حصادا في الدّنيا والآخرة، فقد يشتدّ في دنيانا الكربُ، ويتعاظم علينا الأمر، ونصبر محتسبين إلى اللّه، والصّبر من الإيمان، وهو من صفات النّفس الجليلة، و «الصبر من الفضائل الخُلقية التي تعود الإنسان السّكينة والاطمئنان، وتكون بلسماً لجراحه، ودواءً لمرضه وبلائه، فالصّابر يتلقّى المكاره بالقبول، فيحبس نفسه عن السّخط فيتحلّى بالسّكينة والوقار، والصّبر سبب لحصول الضّياء في القلب، والهدوء في الطّبع، لأنّ الصّابر يعلم أنّ حبس النّفس في الطّاعة، وحبسها عن المعصية شجاعة، فالصّابر يرى في الشّدّة حكمة فعليه أن يتلقّاها بالرّضا ليظفر بالثّواب والأجر، والجاهل يضجر ويحزن ويكتئب، ولولا الصّبر لانهار الإنسان من البلاء الذي ينزل عليه، ولأصبح عاجزاً عن السّير في ركب الحياة على النّحو الذي يحبّه اللّه، وقد عني القرآن بالصّبر ومدحه، ورفع قدره وأعلى منزلته، وأثنى على المتحلّين به ثناء لا مزيد عليه، وذكره في القرآن نحو سبعين مرّة ممّا يدل على عظم أمره وعلوّ شأنه، فهو أساس لكثير من الفضائل بل هو أمّها، لأنّه يربّي ملكات الخير في النّفس»(18)، وقول الله تعالى: « وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ»(19). 
إِنَّ أغنى كنز نملكه «العمر الذي نعيشُه» فلنحرص عليه قبل أن يضيع منّا، ونحقّق منه الغاية، حِرصا نُواصِل من خلاله اللّيلَ والنّهار فيما يُقرِّبُنا إلى ربِّنا، بفعل الأوامر واجتناب النّواهي في حركاتنا وسلوكنا، في كلّ ما يتعلّق بحياتنا الرّوحيّة والمادّية، يقول الحسن البصري رحمه الله: «أدركت أقواما كانوا على أوقاتهم أشدَّ منكم حرصا على دراهمكم ودنانيركم»، هذا على زمن الحسن البصري، وقتُ النّاس كان على حال معرفتهم بربّهم، ونحن اليومَ أشدَّ حرصا على الدّنيا والاستثمار فيها إلى مستوى يفوق الخيال فقيرا كان أو غنيّا، الكُلُّ يريد الربحَ بأقلِّ جهد وفي أقلّ وقت، هذا جميل ومطلوب في ديننا، لكن أن تُصبح الدّنيا الهمَّ الوحيد والهدف الأسمى، فيُخاف علينا من قول اللّه تعالى: «أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ، فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ»(20) .
 إنّ الغفلة استوعبت كياننا وجوارحَنا، فأصبحت قلوبُنا لا تعي ولا تفهم حدود الحياة وحقيقتها، كيف بنا إذا أصبح غدُنا سؤالُ الملكين، ونحن على غفلة ولم نُعِدَّ العدّة الكافية لتكون الإجابَةُ صحيحة، فكلّ واحد منّا أوشك أن يصل إلى نهايته، لأنّنا لا نعلم متى يتخطّى ملكُ الموت غيرنا إلينا، فلنأخُذ حذرنا، «الكَيِّس مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِما بَعْدَ الْموْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَه هَواهَا، وتمَنَّى عَلَى اللَّهِ»(21) والسّعيد من تزوّد من دنياه لآخرته والشّقيّ من أعرض عن أمرِ ربّه واتّبع هواه وما يُغضِبُ اللّهَ، إنّ معاذَ بنَ جبل لما حضره الموت، وكان ينتظر صلاة الصّبح، قبل لقاء ربِّه، وهو في شوق، أن يلقى صلاة الصّبح، فقيل قد أصبحت، قال: أعوذ باللّه من ليلة صباحُها إلى النّار، مرحبا بالموت، حبيبٌ جاء على فاقة، اللّهم إنّك تعلم أنّي كنت أخافك، فأنا اليوم أرجوك، إنّي لم أكن أحبّ الدّنيا، وطول البقاء فيها، لكراء الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، ولمكابدة السّاعات، ومزاحمة العلماء عند حلق الذكّر، فكان الصّبح هو آخر صلاة صلاّها معاذ، فالسّعيد من مضت به الأيامُ يقطعُها في اغتنام الأوقات عابدا للّه طائعا خاضعا متذلّلا يرجو رحمةَ ربّه ويخاف من عذابه. مَرِضَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ مسعود، فَعَادهُ عُثْمَانُ، وَقَالَ له: مَا تَشْتَكِي؟ قَالَ: ذُنُوبِي: فَمَا تَشْتَهِي؟ قَالَ: رَحْمَةَ رَبِّي، قَالَ: أَلَّا آمُرُ لَكَ بِطَبِيبٍ؟ قَالَ: الطَّبِيبُ أَمْرَضَنِي، قَالَ: أَلَّا آمُرَ لَكَ بِعَطَاءٍ؟ قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيه» (22) .
إنّنا نحتاج إلى وقفة تأمّل في ما مضى من أيّام نوشك أن نصل بها إلى آجالنا، فالأمر يستدعي يقظة الضّمير وصحوة للتّدبّر وتوبةً إلى اللّه تعالى، نُصلح بها أنفسنا ونفضُّ الذّنوب ونُزيلُ الأوزارَ عنها، ونصحّح المسير إلى اللّه تعالى لوضع مشروع روحيّ ومادّي متكامل، واضح الأهداف والوسائل، نفوز به في الحياة الدّنيا وفي الآخرة، ولنعيش بقيمة المبادرة إلى الخيرات، عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللّه عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا»(23)، يحثّ النّبي ﷺ على مواجهة الفتن بالمبادرة إلى الأعمال الصّالحة، وأن لا نعيش الكلالة والسّلبية في حياتنا، والمؤمن القويّ أحبّ إلى اللّه من المؤمن الضّعيف في كلّ شيء، يقول اللّه تعالى: «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ، هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ»(24) ، ولا يستوي الكلُّ والفاعل، فالكلُّ يعيش عالة على غيره وينخر المجتمع ويثقل حركته، يحتاج دائما إلى من يخدمه ويحمله ويعينه في كل شيء، فحيثما كان أو يكون لا يُنتظر منه شيء، «لأنّه لا يفهم ما يُقال له، ولا يقدر أن يعبر عن نفسه ما يريد، فهو لا يفهم، ولا يُفْهَم عنه»(25) ، والفاعل العدل مستقيم في قوله وفعله، قائم بشؤون حياته الرّوحية والمادّية، وقوله ﷺ: «بَادِرُوا...» أي اشتغلوا بالأعمال الصّالحة واستبقوها، قبل تعَذُّرِها من كثرة ما يفتن النّاس من أعمال ويُشغلهم، والتي تتلاطم فيها أمواج الفتن كقطع اللّيل المظلم لفرط سوادها وظُلمتها وعدم تبين الصّلاح والفساد فيها. وتحقيق الحديث أن يستبق الإنسان بالأعمال الصّالحة وأن يقوم بها قبل أن تأتي عليه الفتن المتكاثرة والمتنوّعة من سرقة وظلم واعتداء على الأموال والأنفس والأرزاق والخيرات، فلا يستطيع دفعها أو الخروج من مستنقعها ووحلها، ولا يملك بعد ذلك حيلة ولا قوّة يريد النّجاة لنفسه. 
في خضم هذه الفتن ووسط الابتلاءات، يلجأ المؤمن إلى صاحب الأمر كلّه والمتصرّف في الوجود؛ اللّه تعالى؛ لأنّه يرى عظيم تدخل سنن اللّه في الكون ليرفع المحن، كما رفعها عن أصفيائه من الخلق أنبياء ودعاة ومصلحين، فيسرع إلى الفرار إلى جنب اللّه والاعتصام به، والفرار من عقوبته إلى معافاته، ومنه إليه، غايته في ذلك الاعتراف بحاجته وضعفه إلى خالقه، فرارا يصحّح به انحرافه عن الهداية القرآنيّة والسّنة النبويّة، فرارا يُقَوّم به سلوكه بمكارم الأخلاق، فرارا يسدّد به حركاته وأفكاره وسط تلاطم الأفكار المنحرفة والضالّة، فرارا  إلى مغفرة من اللّه ورضوان، فرارا ينطلق به بتحمل المسؤوليّة الوجوديّة « أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» (26) ، فرارا بالقيم  فرارا إلى إصلاح النفس وتزكيتها بما يليق لها بالقيم القرآنية الخالدة، يقول الله تعالى: «إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ» (27) .
إننا نحتاج إلى يقظة الضّمير نعود بها إلى كتاب اللّه تعالى المنقذ ممّا ألمّ بنا من الأوجاع والأمراض والفتن والابتلاءات، فقد أوصى النّبي ﷺ أمّته من خلال خطبة الوداع، قائلا: «وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ...» (28) ، فيعتبر القرآن الكريم؛ المنقذ من كلّ الظّلمات والمخرج منها إلى نور الهداية، يقول اللّه تعالى: «إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ»(29)، فما أعظم هداية القرآن الكريم، لأنّه كنز هدى، ومشكاة نور، لا تفنى هداياته، ولا تنقضي عجائبه!  كلّ آية فيه مسرح للنّظر ومختبر تجريبي، ومنجم للدّروس والعبر. تتجدّد إيحاءاته ودلالاته بتجدّد النّوازل وإمعان النّظر. فالهدايات التّفصيليّة المستنبطة من آي الكتاب لا حصر لها ولا عدّ، فهي عين نضاخة، وعباد اللّه من من أهل العلم والبصيرة يفجّرونها تفجيراً. يقول العلامة الشنقيطي -رحمه اللّه- في تفسيره هذه الآية:«إنّ هذا القرآن العظيم الذي هو أعظم الكتب السّماوية، وأجمعها لجميع العلوم، وآخرُها عَهْدًا بربّ العالمين جلّ وعلا ـ يهدي للتي هي أقوم. أي إلى الطّريقة التي هي أسدّ وأعدل وأصوب،.. هذه الآية أجْمَلَ اللّه جلّ وعلا فيها جميع ما في القرآن من الهدى إلى خير الطّرق، وأعدِلها وأصوبِها، فلو تتبّعنا تفصيلها على وجه الكمال لأتينا على جميع القرآن العظيم؛ لشمولها لجميع ما فيه من الهدى إلى خيري الدنيا والآخرة.
يدلّنا القرآن الكريم على الطّريق الأقوم:«إنّه يهدي للتي هي أقوم في ضبط التّوازن بين ظاهر الإنسان وباطنه، وبين مشاعره وسلوكه، وبين عقيدته وعمله.. ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التّكاليف والطّاقة، فلا تشقّ التّكاليف على النّفس حتّى تملّ وتيأس من الوفاء، ولا تسهل وتترخّص حتّى تشيع في النّفس الرّخاوة والاستهتار، ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال. ويهدي للتي هي أقوم في علاقات النّاس بعضهم ببعض: أفراداً وأزواجاً، وحكومات وشعوباً، ودولاً وأجناساً، ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثّابتة التي لا تتأثّر بالرّأي والهوى؛ ولا تميل مع المودّة والشّنآن؛ ولا تصرفها المصالح والأغراض.ويهدي للتي هي أقوم في تبنّي الدّيانات السّماوية جميعها والرّبط بينها كلّها،وتعظيم مقدّساتها وصيانة حرماتها، فإذا البشريّة كلّها بجميع عقائدها السّماويّة في سلام ووئام» (30) .
إذا تأمّلنا قول الله:«إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» أدركنا أنّها آيةٌ تتجاوز في هدايتها حدود الزّمان والمكان.. وتتجاوز كلّ الأنظمة والقوانين التي كانت قائمة أو التي ستقوم بعد ذلك!  إنّها قاعدة تقطع الطّريق على جميع المنهزمين والمتخاذلين من أهل الإسلام أو المنتسبين له، الذين يظنّون لعدم فهمهم، أنّ هذا القرآن إنّما هو كتاب رقائق ومواعظ، ويعالج قضايا محدودة من الأحكام! أمّا القضايا الكبرى المتعلّقة بقضايا الإنسان المختلفة.. فإنّ القرآن ليس فيه ما يشفي في علاج هذه القضايا!! هذا الكلام فضلاً عن كونه خطير وقد يؤدّي إلى الكفر، فإنّه سوء أدب مع اللّه، ذلك أنّ اللّه تعالى يعلم حين أنزل القرآن أنّ العباد سيُقبِلون على متغيرات وانفتاح، وعلاقات، ومستجدّات، فلم يتركهم هملاً، بل حفظ لهم هذا القرآن ليرجعوا إلى هداياته، وحفِظ لهم سنةَ نبيهﷺ لتكون شارحةً لما أجمل من قواعد القرآن. فمن أراد الهداية وجدها فيهما، ومن كان في عينيه عشَى، أو في قلبه عمى، فليتهم نفسه، ولا يرمينَّ نصوص الوحي بالنّقص والقصور. فهذا هو كتاب ربّنا، يخبرنا فيه أنّه يهدي للتي هي أقوم، فأين الباحثون عن هداياته؟ وأين الواردون حياضه؟ وأين الناهلون من معينه؟ وأين المهتدون بتوجيهاته؟ .
الهوامش
(1) سورة المائدة - الآية 32
(2) سورة النساء -  الآية 29
(3) سورة الملك - الآيتان 1و2
(4) سورة العنكبوت - الآية 5
(5) «محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار» الشيخ الأكبر محّي الدّين ابن عربي - دار الكتب العلميّة بيروت - ج1 - ص 215 
(6) سورة غافر - الآية 39
(7) سورة الأنبياء - الآية 35
(8)  رواه ابن السني عن أبي هريرة رضي الله عنه
(9)   سورة الزلزلة  الآيتان 7و8
(10)  رواه أحمد
(11) سورة آل عمران - الآية 185
(12) سورة الشورى  - الآية 30
(13) سورة العنكبوت - الآيتان 2و3
(14) سورة الشرح - الآيتان 5و6 
(15) رواه الترمذي
(16) سنن أبي داود
(17) سورة الأنفال  - الآية 33
(18) كتاب صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم والأمثال، لحسين بن محمد المهدي، ص: 565
(19) سورة البقرة - الآيات 155-156-157
(20)  سورة فاطر - الآية 37
(21) رواه الترمذي
(22) السير 1/442
(23) أخرجه مسلم حديث (118) وانفرد به
(24) سورة النحل  - الآية 76
(25) انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير - سورة النحل
(26) صحيح  البخاري وصحيح مسلم
(27) سورة الرعد  - الآية 11
(28) صحيح مسلم  رقم الحديث 1218
(29)  سورة الإسراء - الآية 9
(30)   في ظلال القرآن 4/2215