أهل الاختصاص

بقلم
إضاءة على الرّياضيات الحيويّة ورياضيّات الأوبئة - (1/2)
 الرّياضيّات والتّرف
تعتبر الرّياضيات أقوى آداة امتلكتها البشريّة لفهم الطّبيعة ومحاولة الاستفادة منها، فهي ليست ترفا ذهنيّا. إذا كنّا لا نحبّ ‏الرّياضيات فليكن، فمن منّا يحبّ تجرّع التّرياق المرّ الذي يساعد على التّعافي. كوكب خال من الرّياضيات يعني العودة بطرق ‏المعيشة إلى عصر أبينا آدم عليه السّلام. العلم ليس ترفا، العلم ضرورة من ضروريّات الحياة. وفي الأوبئة تتدخّل الرّياضيات ‏لتعطي السّيناريوهات المحتملة لانتشار الوباء، ومن ثمّ تمكّن مؤسّسات الدّولة من وضع سياسات عمليّة فاعلة لإدارة واستيعاب ‏الأزمة وحصر أضرارها(1)‎‏. هذه القرارات في الحقيقة تمثّل تعظيما أو تقليلا لبعض ثوابت النّماذج الرّياضيّة المستخدمة. وتعتبر ‏النّماذج الرّياضيّة صحيحة وواقعيّة بقدر صحّة افتراضاتها وقربها من الواقع، فعلى سبيل المثال لا الحصر تفترض النّماذج ‏الرّياضيّة للأوبئة أنّ المريض يكتسب عند تعافيه مناعة تبقى معه مدى الحياة، و هذا ليس صحيحا بإطلاق. وفي هذا المقال ‏سنستعرض بعض النّماذج الرّياضيّة البسيطة المعدّة لهذا الغرض، وتبقي النّماذج المعدّة للأغراض البحثيّة تطويرا على ذلك ‏الأصل للقرب أكثر وأكثر من الواقع. وينبغي التّنبيه إلى أنّه ليس مطلوبا من الرّياضيات في الوقت الحالي التّنبؤ بما يؤول إليه ‏الواقع الطّبي للجائحة، فنحن في مرحلة اختبار النّماذج الرّياضيّة بعرضها على الواقع المدوّن في سجلاّت الأوبئة، الماضية ‏والحاليّة، غير أنّ الرّياضيات تستطيع أن تساعد المسؤولين على اتخاذ خيارات أفضل للمكافحة.‏
من البساطة إلى التّركيب
‏  ‏يتعامل الرّياضيّون مع المشاكل التّطبيقية من خلال وضع الفروض المبسّطة غير المخلّة عن الظّاهرة محلّ الدّراسة والتي ‏يسهل حلّها في الغالب، ومع أنّها لا تمثّل الواقع إلاّ أنّها قريبة بدرجة معقولة منه، ثمّ ينطلقون من البساطة إلى التّركيب. أوّل هذه ‏الفروض التي تتعامل الرّياضيّات بها مع المسائل الحيويّة هو تجريد مصطلح «النّمو» عمّا هو في اللّغة وفي اصطلاح علم الأحياء ‏والذي يعني الزّيادة المطلقة، ويتمّ التعامل معه بمعنى معدّل التّغيّر في مجتمع الكائنات الحيّة، وعندئذ قد يعطينا زيادة ‏أو نقصانا أو ثباتا، وستخبرنا عن ذلك إشارة التّغيّر «المشتقّة الأولى». ولمّا كانت الطّبيعة تعبّر عن نفسها في صورة معادلات تفاضلية ‏‏ «أي معادلات تحتوي على معدّلات تغيّر «مشتقّات» لدالة مجهولة ما، بالإضافة ربّما إلى الدّالة نفسها ومتغيّراتها المستقلّة»، فإنّنا نحصل بحلّ تلك ‏المعادلات على تلك الدّالة المجهولة والتي تنبئنا بسلوكها المستقبلي. وفيما يلي سنعرض بعض نماذج مبسطة من المعادلات ‏التّفاضليّة التي يحسب من خلالها الرّياضيون دالّة النّمو لوباء ما.‏
نموذج النّمو الخطي
إذا افترضنا أنّ النّمو ‏G‏ يتغيّر بمعدل ثابت ‏k، يعبّر عن ذلك رياضيّا ‏G(t)=k‏  حيث ‏G ‏ترمز لمعدل التّغيّر في دالة النّمو «المشتقّة الأولى بالنّسبة للزّمن ‏t‏ وهو المتغيّر المستقلّ لدالّة ‏النّمو». وحلّ هذه المعادلة بسيط جدّا وهو ‏G(t)=kt+c‏  ومن هذا الحلّ أخذ النّموذج اسمه «النّمو الخطي» فهذه معادلة خطّ مستقيم، حيث ‎ c ‎هى ثابت ينتج عن عمليّة التّكامل ومن الممكن ‏تعيينه شروط المسألة. فيروس كورونا لا ينتشر وفق هذا النّموذج، فالحالات التي يعلن عنها يوميّا لا ‏تسير وفق هذا النّسق، فهي ليست ثابتة، فأحيانا تزيد وأحيانا تنقص وجهود الأطبّاء تكمن في ‏محاولة أن يكون معدّل انتشاره تناقصيّا باستمرار.‏  
نموذج النّمو الأسى
في هذا النّموذج يكون التّغيّر دالّة في دالة النّمو نفسها ‏‎ G (t)=kG(t)‎‏ وحلّ هذه المعادلة ‏أيضا بسيط فهو ‏‎ G(t)=G0 ekt‏ حيثe ‎‏ هو عدد أويلر و‎ G0 ‎هو العدد الابتدائي ‏للفيروسات التي ستنمو بمرور الزّمن وهو ثابت آخر للتّكامل تمّ تعيينه بالشّروط الابتدائيّة وهو ‏لا يمكن أن يساوي الصّفر. برسم هذا الحلّ نرى أنّ النّمو يتزايد بصورة مرعبة مع الزّمن، ‏ومرّة أخرى لا ينتشر فيروس كورونا وفق هذا النّسق أيضا، لأنّ منحني النّمو يأخذنا إلى ‏اللاّنهاية وهذا غير مرصود على الإطلاق، فاللّه عز ّوجلّ قد خلق  في الطّبيعة عوامل تحدّ من ‏هذه الزّيادة  اللاّمتناهية.‏  
نموذج النّمو المحدود
في هذا النّموذج يوجد سقف لا يمكن للنّمو أن يتخطّاه. ويكون معدل النّمو أكبر مايمكن فى ‏البداية. ثمّ يتباطأ ذلك المعدل بشدّة كلّما اقتربنا الى السّقف. يعبّر رياضيّا عن ذلك بالمعادلة ‏التّالية ‏‎ G(t)=k[S-G(t)]‎‏ حيث ترمز‎ S ‎هنا الى السّقف الذى لن يتعدّاه النّمو. ونجد أنّ معدل ‏التّغيّر يتناسب مع الفرق بين السّقف والقيمة الحاليّة للنّمو. فكلّما كان الفرق كبيرا كلّما كان معدّل ‏النّمو أعلى. كمثال على ذلك، عند بداية المحاضرة يكون توارد الطّلاب إلى قاعة الدّرس كبيرا ‏جدّا، ومع مرور الوقت يقلّ عدد الدّاخلين إلى المحاضرة والسّقف هنا هو العدد الكلّي ‏للطّلاب. ولا يتوافق هذا النّموذج بالكامل مع معدّل انتشار الفيروس، فلا يمكن أن ‏يكون النّمو في البداية أكبر ما يمكن. بينما من الممكن أن يتوافق مع مرحلة السّقف.‏  
نموذج النّمو اللّوجيستي
هذا النّموذج يدمج خواص النّموذجين السّابقين حيث يتناسب معدّل النّمو مع دالّة النّمو ومع ‏النّقص عن سقف معيّن فى نفس الوقت. في البداية يكون النّقص كبيرا ولكن تكون قيمة دالّة ‏النّمو صغيرة فيكون معدّل التّغيّر ضعيفا وعند النّهاية تزداد القيمة ولكن يكون النقص قليلا ‏ومرّة أخرى يكون معدّل النّمو ضعيفا. لكن فى المنتصف تكون القيمة الآنيّة والنّقص ‏الآني قيما معتبرة فيكون معدّل النّمو أكبر ما يمكن. ويمكن أن نعبّر عن  ذلك رياضيّا ‏بالصّورة ‏G(t)=k G(t)[S-G(t)]‎‏ وحلّ هذه المعادلة للحصول على دالّة النّمو يحتاج إلى بعض الخبرة الرّياضية، وبدون الخوض في التّفاصيل فإنّ الحلّ هو                                          وهذا النّموذج من النّمو هو الأكثر وصفا لنموّ أيّ مجموعة من الكائنات الحيّة. حيث تكون البداية بمعدل ضعيف ثم يزداد بشدّة حتّى تصل الى نقطة الانقلاب والتى بعدها يبدأ المعدل في التّباطؤ حتّى تصل قيمة الإصابات الى سقفها الذى ‏لا يمكن أن يذهب إلى ما لانهاية. فانتشار الفيروس مرتبط بالنّهاية بعدد السّكان. في المقال القادم سنستعرض نموذجا أكثر واقعيّة ‏لوصف الأوبئة رياضيّا، وهو المسمّى بنموذج ‏SIR‏ وهو من أشهر النّماذج المعمول بها من قبل الباحثين في الرّياضيّات الحيويّة.‏
المراجع
‎(1) Adam Cochariski, «The Rules of Contagion: Why Things Spread – and Why They Stop», ‎Wellcome Collection, 2020.‎