في الصميم

بقلم
د. مصطفى حضران
الجوامع والجامعات الإسلامية الكبرى دراسة في عوامل الانحطاط والتراجع (2/2)
  الأول: الدعوة إلى ضرورة إصلاح هذه الجوامع
اتفق دعاة الإصلاح في المغرب والمشرق، على ضرورة إدخال إصلاحات جوهريّة على هذه الجامعات، وذلك إحساسا منهم بالخلل التّربوي الذي لحق بها على كثير من المستويات، وأكّدوا جميعهم على أنّ إصلاحها ضرورة وطنيّة وإسلاميّة، لأنّ في إصلاحها إصلاحا للمجتمع والمعرفة والعلم.
لقد كان انتقادهم لهذه الجامعات نابعا من حبّهم الشّديد لها، وحرصهم على إعادة الحيويّة والروح إليها، لتظلّ مصابيح للنّور والهدى، فالشّيخ محمد الحجوي الثّعالبي الذي لم يخف شدّة إعجابه بالقرويين حتّى قال: «هي أمي وظئري ومن ثديها العذب ارتضعت»(1)، كان يردّد في كلّ مناسبة: «إن الارتقاء بالقرويين وانتظامها يتقدّم بالإسلام وبالثّقافة وبالآداب، وبتأخّرها يتأخّر المغرب أدبا وثقافة ودينا»(2)، لقد كان الدّافع والسّبب وراء اهتمام الحجوي بالقرويين أنها تمثّل في حقيقتها الثّقافة المغربيّة الإسلاميّة الأصيلة، لهذا كان لا يدّخر جهدا في تقديم الانتقادات لها قصد تطويرها والرّفع من مستواها، ولأنّه كان يرى أنّ القرويين هي «المعهد الأعظم في إفريقيا الشّماليّة للعلوم العربيّة والدّينيّة والآداب الإسلاميّة، لاسيّما بعد سقوط الأندلس، فهو الينبوع المنير لهاته العلوم، والقبس النّير للدّين الحنيف»(3). فحالة القرويين كغيره من المنارات الإسلاميّة، عرفت أوضاعا تربويّة مزرية، لا تليق بها كمنارات حملت مشعل النّور والعلوم لآلاف السّنين، تجلّى ذلك في انعدام الضّبط والاعتماد الكلّي على التّلقين المبني على الحفظ والإملاء، وقراءة الكتب القديمة، والاهتمام بحفظ المختصرات، ممّا شكّل عائقا علميّا أمام تطوّرها. وتبيّن الرّسالة التي وجّهها الحجوي إلى السّلطان حرصه على إصلاح جامع القرويين:«نعم سيدي أمير المؤمنين لكم تأييد رب العالمين، تدارك بحكمتك العلويّة النبويّة معهد القرويين، قبل اضمحلال معارفه وعلومه. إنّ قراءة الدّروس فيه صارت سردا من غير فهم شيء من القرآن ولا من الحديث، و لا من غيرهما من العلوم، صار المدرّس يسمع ما يسرد على أذنه ولا يتكلّم على حديث ولا آية شيء ما وإذا دام العمل به فعلى القرويين السّلام»(4). وإذا كان الحجوي قد رفع صوته لإغاثة القرويين في المغرب، فإنّ الصّيحة نفسها جهر بها محمد عبده في مصر لإنقاذ جامع الأزهر، حيث قال: «إنّ بقاء الأزهر متداعيا على حاله في هذا العصر محال، فهو إمّا أن يعمّر وإمّا أن يتمّ خرابه، وإنّي أبذل جهد المستطيع في عمرانه»(5)، ويقول أيضا «إنّ إصلاح الأزهر أعظم خدمة للإسلام؛ فإنّ إصلاحه إصلاح للمسلمين وفساده فساد لهم»(6).
ثانيا: تقديم خططا لإصلاحها
أمام هذه الوضعيّة التّربوية المزرية، لم يكتف هؤلاء المصلحون بالنّقد فقط، بل قدّموا خططا لإصلاح هذه المؤسسات، ووضع آليّات لتطويرها، ففي المغرب مثلا نجد الأستاذ عبد الهادي التّازي(7)، يبين بعض معالم البرنامج الإصلاحي الذي قدمه الحجوي لإصلاح جامع القرويين سنة 1913 والذي شمل:
ـ إحصاء عدد التّلاميذ و تسجيلهم في دفتر خاصّ، وتحسين تغذيتهم ومراقبة توزيع الخبز عليهم.
ـ  انتخاب مجلس الأساتذة.
ـ تنظيم الامتحانات.
ـ الزّيادة في أجور المدرّسين والأساتذة على أساس مداومتهم للتّعليم.
ـ إدخال إصلاحات على مناهج التّعليم.
وهو يقدّم برنامجه الإصلاحي ومقترحاته لتحسين جودة التّعليم بالقرويين، يقول الحجوي: «ولمّا حللت فاسا، جمعت علماءها الأعلام، وشرحت لهم الحال، ورغّبتهم في تشكيل لجنة لتحسين حال القرويين من بينهم بالانتخاب على نسق انتخاب المجلس البلدي بفاس، إذ كان مرادنا الوقوف على أنظارهم وحاجاتهم، وأن نبدي لهم ما ظهر لي من إدخال نظام مفيد، وإصلاحات مادّية مع إصلاحات أدبيّة في أسلوب التّعليم أيضا، وإحياء علوم اندثرت منها كلّيا ونتبادل الآراء على عين المكان، ونجعل قانونا أساسيّا للقرويين يكفل حياتها ورقيها، ولا نبرم أمرا إلاّ بعد حصول موافقتهم، بل استحسانهم، فقبلوا ذلك بغاية الارتياح، وشكّلوا لجنة من   أمثالهم بأغلبيّة الأصوات تحت اسم «مجلس العلماء التّحسيني للقرويين» تركّبت من رئيس وستة أعضاء وثلاثة خلفاء يوم 21 جمادى الثانية عام (1332ﻫ/1914م) فكنّا نجتمع يوميّا، أطرح عليهم مسألة ممّا كنت أريد إدراجه من التّنظيم والتّحسين في القانون الأساسي للقرويين. ثمّ ألتمس آراءهم وأسمع ملاحظاتهم، فيحرّر كلّ واحد ما ظهر له ويؤخّر البتّ في المسألة إلى جلسة ثانية حتّى يطّلع المجلس على تلك التّحريرات ثمّ يقترع على الرّأي المقبول، فيثبت في سجلّ التّقريرات أصل المسألة وما أبداه  كلّ واحد منها، ثمّ ما وقع عليه رأي الجميع أو الأغلب عليه. وفي الجلسة التي بعدها يُسرد عليهم محضر الجلسة قبلها حتّى يسلّموه فيثبت في سجلّ القرارات، وعند ذلك نشرع في إملاء مسألة أخرى، وعلى هذه الخطّة كان سيرنا إلى أن تجمّع في تلك القرارات مائة مادّة ومادّتان مقسّمة على عشرة أقسام»(8).   
وفي مصر كذلك، اقترح الشّيخ محمد عبده مجموعة من  الإجراءات قصد إصلاح الأزهر الشّريف، وأشار إليها عبد الله دراز، وتشمل الاقتراحات التّالية:
ـ إحياء العلوم التي أهملت كالحساب و الجبر و الهندسة.
ـ تقوية العلوم التي ضعفت كعلم التّوحيد والمنطق والخلاف.
ـ فكّ قيود امتحان العالميّة لكلّ مستعدّ، بعد أن كان لا يتجاوز ستّة أشخاص في العام.
ـ إصلاح الحالة الصّحية بزيادة أعداد الخدم في الأزهر للنّظافة وتعيين طبيبين لمراقبة الشّؤون الصحية.
ـ إنشاء بعض المعاهد وترميم بعض آخر»(9).
الهوامش
(1) محمد بن الحسن بن العربيّ بن محمد الحجوي الثعالبي «الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي» دار الكتب العلمية -بيروت- لبنان الطبعة: الأولى 1995م ج2ص194
(2) آسية بنعدادة «الفكر الإصلاحي في عهد الحماية محمد الحجوي نموذجا» ص109
(3) محمد الحجوي «الفكر السامي» م س ج2 ص 531
(4) الرسالة بتاريخ 23جمادى الثانية سنة 1354
(5) محمد عبده «الأعمال الكاملة» تحقيق محمد عمارة  دار الشروق بيروت السنة 1993 ص193
(6) رشيد رضا «تاريخ الأستاذ الإمام» القاهرة، مطبعة المنار ط1 السنة 1931م ص425
(7) عبد الهادي التازي «جامع القرويين المسجد والجامعة» دار الكتاب اللبناني بيروت 1972 ج3 ص743
(8) محمد الحجوي «الفكر السامي» م س ج2 ص:531
(9) محمد عبد الله دراز «دراسات في العلاقات الاجتماعية والدولية» الكويت دار القلم ط2.السنة 1394هـ ص176