تحت المجهر

بقلم
د.عزالدين عناية
موسوليني والإسلام
 جاء اعتلاء الزّعيم الفاشي بنيتو موسوليني كرسي السّلطة، عام 1922، ثمرةَ تسويات بين الحركة الفاشيّة والقيادات السّياسيّة التّقليديّة المتنفّذة في إيطاليا، فقد كانت سمات الائتلاف لنظام سياسي يقوده موسوليني بارزة المعالم حتّى نهاية عام 1925. وفي تفسير الظّاهرة الفاشيّة التي اجتاحت إيطاليا في ذلك العهد، اعتبر المؤرخُ رينْسو دي فِليتشي الفاشيةَ تعبيرا عن تطلّعات جارفة لـ «فئات اجتماعيّة متوسّطة» و«شرائح بورجوازيّة صغيرة» على الأغلب، والتي استمرّ صعودها إلى حين تشكّل طبقة اجتماعيّة وقوّة جديدة في المجتمع. ومواكبة لذلك التّطوّر سعت الفاشيّة كحركة، لوضع يدها على الأوضاع الجديدة. ومن هذا الباب يمكن اعتبار الفاشيّة حركة ثوريّة ارتبطت بحراك جماهيري داخل نسيج المجتمع وتحوّلاته، استطاعت الاستيلاء على الدّولة وتوجيهها.
لكنّ الفاشيّة بوصفها إيديولوجيا وحركة ذات أبعاد قوميّة، لم تكن محصورة بالفضاء الإيطالي، فقد كانت لها استراتيجيّاتها وتطلّعاتها تجاه العرب والمسلمين أيضا، وإن بقي هذا الدّور خافيا على مستوى الأبحاث نظرا لندرة الدّراسات التّاريخيّة في هذا المجال، وهو ما يتناوله المؤلّفان في القسم الأول تحت عنوان: «موسوليني وسحر الشّرق». خصوصا وأنّ الاستشراق الإيطالي الحديث قد مثّل الحاضنة الثّقافيّة الدّاعمة للسّياسات الاستعماريّة الإيطاليّة تجاه العرب والمسلمين. فعلى ما يذكر الكتاب الذي نتولى عرضه «موسوليني والمسلمون» لمؤلفَيْه جانكارلو مازوكا(1) وجانماركو والش(2)، انضم ثلّة من آباء الاستشراق الإيطالي إلى «لجنة المصالح الاستعماريّة المكلّفة بالشّؤون الإسلاميّة» سنة 1914، كان من بينهم ليونه غايطاني وكارلو ألفونسو نللينو ودافيد سانتيلانه، اليهودي الدّيانة والتّونسي الأصل، الذي عيِّن سنة 1913 أستاذ التّشريع الإسلامي في جامعة روما. وقد أورد المؤلّفان في مستهلّ الكتاب، نقلا عن المؤرّخ فلافيو ستريكا في بحث بعنوان: «كارلو ألفونسو نللينو ومشروع احتلال ليبيا»، في مجلة «حوليّات» التّابعة لكليّة العلوم السّياسيّة في كالياري سنة 1983، أنّ المستشرق نللينو قد شارك في مجمل الاجتماعات واللّجان التي قدّمت المشورة للمستعمر الإيطالي بشأن القضايا الإسلاميّة إبّان عزم السّلطات مدّ نفوذها الاستعماري تجاه إفريقيا على غرار نظيراتها من الدّول الاستعماريّة.
ويعود مؤلِّفا كتاب «موسوليني والمسلمون» جانكارلو مازوكا وجانماركو والش بالحماس الجارف الذي استولى على الزّعيم الفاشي بنيتو موسوليني للسّير صوب البلاد العربيّة وإفريقيا إلى استلهام سياسات نابوليون المراوغة في مصر، التي زعم فيها أنّه يجلّ القرآن الكريم وأنّه ما جاء إلى القاهرة إلاّ لتخليص المصريين من شرّ المماليك، وذلك في خطابه الشّهير في الثّاني من يوليو 1798؛ بل يذهب الكاتبان في تخميناتهما إلى أنّ حماس موسوليني ينبع بالأساس من فكرة الإنسان الأرقى النّيتشويّة التي تتلاءم مع إله قويّ مسيطر، وهو ما يتماثل مع إله النّبي محمد ﷺ. وبمنأى عن تلك التّأويلات فقد شهدت إيطاليا، في أواخر القرن التاسع عشر وفي مطلع القرن العشرين، تحفّزا استعماريّا لبسط نفوذها على الأراضي الإسلاميّة القريبة، في ألبانيا والبوسنة والجبل الأسود، وليمتدّ ذلك في فترة لاحقة صوب إفريقيا وحتّى مشارف اليمن (3).
في الأثناء يتعرّض مؤلِّفا الكتاب إلى الدّور الذي لعبته خليلة موسوليني، ليدا رافانيللي، في إغرائه بالسّير قدما صوب العالم العربي في سياساته التّوسعيّة. فقد كانت تلك المرأة قارئة نهمة لأدبيات الشّرق وواقعة تحت تأثير الدّراسات الاستشراقيّة في أوروبا، في فترة كان يمثّل فيها المشرق منبع السّحر لدى كثير من الكتّاب. هذا الانبهار الذي تسرّب إلى موسوليني تحوّل إلى مشروع استعماري فعلي في فترة لاحقة. وللذّكر فالدوتشي (موسوليني)، كما يورد الكتاب، كان الأمر طبيعيّا بالنسبة إليه فلقبه العائلي يتحدّر من مسمّى القماش الليّن الشّفاف الذي تعود أصوله إلى مدينة الموصل العراقيّة.
بعد تقاسم الفرنسيّين والإنجليز النّفوذ في شمال إفريقيا، لم يبق لإيطاليا، الجارة الأوروبيّة المطلّة على بلاد المغرب، سوى ليبيا بعد أن بخستها الرّؤية الاستعماريّة، الفرنسيّة والإنجليزيّة، بنعتها بـ«صندوق الرّمال». لكنّ الدّعاية الاستعماريّة الإيطالية صوّرت ليبيا بمثابة الجنّة الخصيبة، وكان آل سافويا، حكّام إيطاليا في ذلك العهد، يراهنون على دعم الإنجليز الذين سيقايضونهم بليبيا لإبعادهم عن التحالف مع ألمانيا. ضمن هذه الأجواء الاستشراقية المغرية والوقائع الاستعمارية الدافعة، تفاقم هوس القوميين الإيطاليين بأنّ لإيطاليا الحديثة دورا مماثلا لدور «روما القديمة» في «تحضير» شعوب المنطقة.
في القسم الثّاني من الكتاب وتحت عنوان: «إيطاليا والتّحفز نحو بلاد المغرب»، يبرز المؤلّفان أنّ إيطاليا كانت من بين البلدان الأوروبيّة التي تنظر إلى الجوار المغاربي (تونس وليبيا أساسا) بعين الشّره والتّحفّز لاقتناص الفرصة وضمّهما. ولكن منذ أن احتلت فرنسا، بمقتضى معاهدة باردو (1881) تونس، التي تقيم فيها جالية إيطاليّة تفوق نظيرتها الفرنسيّة عددا، تبخّر حلم إيطاليا في الاستحواذ على تونس وتركّزت أنظار السّاسة والعسكريين الإيطاليين في شطْر إقليميْ طرابلس وبرقة، الواقعين تحت سلطان الإمبراطوريّة العثمانيّة منذ العام 1551 وإلى غاية احتلال طرابلس سنة 1911. فعلى مدى عقود سابقة سعت إيطاليا جاهدة للنّزول بما يسمى «الضّفة الرّابعة». بدءا من الاستعدادات العسكريّة لغزو البلاد الإفريقية (1884)، وإلى غاية إرساء الوفاق مع فرنسا (1902) لتقاسم النّفوذ، وما صحبه من تهيئة الرّأي العام لحملة استعماريّة، جرى أثناءها تصوير غزو ليبيا أنّه مجرد «نزهة عسكريّة»، وأنّ الثّروات الوفيرة للبلد ستغطي تكاليف الحرب. كما عملت الدّعاية الاستعماريّة على بخس الدّور العثماني في ليبيا وتصويره بمثابة العبء الذي ترزح تحت وطأته ليبيا، وهو ما خلّف فقرا وجهلا وتخلّفا، غير أنّ الوقائع التّاريخيّة تكشف أنّه منذ العام 1878، أصدرت السّلطنة العثمانيّة فرمانا يوجب إلزاميّة التّعليم على كلّ سكان الولايات. وبين سنة 1900 و1910 تمّ بناء سبع وعشرين مدرسة ابتدائيّة بطرابلس، تحاذي الكتاتيب الموجودة سلفا. وفي المستوى العالي شُيِّدت الرشديات، وهي مدارس تحضيرية تسمح بدخول المدارس العسكريّة العليا والمعاهد التّقنية لتكوين الموظّفين الإداريين. وعلى خطى مشابهة جرى تطوير الصّحافة، ففي طرابلس وحدها يمكن إحصاء ثماني صحف، بين جرائد يوميّة وأسبوعيّة، في شتّى اللّغات: العربيّة والتّركية والإيطاليّة والعبريّة(4).
لكنّ سياسة الدّعاية جرى تبنّيها بإصرار من قِبل القوميين الإيطاليين، وقد حضرت آثارها بقوّة في تصريحات الكاتب والسّياسي الإيطالي أنريكو كورّاديني، الذي أصرّ على أنّ ليبيا تنعم بأراض خصيبة وثروات منجميّة وفيرة، ويمكن أن تكون مستعمرة استيطانيّة وليس مصدرا للاستغلال الخاطف فحسب. فحاول دفع البرجوازيّة والبروليتاريا والحكومة في ذلك الخيار. فاحتلال طرابلس، بالنسبة إليه، ستكون له آثار معنوية، وسيغلق «التّطاحن الطّبقي الذي يستنزف الأمّة الإيطاليّة». كما شاع حافز آخر للذّهاب إلى بلاد المغرب متمثّلا في نداء الماضي، نداء روما الإمبراطوري، الذي كانت تونس وليبيا إحدى مجالاته الغنيّة بوصفهما مطمورة روما (5).
وفضلا عن الاستعداد السّياسي وتحشيد الرّأي العام الشّعبي، فقد اقترن ذلك بدعامات عمليّة. كانت إيطاليا تُسَيِر أنشطة متنوعة في ليبيا، تركّزت بالأساس على تجميع المعلومات العسكريّة، وعلى نسج علاقات مع قادة العشائر والقبائل، خصوصا ممّن لا تربطهم روابط متينة بالسّلطنة العثمانيّة، مثل حسونة قرامنلي. وبدءا من العام 1907 بدأ تسرّبٌ اقتصاديٌّ فعلي تكفّل به «بنك روما»، بعد أن افتتح فروعا ووكالات تجاريّة في سبع عشرة مدينة، فضلا عن رعاية أنشطة صناعيّة هامّة، قوامها مطاحن عصريّة، ومعاصر للزّيت، ومصانع للثّلج، ومحاجر، وشركات فلاحيّة ومطابع.
في القسم الثالث من الكتاب وتحت عنوان: «الآلة الاستعماريّة النّشيطة»، يورد المؤلّفان: في الفترة التي استتبّ فيها الأمر للفاشيّة وعقدت جملةً من الاتفاقات مع دول الجوار، بلغت أوجها بالتّحالف الاستراتيجي مع النّازية، لم تقتصر سياسة موسوليني مع العالم العربي على توطيد استعمار ليبيا والتمدّد صوب الصّومال وأثيوبيا والتّطلع لجعل اليمن -زمن الإمام يحيى- تحت الحماية الإيطاليّة فحسب؛ بل حاول الزّعيم الفاشي استمالة العرب واستغلال حالة الصّراع العربي الإسرائيلي بشأن فلسطين، فسعى موسوليني جاهدا للتقرّب من مفتي القدس الحاج أمين الحسيني ودعاه إلى زيارة ميلانو في مارس 1942. كما حاول في البدء توظيف القوانين العنصريّة الصّادرة ضدّ اليهود واستمالة العرب إلى صفه، وذلك عبر تمديد تلك القوانين العنصريّة إلى ليبيا، وغيرها من أشكال المراوغة التي انتهجها موسوليني تجاه العرب مثل سماحه للمسلمين باكتساب الجنسيّة الإيطاليّة شريطة الولاء المطلق لإيطاليا. حتّى أنّ بعض التّشكيلات السّياسيّة العربيّة، وفق ما يورد مؤلفا كتاب «موسوليني والمسلمون»(6)، نظرت إلى الزّعيم الفاشي نظرة إعجاب وإكبار. حيث يرصد المؤلّفان ظهور بعض التّشكيلات العربيّة مستلهمةً الإيديولوجيا الفاشيّة لموسوليني مثل: الكتائب اللبنانيّة، وحزب شبّان مصر، والقمصان الخضر والقمصان الزّرق في مصر، وجمعيّة كشافة «الجوّالة». فالعلاقة التي حاول نسجها موسوليني بين الفاشيّة والمسلمين كانت قائمة بالأساس على أفكار وعلى مصالح مشتركة.
وفي خطوة لافتة للسّياسة الدّعائيّة الإيطاليّة، جرى تدشين «راديو باري» في السّادس من سبتمبر 1932 من قبل الدّوق أميديو دي سافويا أوستا. ليتكثّف في الفترة المتراوحة بين 1934 و1936 البثّ عبر الأثير الموجّه نحو البلاد العربيّة، وذلك بإلحاح من الدّوتشي، بوصفه أحد المتمرّسين بالإعلام والدّعاية لاشتغاله في العمل الصّحفي قبل تولّيه مناصب سياسيّة. حيث عوّلت الفاشية أيّما تعويل على البروباغندا من خلال إطلاق برامج عربيّة بهدف كسب العرب إلى صفها. وقد تولىّ موسوليني بنفسه، في العديد من المناسبات، شرح تلك السّياسة التي تقف على نقيض السّياسة البريطانيّة في المشرق من أمام ميكروفون الإذاعة قائلا: إنّ الأهداف التّاريخية لإيطاليا تستهدف تحديدا آسيا وإفريقيا، الجنوب والشّرق، ولا يتعلّق الأمر بغزو استعماري للأراضي بل هو امتداد طبيعي أساسه التّعاون بين إيطاليا وأمم الشّرق، وإيطاليا بمقدورها فعل ذلك، فموقعها بين الشّرق والغرب يكفل لها ذلك الدور (كلمة ملقاة في الرابع من فبراير 1925).
وفي القسم الرّابع والأخير من الكتاب يتعرّض المؤلفان إلى زيارة موسوليني لليبيا. فقد حفّت بنزول الزّعيم الفاشي بمدينة طبرق في الثّاني عشر من مارس 1937 هالة كبيرة من البهرجة، استعدادا لتقليده «سيف الإسلام» في حفل نظّمه والي طرابلس حينها إيتالو بالبو. وفي خطاب موسوليني أمام حشود المعمِّرين الإيطاليين توجّه بعبارات مقتضبة للأهالي اللّيبيين أصحاب الأرض قائلا: «يعرف الأهالي المسلمون، أنّه في ظلّ الرّاية الإيطاليّة ثلاثية الألوان سيعمّ السّلام والرّخاء وستراعى أعراف المسلمين ولاسيما دينهم ومعتقداتهم». ليعقب تلك الكلمة استقبال خيّالة عرب موسوليني في واحة بوغارة وتسليمه «سيف الإسلام» من قبل يوسف خربيشة أحد أعيان الجهة، حينها أشهر موسوليني السّيف عاليا وهو يمتطي صهوة جواد صادحا «إلى الأمام!». ليدخل بعدها طرابلس على صهوة جواد أيضا، ثمّ ألقى خطابه الذي وعد فيه اللّيبيين بالرّخاء وذكر أنّ الملك فيتوريو إيمانويل هو من أرسله مجددا إلى ليبيا، مذكرا اللّيبيين أنّهم هم من قلّدوه «سيف الإسلام» وأنّ إيطاليا ضامنة الرّفاه للمسلمين وحامية لهم، وأنّه يتعاطف مع المسلمين في العالم بأسره ويحفظ العهود. وفي السّنة الموالية، حيث ألقى موسوليني خطابه، تمّ تشييد نصب تذكاري له. «سيف الإسلام» الذي أشهره موسوليني في ليبيا تبخّر سنة 1943 مع موجة مقاومة الفاشيّة، وبقي مصيره مجهولا إلى اليوم. والواقع أنّ ذلك السّيف الذي تقلّده موسوليني كان سيفا مصنّعا في مدينة فلورانسا الإيطاليّة، وما كان سيفا من صنع الأهالي، غير أنّ الدّعاية الفاشيّة رأت أن يكون الإخراج على تلك الشّاكلة، وهو يماثل ما فعله موسوليني من تنصيب نفسه بنفسه حاميا للمسلمين.
وبوجه عام لا يغرق الكتاب في التأريخ السّياسي، بل يحاول ربط تقرّب موسوليني من العالم العربي ضمن إطار عام، كما يحاول مؤلفاه، قدر الإمكان، اعتمادَ المراجع في ما يوردانه من وقائع وروايات. يشفع المؤلفان الرّوايات التّاريخية بجملة من الصّور المهمّة، تبدو ضرورية في هذا النّوع من الكتابة، فضلا عن فهرس عام للأعلام.
الهوامش
(1) جانكارلو مازوكا هو صحفي وباحث إيطالي من مواليد 1948، شغل مديرا لعدة صحف إيطالية منها: «إيل ريستو ديل كارلينو» و»إيل جورنو»، كما نشر مجموعة من الأبحاث منها: «رواد الرأسمالية الإيطالية وأحفادها» 1990، «سادةُ الإنترنيت» 2000، «رفاق الدوتشي» 2011.
(2) جانماركو والش هو ناشر إيطالي وباحث في التاريخ الحديث من مواليد 1949، يهتم بالتحقيقات التاريخية وتجميع الوثائق.
(3) موسوليني والمسلمون.. صفحات من تاريخ الفاشية والإسلام ، ص 66
(4) ن.م ، ص 93 (5) ن.م ، ص 101 (6) ن.م ، ص 213