في العمق

بقلم
د.علي الرابحي
رسالة في الإصلاح الاجتماعي (4-4) قضايا الإصلاحية الإسلامية
 بحكم رسالته، ينحاز المصلح إلى مجتمعه، فيتلمس معاناته، ويتعرّف همومه ومشاكله عن قرب، ويعمل على تقديم مقترحات، وإنجاز مشاريع، لحلّ المشكلات الاجتماعيّة من خوف وأمّية وفقر وفرقة، على كلّ المستويات، وفي كلّ المجالات: العلميّة والتّربويّة والتّعليميّة والعمليّة؛ ويلتمس ما يحقّق العدالة، ويعزّز اللّحمة الاجتماعيّة، ويصون كرامة النّاس في المجتمع. 
إنّ عرض القضايا المعاصرة، والإشكالات المستجدّة، على النّظر الأصولي، والدّرس المقاصدي، والبحث الفقهي، والتّأمل الفكري، والتّفكر المعرفي، بمقاربات أصيلة ومعاصرة، يحيي الاجتهاد الشّرعي، ويجدّد الفكر، في خدمة الإصلاح. 
والواضح أنّ الإصلاحيّة الإسلاميّة لم تخرج عن مبادئ منهج الرّسالة الإسلاميّة في الإصلاح التي تدور حول تحقيق المقاصد العليا للشّريعة وحفظ الضّروريّات الثّابتة في جميع الملل والنّحل انطلاقا من الدّين، المقصد الأساس الذي خلق الإنسان من أجله، مع إحياء قيمة الإحسان التي تستغرق حياة المسلم كلّها. فتجعل القرآن الكريم الضّابط الحقيقي لمنهجها.
إنّ قضايا الإصلاح، ما هي إلاّ استدعاء لمقاصد الشّريعة، تدور حول الكلّيات، ولا تخرج عنها؛ وتنتظم باعتبار المصالح في ضروريّات، يفرضها النّوع الإنساني، تتفرّع عنها حاجيّات، توجبها التّنمية المستديمة، وتتطلّع إلى تحسينيّات مستحبّة لتجويد مخرجات الإصلاح ، وهي:
1. حفظ الدّين من الانفصال عن مصادره الأصليّة. 
2. حفظ النّفس من التّرويع والهلاك.
3. حفظ النّسل من تداعيّات الأسرة النّوويّة.
4. حفظ العقل من التّخلّف الفكري.
5. حفظ المال من الانفكاك من أخلاقيّات المصدر وخيريّة الغاية.
6. حفظ البيئة من مختلف الملوّثات.
فرض الدّرس المقاصدي نفسه في الفكر الإسلامي، قال ابن القيم في فقه المقاصد: «هو الفقه الحيّ الذي يدخل على القلوب بغير استئذان»(1)  في مقابل الفقه الميّت الذي يتمسّك بالألفاظ والمباني ويهمل المقاصد والمعاني. ويبيّن ابن القيم فوائد المقاصد بقوله: «بناء الشّريعة على مصالح العباد في المعاش والمعاد، هذا فصل عظيم النّفع جدّا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشّريعة... فإنّ الشّريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلّها، ورحمة كلّها، ومصالح كلّها، وحكمة كلّها»(2). والمعاني نفسها نجدها عند جمهور الأصوليّين قدماء ومحدثين. 
أوّلا. المكوّن الدّيني صمّام الأمن الرّوحي للأمّة
إنّ المكوّن الدّيني صمّام الأمن الرّوحي للأمّة. ومن حقّ الأمّة على علمائها أن يوفّروا لها خدمة دين اللّه الواصب، والوعي بمركزيّة المؤسّسة العلميّة ودورها المحوري في تحقيق هذه الوظيفة، والمبادرة أساسا إلى القيام للّه بالحجّة، لتحصين العقيدة الصّحيحة وصيانتها من زحف تيّارات التّشويه والتّحريف، وحماية شريعة اللّه الحاكمة من وقع التّراخي الواقع في التّدين، والتّدافع في إطار حقّ حفظ القيم الدّيني من كلّ ما يداخله ممّا هو أجنبي عنه. 
يجمع العلماء على أنّ مقصد «جلب المصلحة ودرء المفسدة» هو أعمّ مقصد من مقاصد الشّريعة. ويكون جلب المصالح بالتّمكين للدّين في حياة النّاس الخاصّة وفي المجال العام، ويكون دفع المفاسد بردّ المعتدين على الدّين، ودفع تحريف الغالين، وانتحال المبطلين. يقول اليوبي: «حفظ الدين يكون بالعمل به، والحكم به، والدعوة إليه، والجهاد في سبيل إعلائه، ورد كل ما يخالف الدين من الأقوال والأعمال، والأخذ على يد الخارجين عن أحكامه وحدوده، وتلك مهمة العلماء والحكام»(3).
ثانيا. المكون العلمي صمام الأمن الفكري للأمة.
إنّ المكون العلمي صمّام الأمن الفكري للأمّة، والحاجة ماسّة للاستثمار في تكوين العقل العالم، ليس من أجل تحرير العقل المغلول فحسب، بل من أجل تحرير الانسان أوّلا. وليس من سبيل إلى تحقيق هذا المطلب الملحّ، إلاّ ببث العلم وإشاعة المعرفة، وتعميم الثّقافة، وتمكين عموم النّاس من التّكوين. إنّ بلادنا تزخر بالعديد من الكفاءات في كلّ التّخصّصات، ينتظر منها المبادرة إلى تقريب معين التّراث الأصيل إحياء لما اندرس من الماضي لينهل منه، والتّعريف بمفيد الحداثة المعاصرة، المتلائمة مع متطلبات الحاضر، المتّفقة مع روح الإسلام للارتواء منها، ونشر فكر الوسطيّة والاعتدال وكلّ ما يرتبط به من قيم ومبادئ.
للعقل وسائل حفظ من جانب الوجود وأخرى من جانب العدم. فأمّا التي في جانب الوجود، فمنها: حفظه بالعلم والتّعلّم، والحثّ على النّظر والتّفكير والتّأمّل ونشر المعرفة، وأمّا التي في جانب العدم، فمنها تحريم ما يفسده أو يعطّله أو يعدمه من المسكرات، وتجنّب المعوقات المعنويّة، والانحرافات الفكريّة من قبيل شيوع التّيارات الفكريّة والعقديّة المنحرفة.  
ثالثا. المكوّن النّفسي صمّام سلامة أفراد للأمّة
إنّ المكوّن النّفسي صمّام سلامة أفراد للأمّة. فحقّ الحياة قوام الاجتماع البشري. وقد خلق اللّه سبحانه وتعالى النّفس وأجادها، وكرّم الإنسان على كثير من خلقه، وحرص على بقاء النّوع الإنساني بوضع تشريعات تحفظ دوامه إلى أجل مسمّى عنده، وتكفل استمرار وجوده محاطا بالرّعاية اللاّزمة في جميع أطوار حياته وأحوالها. ولمواجهة كلّ ظواهر الإقدام على هدم بناءٍ بناه اللّه تعالى ودعا إلى الحفاظ عليه، يهاب بكلّ المؤسّسات العلميّة، وبجميع مصادر التّوجيه في المجتمع، وجوب العودة إلى المواقع التي يتشكّل فيها الوعي، وتصنع فيها الممانعة من أجل تفعيل رسالتها. وأن تدعو إلى تبنّي مشروع يقوم على إبراز كلّ مساحات الالتقاء بين المسلمين فيما بينهم وبين المسلمين وغيرهم، وهي مساحات شاسعة لتجاوز خطاب العنف.
 ويظلّ للأسرة دورها في غرس معاني التديّن الصّحيح، كما أنّ للمسجد وما يلقى فيه من دروس العلم والخطب والمواعظ رسالته الكبيرة في تحقيق هذا الهدف.
رابعا. مكوّن النّسب صمّام الأمن الأسري
إنّ مكوّن النّسب صمّام الأمن الأسري. فمن مفهوم الشّموليّة للدّين الإسلامي أنّه لم يغادر شيئا كبيرا ولا صغيرا من قضايا الإنسان إلاّ ووجّه فيه إلى الخير، ومن ذلك «قضايا الأسرة والطّفل» المرعيّة في الشّريعة، من خلال ما نصّت عليه الآيات القرآنيّة، وأحاديث رسول اللّه ﷺ، التي يمكن أن تكون في مجموعها دستور التّعامل مع الأسرة. إنّ الأسر المسلمة هي أسر ممتدّة. ويجب أن نعود لهذا الامتداد حتّى نتفادى آثار وتداعيّات الأسر النّوويّة التي يعيشها غيرنا.
إنّ العالم اليوم يواجه مشروعاً استعماريّاً جديداً تحت عنوان (العولمة)، يرغب في الوصول إلى إقرار قيم (كونيّة)، وإخضاع العالم كلّه –بما في ذلك العالم الإسلامي- إلى النّمط الغربي ونموذجه، الذي استطاع الغرب أن يسوقه ويفرضه بكل الوسائل، مرة عن طريق الإغراء ومرة عن طريق التخويف، ومرّة بتكوين من يروّج لمقولات الغرب من المعجبين به وبنموذجه.
يرى الأستاذ مصطفى بن حمزة  أن من فرائض الإسلام: أن يكون الإنسان المسلم حيّا في زمانه، متابعا لكلّ تموّجات الفكر، ولكلّ التّيارات التي تهب على المجال الإسلامي، من أجل أن يكون حاضرا، فيوجّه الحياة بحسب ما لديه من الفهم للشّريعة الإسلاميّة، ولعطاء الإسلام في الموضوع. فيقول :«نحن لسنا أبدا ضدّ أيّ تغيير أو تجديد أو تحديث، حين ينطلق من ذاتيتنا وخصوصيّتنا، ونحن ضدّ كلّ (تغيير وتجديد وتبديل) حينما يكون إجهازا على قيم هذه الأمّة وعلى دينها وشخصيتها»(4).
خامسا: مكوّن المال قوام أمن حياة الإنسان
إنّ مكوّن المال قوام أمن حياة الإنسان، فالممارسة «الدّينيّة» والممارسة «الاقتصاديّة الاجتماعيّة» متداخلتان تمامًا، ولا توجد حدود فاصلة بينهما، ولا يوجد تصوّر مجرّد للدّين خارج هذه الممارسة الاقتصاديّة الاجتماعيّة. وهذا يفسّر الطّابع العملي التّعميري الغالب على المشروع الإسلامي، ونظريّة الإستخلاف المؤصّلة المستوحاة من رساليّة الإنسان الخلافيّة التي تقتضي العمارة المادّية للأرض.
سادسا: مكوّن البيئة صمّام سلامة المحيط الطّبيعي
إنّ مكوّن البيئة صمّام سلامة المحيط الطّبيعي، ويتطلّب ترقية سلوك الإنسان نحو محيطه المادّي، بغية أن يصير الوعي بقضايا البيئة وعيا مشتركا.
والملاحظ توافق هذه القضايا والكلّيات مع أركان حقوق الإنسان التي يتنادى بها النّاس:
1. الحقّ في التّديّن مكفول في الإسلام لكلّ النّاس، فلا يجوز التّهجم على دين الإنسان. 
2. حرّية التّفكير أساس التّكليف في الإسلام، فلا يجوز مقايضة عقل الإنسان أو توجيهه أو سلبه.
3. السّلامة النفسيّة وكلّ ما يخلّ بالجسم ولو على المدى البعيد يقول الاسلام فيه بالحرمة، فلا يجوز الاعتداء على جسد الإنسان.
4. النّسل وجود معنويّ واستباحته في الإسلام مسّ بالنّسب وإهدار للكرامة، فلا يجوز أذية عرض الإنسان.
5. المال قوام الحياة في الإسلام وزينتها، فلا يجوز نهب مال الإنسان.
6. البيئة مشترك إنساني، فلا يجوز تلويثها.
الخاتمة
إنّ الإصلاح الاجتماعي حاجة إنسانيّة مرافقة لمسيرة الإنسان في مجالات حياته الخاصّة والعامّة بحسب مقتضيات العصر، وضرورة تمليها طبيعة الدّين الإسلامي نفسه، الذي يحمل مشروعا إصلاحيّا مستمرّا في الزّمان والمكان، قائما على نقد الواقع، وتصحيح المفاهيم المنحرفة، ومراجعة التّدين المغشوش، ومعالجة المشكلات الاجتماعيّة. 
وقد تنوعت مناهج الإصلاح الاجتماعي عبر العصور، وتعدّدت مدارسه في المشرق والمغرب، حسب الوسط الذي ظهرت فيه، وحسب اختيارات رجالاته: كالأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا والكواكبي والمودودي وسعيد النّورسي ومالك بن نبي، والمختار السّوسي، وعبدالله كنون، وغيرهم.
الهوامش
(1) ابن قيم الجوزية، «إعلام الموقعين عن رب العالمين»، تحقيق مشهور بن حسن، دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، السعودية، ط1،  1423هـ، ج4 ص448. فصل [لا بد من اعتبار النية والمقاصد في الألفاظ].
(2)  ابن قيم الجوزية، «إعلام الموقعين عن رب العالمين»، م س، ج3 ص11. [فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات].
(3)  محمد سعد بن أحمد بن مسعود اليوبي، «مقاصد الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالأدلة الشرعية»،  دار الهجرة للنشر والتوزيع، السعودية، ط1، 1998م، ص:195و209.
(4)  مصطفى ابن حمزة، مداخلة في ندوة علمية في موضوع «حقوق الطفل بين الفقه الإسلامي والقانون المغربي والاتفاقيات الدولية، النسب والبنوة نموذجا»، بقاعة ابن بطوطة بطنجة، يوم 20 مارس2017م.