بهدوء

بقلم
محمد بن نصر
تفعيل القيم الدينية في المجتمع (1/2)
 مقدمة
تعوّدنا على البحث في العوامل الموضوعيّة المعطّلة لدور الدّين في المجتمع، باعتبار التّخطيط المتواصل والعمل الدّؤوب على تحييده و إبعاده قصدا عن دائرة الفعل أملا في شيخوخة للدّين طالما انتظروها، تحقيقا للتّحقيب الذي زعموه للتّاريخ الإنساني، القائل بأنّ الدّين مرحلة ولّت وأدبرت، ولكن بعكس ما خطّطوا له وبالرّغم من كلّ أسباب الإعاقة والإحاطة، استعاد الدّين عافيته وجدّد حيويّته مصداقا لقوله تعالى«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ»(1). 
ما تمّ رصده من أموال وما تمّ تسخيره من إمكانات بشريّة ومادّية لذلك وفي إطار استراتيجيّة متعدّدة الأبعاد، يفوق الخيال. الوجه الإيجابي في هذه المساعي المتعدّدة الاتجاهات هي أنّها مؤشّر على حيويّة الإسلام النّاهض من تحت الرّكام. في أصل الأشياء لا يُخشى من الميّت وإنّما يُخشى من الذي يملك إمكانيّة الحياة حتّى وإن كان فاقدا لشروطها.
لكنّ الدّين في تقديرنا لم يستعد بعد فعاليته حيث أنّ التّنامي السّريع والواسع للظّاهرة الإسلاميّة في المجتمع لا يتناسب مع الدّور الذي يلعبه الدّين في تغيير المجتمعات وإصلاحها حتّى بدت  هذه الحالة للبعض وكأنّها ظاهرة مولدة للمشكلات أكثر من أنّها منتجة للحلول(2). 
تعمّقت الفروقات بين المعيش والمفكّر فيه  حتّى صار الحديث في الواجب مُغنيا عند البعض عن القيام به و تراكم الكلام في ما يجب أن يكون وتضاءل فيما هو كائن وكيف السّبيل إلى تغييره. خطاب أصبح ذا مفعول عكسيّ عند قائله حيث تنتابه حالة عابرة من الرّضى المتجدّد عن النّفس لمجرّد أنّه ذكّر العباد بما هم به عالمون. يُعقد المؤتمر تلو المؤتمر ويُشفع كالعادة بالعديد من التّوصيات الجميلة ويتفرّق المؤتمرون ليلتقوا في مناسبة جديدة وفي مدينة أخرى. ليس هذا تقليلا من أهمّية الملتقيات الفكريّة وما يدور فيها من حوارات ومداولات حول هذه المسائل ولكن أرى أنّه من الضّروري الاهتمام بالجدوى والفعالية(3).
 هذه الورقة صدى لأسئلة الطّلبة المهمومين بالسّؤال عن شروط التّفعيل، فكثيرا ما ردّدوا: نحن مؤمنون بصدق الرّسالة، مقتنعون بها ولكنّنا عاجزون عن تبليغها للآخرين، بل عاجزون عن الدّفاع عنها لأنّ صورة المسلمين في الواقع تُعطي فرصة ذهبيّة لمنتقديه ومُشوّهيه. وعليه تحاول هذه الورقة أن تبحث في هذا الإشكال من خلال البحث في العناصر الآتية: 
-1 الفكرة بين الصّلابة المبدئيّة والهشاشة الواقعيّة،
-2 ما يجب تجاوزه لإيجاد الفعالية المفقودة للدّين،
-3 الإنسان محور الاهتمام،
-4 من الشّأن الخاصّ إلى الشّأن العام ومن علم المعلوم إلى علم المجهول،
-5 ضرورة تحرير الدّين من التّراث الدّيني. 
الفكرة بين الصّلابة المبدئيّة والهشاشة الواقعيّة
يستهوينا النّظر في الأفكار من زاوية قوّتها المنطقيّة ومضمونها القيمي ولكن قلّما نتساءل عن شروط فعاليتها وفعلها في الواقع، وفي كيفية تفعيلها وما الشّروط التي يجب أن تتوفّر حتّى تتحوّل من مستوى التّعبير عن النّظري، المنخرط كلّية في قضايا الماضي من خلافات عقديّة ومذهبيّة أو المنخرط في قضايا الحاضر انفعالا وليس فعلا ولا تفاعلا إلى مستوى التّعبير عن الثّقافي المنفلت عن عقيدة التّوحيد والموجه للسّلوك. كثيرا ما تحدّث المسلمون عن الشّورى باعتبارها المبدأ الإسلامي النّاصع الجليّ الذي سبق بقرون منظومة الدّيمقراطية الحديثة في حين أنّ الاستبداد كان ولا يزال هو الظّاهرة الغالبة في ماضينا وفي حاضرنا ، نتكلّم عن العدل والمساواة وطاحونة الظّلم الاجتماعي تسحق المئات بل الآلاف يوميّا ، نتكلّم عن التّكريم الإلهي للإنسان وكرامته تّنتهك في كلّ لحظة. 
 هناك فرق كبير بين صحّة الفكرة وبين امتلاكها لشروط التّفعيل في الواقع. أفكار كثيرة تافهة بل منافية للفطرة الإنسانيّة تتحوّل بقوّة الوسائل التي تملكها إلى ثقافة موجّهة للتّفكير والسّلوك وصانعة للرّأي العام تصل إلى حدّ البرمجة الآليّة للعقول والمشاعر. فالعطالة تتمكّن من الفكرة عندما تظلّ عاجزة عن الفعل في الواقع وتبقى معلّقة في قوالب ما يجب أن يكون منقطعة عمّا هو كائن. اغتراب الفكرة أخطر من حالة الاغتراب التي يعيشها الإنسان المسلم بل هي من أسباب غربته. تستمع إلى خطيب الجمعة فيمطرك بأفعال الواجبات و«الاّبدات» و«الينبغيات» وترى الجموع تلبّي بحركات آليّة للرّؤوس موافقة و مؤيّدة ثم يعود كلّ إلى حاله وأحواله في انتظار دفعة جديدة من ذات الأقوال في الجمعة التي تليها.
 مبادئ الدّين تصبح فاعلة عندما تتحوّل نظريّا إلى نُظم مسيّرة للحياة، نظام لتطبيق الشّورى ونظام لتطبيق العدل الاجتماعي ونظام لتحقيق كرامة الإنسان وتتحوّل عمليّا إلى ثقافة وقيم موجهة لسلوك الإنسان بشكل تلقائي، يشعر الإنسان بأثرها في معاشه وكلّ مظاهر حياته. 
تزداد المسألة تعقيدا عندما تحتل الأشياء مكان الصّدارة في جدول الاهتمامات، فيتحوّل الإنسان إلى مجرّد مستهلك نهم لها، تتقاذفه من حال إلى حال، فيصبح في سباق لاهث غير قادر عن المساءلة والتّفكير والتّأمل، تتدفّق أمامه المعطيات والمعلومات عن كلّ شيء وفي كلّ حين وكما يقول المثل الفرنسي «كثرة المعلومات تقتل الإعلام» وبالنّتيجة أصحبت هي التي تتحكّم فيه وهو عاجز عن التّحكم فيها وعندها يسهل توجيهه وتخويفه من خلال التّلاعب بالصّورة التي أصبحت أكثر قدرة على النّفاذ إلى وجدان الإنسان المعولم.  
الشّروط النّظريّة والعمليّة لتحقيق الفعالية
- الطّبيعة الإنسانيّة بين الازدواج والامتزاج
من الأقوال المتواترة في أغلب المعتقدات والأديان أنّ الإنسان ثنائيّ الطّبيعة، مزدوج التّكوين، مادّي وروحي. قال بعضهم بالتّكامل بينهما وقال آخرون بالصّراع بينهما، وفضّل بعضهم الرّوحي عن المادّي وفضّل آخرون المادّي عن الرّوحي وترجم ذلك في المنزلة التي أعطوها للدّنيا والمنزلة التي أعطوها للآخرة وفي المعايير التي وضعوها لتحديد شرفيّة علوم الدّين في مفهومه الاختزالي ودونيّة علوم الدّنيا. 
لم نخضع هذه التّقريرات العامّة للمنطق القرآني لنتبيّن مدى صوابها من خطئها. قال تعالى «إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ. فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ»(7)  
الدّمج بين الطّين والتّسوية والنّفخ الإلهيين لا يتطابق كلّية  مع القول بالازدواج بل لا يعبّر عن حقيقة النّفس الإنسانيّة لأنّ الامتزاج يفضي إلى خلق جديد تمتزج فيه كلّ هذه العناصر، وبالتّالي لا يؤدّي إلى النّتائج نفسها. فالجمع بين القلب وعمليّة التعقّل دلالة واضحة على أنّ الكيان الإنساني كيان متناسق ومتداخل الأبعاد وذلك هو التّعبير الأكمل عن الفطرة الإنسانيّة، قال تعالى «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ،فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ»(8). فالإنسان بهذا المعنى واحد متعدّد الأبعاد في تجانس بديع. 
فرضيّة الامتزاجيّة بدل الازدواجيّة تفتح لنا آفاقا جديدة في فهم النّفس الإنسانيّة وكيفيّة بنائها البناء المتوازن. عادة ما تؤدّي النّظرة التّقابليّة إلى إيجاد إنسان أليف سلبيّ وإنسان فاعل ولكنّه متوحّش على شاكلتين، توحّش ناعم وتوحّش بربري، فيتعمّق مفهوم الصّراع مع كلّ شيء، صراع الإنسان مع الطّبيعة، لا يكاد يكتشف قوانينها ويقلّدها في أحوالها حتّى يحوله غروره إلى البحث في إمكانيّة تغييرها، صراع مع غيره ومع نفسه وتصبح المعاني الجميلة مثل التّسامح والمحبّة والعدل والمساواة فارغة من محتواها ومعبّرة عن عكس مضمونها.
فرضيّة الامتزاجيّة هي التي تساعدنا في تقديري على تعميق مفهوم التّسخير الإلهي والتّدافع الإنساني المؤسّس على مبدأ التّعارف الذي يقضي بضرورة الاعتراف المتبادل وهو ما يساعدنا على بناء نظريّة للمعرفة وفق مبدإ التّكامل المعرفي الذي يعكس الأبعاد الإنسانيّة المتنوّعة والمتناسقة. وبالنتيجة تكون الإمتزاجيّة الأرضيّة المثلى لتفعيل قيم الدّين بحكم قدرتها على تجاوز الثّنائيات التّقابليّة الموهومة بين الدّين والدّنيا.   
- بين التّعبد الطّقوسي والتّعبد القرآني
كثيرا ما تساءلت هذا التّساؤل البسيط في مبناه والعميق في معناه ومفاده: ما الذي يجعل إنسانا ما يمسك بيده شيئا يريد أن يتخلّص منه حتّى يجد سلّة مهملات فيضعه فيها، حرصا على نظافة الفضاء العام، في حين ترى إنسانا آخر يلقي به كيفما اتفق لا يهمّه أين يقع؟ وعلى من يقع؟ وماذا يمكن أن ينجرّ عن ذلك؟ من المفارقة أنّك تجد البعض بقدر ما يكون حريصا على نظافة فضائه الخاصّ بقدر ما يكون مفرطا في نظافة الفضاء العام. 
في عديد المرّات وأثناء زياراتي لكثير من المدن العربيّة والإسلاميّة، أتعجّب من حالة الطّريق العام التي تفتقد لأبسط المرافق ومن المساكن الفاخرة على أطرافها المكتنزة بأحدث المقتنيات. بل تجد البعض وهنا أخصّ بالحديث شريحة واسعة من النّاس، حريصا على أداء صلاته على الوجه الصّحيح و يتجنّب الوقوع في مبطلاتها بل يحرص على الالتزام بتطبيق أدقّ الأمور في وضوئه ولكنّه يتهاون في واجباته تُجاه الطّبيعة والإنسان والمجتمع. نظرتُ فيما يصحّ به الوضوء وما تصحّ به الصّلاة فوجدتها في أغلبها حسّية تتعلّق بالجسد ولا تتعلّق بالنّفس بحيث تتمحور حول المسّ واللّمس وإطلاق الرّيح وكلّ ما كان على هذه الشّاكلة. 
 لماذا لا يكون الكذب والغشّ وسوء المعاملة وعدم احترام الكبير والعبث بالبيئة من مفسدات الوضوء بل من مبطلات الصّلاة؟ لماذا تجادل علماؤنا في حكم تارك الصّلاة وطال جدالهم ولم يتساءلوا عن حكم تارك الشّورى، ومحترفي الظّلم الاجتماعي، والمُخرّبين للطّبيعة، والمنتهكين لحرمة الذّات الإنسانيّة؟...
الأولى مسألة تتعلّق بشأن خاصّ بين العبد وربّه والمسائل الأخرى شأن عام ومآلاتها على المجتمع أعمق وأخطر، ويكفي أن ترى الفرق بين تارك الصّلاة العادل وبين مؤدّيها المستبد؟ جوهر المشكل أنّ فقهنا تأسّس على مفهوم علمانيّ للتّدين غابت فيه الأبعاد السّياسيّة والاجتماعيّة. لو استحضر المؤمن أن الغشّ يبطل صلاته أصلا ولا تكون صلاته تبييضا لأفعاله السّيئة لأنّها فعل مغشوش لتغيّرت سلوكياته.
- ما بعد العلمانيّة الدّينيّة والعلمانيّة الشّاملة
انتهى الصّراع على السّلطة مع نهاية الخلافة الرّاشدة -والرّشد ليس محصورا فيها ولا مقصورا عليها - إلى تسوية رُتّبت بمقتضاها العلاقة بين السّياسي والدّيني أو السّلطان أو الفقيه، حيث استأثر السّلطان بالمجال السّياسي أو لنقل بمجال الشّأن العام واهتم الفقيه مُكرها في البدء ومُختارا في النّهاية، أو هكذا يبدو له بالأحوال الشّخصيّة أو الشّأن الخاصّ ولذلك كانت بضاعة الفكر الإسلامي المتقدّم والمعاصر في قضايا الشّأن العام وفي الشّأن السّياسي تحديدا بضاعة مجزاة. ذلك ما جعل الإنسان يتحوّل تدريجيّا من موقع المركز في خطاب الرّسالة النّبويّة إلى موقع الهامش في الخطاب الدّيني المُهمّش أصلا في اهتماماته وكان من الطّبيعي أن تجتذبه موضوعات ما بعد الطّبيعة بالتّعبير الفلسفي أو ما اتصل بعالم الغيب بالتّعبير الدّيني. 
تحرّر الفكر الإسلامي نسبيّا من الخوض في الإلهيّات بفعل النّقد العميق الذي وجّهه الإمام أبو حامد الغزالي للخطاب الفلسفي ولكن سرعان ما تردّى في مجاهيل العرفان، بفعل الفهم المبتسر والمختزل للحلّ الذي اقترحه الغزالي، يقول أبو يعرب « اجتمعت مسائل الفنون الأربعة التي تنازعت مجالاتها بالتّزاوج المتزاحم بين الفنين العمليين (التّنازع بين فقه الظّاهر وفقه الباطن) وبين الفنيين النّظريين (التّنازع بين الكلام والفلسفة)، وعقدت الحلف بالتّزاوج المتقاطع بين العملي وبين النّظري التّابعين لسلطان الظّاهر (الحلف بين فقه الظّاهر والكلام) وبين العملي والنّظري التّابعين لسلطان الباطن (الحلف بين فقه الباطن والفلسفة)، فأنتجت مناخا من الاستبداد الشّامل لوجهي الحياة الزّماني والرّوحي آلت إلى الموت الذي أشار إليه الغزالي بما في عنوان كتابه إحياء علوم الدّين، من معنى ضديد يفيد أنّ هذه العلوم كانت في عصره ميّتة، ولكنّ الشّروع في تشخيص الدّاء ومحاولة الخروج من المأزق يمثّلها البدء في السّمو بالنّقد إلى المستوى الأرقى، إذ هو تعلّق بكلّ مسائل الإلهيّات العامّة وفروعها الخاصّة الثّلاثة، لذلك اعتبرنا نقد الإلهيّات المنطلق الحقيقي للخروج من أزمة الفكر الإسلامي لما يتضمّنه من فائدتين تُعالجان المناخ الذي وصفنا، فتحرّران الفكر الإسلامي من علله الدّفينة(9) 
    الاستفاقة النّوعيّة التي حدثت في القرن الثّامن هجري والتي تمثّلت في الإصلاح العقدي التّيمي والإصلاح الأصولي الشّاطبي والإصلاح العمراني بمعناه الشّامل الخلدوني لم يستطع العقل الإسلامي أن يستوعب معانيها وما كان مُؤهّلا ليفعل ذلك، فقد أفل نجمه حيث لم  يجد الحافظ بن حجر العسقلاني على سبيل المثال ما يثير فضوله في مقدمة ابن خلدون فهي «لا تمتاز بغير البلاغة والتّلاعب بالكلام على الطّريقة الجاحظيّة وأنّ محاسنها قليلة غير أنّ البلاغة تزين بزخرفها حتّى يرى حسناً ما ليس بحسن»(10) وحاول البعض أن يعتذر للذين أعرضوا عن مقدمة ابن خلدون بطغيان «النّزعة العقلانيّة المتطرّفة» فهي «تكاد تخلو من التّعابير والمصطلحات العربيّة الإسلاميّة ولا تضع العلم في الإطار القرآني المعروف في ذلك العصر»(11). وهكذا أصبحت المضامين المُعبّرة فعلا عن رسالة الاستخلاف بمعناها القرآني غير مفهومة من طرف المشتغلين بالنّصوص الدّينية. 
ليس المطلوب فقط تجاوز العلمانيّة الحديثة التي حوّلت الدّين في أحسن الأحوال إلى مجرّد طقوس محدودة التّأثير في الحياة ولكن أيضا تجاوز العلمانيّة الدّينيّة التي تلتقي معها في المآلات حيث لا فرق بين علمانيّة تفصل الدّين عن الدّنيا وعلمانيّة تفصل الدّنيا عن الدّين. وبالنّتيجة لم يكن حال من ظنّ أن صيانة الدّين تكون بإبعاده عن الدّنيا بأفضل من حال من ظنّ أنّ قوام الدّنيا لا يكون إلاّ بإقصاء الدّين لأنّه في كلاّ الحالتين كان الإنسان هو الخاسر الأكبر. 
الهوامش
(1) سورة الأنفال، الأيتان 36 و37
(2) مع الملاحظة أنّ الفكر الإسلامي عموما بغض النّظر عن الاختلاف في المنطلقات وزوايا النّظر و المقاربات مازال يراوح مكانه منذ قرنين من الزّمن أو يزيد، غارق في مشكلات التّخلف  ومشكلات  التّحديث القسري.
(3) أهل الأبّهة، من أصحاب القلم وأصحاب المال وأصحاب الشوكة، و لا أستثني نفسي بحكم المقام لا بحكم الحال،  يخشون أن يفقدوا مواقعهم، فيفقدوا معها التّمرّغ النّاعم في «أوحالها» الحريرية. علماء رحّل ولكن على شاكلة جديدة، يجوبون العالم برّا وبحرا وجوّا، ينتقلون من مؤتمر إلى مؤتمر في الفنادق الفاخرة وفي القاعات المكيّفة بردا وسلاما، ودفئا وآمانا. يتكلمّون عن الحرّية وعن العدالة وعن كلّ الأشياء الجميلة، جميلة مثل الأحياء الفاخرة التي ينزلون بها، فهم لا يعرفون عن الأهوال التي عاشها من أصابه ضيق من العيش أم من دارت عليه طاحونة الاستبداد.
(4) لا شكّ أنّ جدلا طويلا صاحب مبدأ الشّورى الذي سرعان ما سُحب منه الطّابع الإلزامي ليتحوّل إلى مجرد نصيحة، فزهد العقل في البحث عن كيفيّة تفعيله وكان بحكم الحال مدفوعا نحو الضّمور لا نحو الظّهور.
(5) واختزلت نظريّة العدل في الدّعوة إلى الصّدقة والإحسان، وبالرّغم من أنّ مشكلة التّفاوت الاجتماعي عادت لتفرض نفسها بقوّة مع ظهور الفكر الاشتراكي إلاّ أنّ الرّبط بين الاشتراكيّة والإلحاد والسّياسة القمعيّة التي انتهجتها الأنظمة الشّيوعيّة لم يساعدا على التّفاعل الإيجابي مع الأطروحات الاشتراكيّة المتعلّقة بكيفيّة محاربة الفقر والخصاصة.  
(6) تكريم الإنسان تكريم إلهي، أسّس له القرآن ولكن منظومة حقوق الإنسان تطوّرت في الغرب ولم تتطوّر في فضاء الفكر الإسلامي ومع ذلك ظلّ الغرب متمدّنا مع نفسه متوحّشا مع غيره.
(7) سورة ص، من الآية 71 إلى الآية 74
(8) سورة المؤمنون، من الآية 12 إلى الآية 14
(9)  أبو يعرب المرزوقي، دور الفلسفة النّقدية العربيّة ومنجزاتها، موازنة تاريخيّة بين ذروتي الفكر الفلسفيتين العربيّة والألمانيّة (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 1912) ص. 276
(10) علي وافي عبدالجواد، في تقديمه للمقدمة، 364/365
(11) إمام زكرياء بشير، جوانب فلسفيّة في مقدمة ابن خلدون (تونس،  الخرطوم، الدّار التونسيّة للكتب، 1995