في التنمية

بقلم
محمد صالح بنحامد
كيف الطريق إلى التنمية الشاملة بالمناطق الجبلية للجنوب الشرقي ؟
 لئن أهملت المخطّطات التّنموية السّابقة مجال التّنمية الجهويّة وقطاع السّياحة الثّقافيّة والجبليّة بالخصوص، فإنّ المخطّطات المقبلة للتّنمية يجب أن تلبّي انتظارات مختلف شرائح الشّعب التّونسي دون استثناء لتبوئها  المكانة التي تستحق بامتياز، حيث يتجلّى ذلك من خلال دعم الخلايا الجهويّة للتّخطيط ومدّ قنوات للتّشاور والحوار المستمر طيلة مراحل إعداد المخطّط بين المستويين الجهوي والوطني لضمان المساهمة الفاعلة والمكثّفة للكفاءات الجهويّة وتشريك كلّ الطّاقات والهياكل ومختلف مكوّنات المجتمع المدني وإعطاء البعد الدّيمقراطي للتّنمية الجهويّة في كلّ مراحل إعداد المخطّط التّنموي، وتمكين الجهات من الأدوات اللاّزمة والمعطيات الدّقيقة ومدّها بالخطط الوطنيّة الكبرى والخطوط العريضة للتّنمية ممّا يمكّنها من إدراج برامجها ومشاريعها الجهويّة والمحلّية ضمن هذا المخطّط برؤية واضحة وبكلّ دقّة.
فالتّوجه الجديد للتّنمية الجهويّة التي تفرضها المرحلة الحالية  في تونس لا بدّ أن يعتمد بالأساس على نظرة شموليّة متكاملة للسّياسات والمشاريع التي لا تنحصر في حدود الولاية فحسب بل تتعدّاها لتشمل مناطق بأكملها ذات الإشكاليّات المتشابهة والموحّدة للمحافظة على تناسق مختلف هذه السّياسات والمشاريع بغرض إرساء قواعد أساسيّة متينة لاقتصاد جهوي متكامل. وفي هذا الإطار تحديدا يتنزّل موضوع تنمية المناطق الجبليّة بالجنوب الشّرقي للبلاد التّونسيّة والتي لها عديد الإشكاليّات المتشابهة والضّغوطات المتقاربة التي لا تنحصر في حدود ولاية واحدة بذاتها وإنّما تتعدّاها  لتشمل مناطق جبليّة تمتدّ على كامل ولايات الجنوب الشّرقي وهي ولايات قابس ومدنين وتطاوين.
من أهمّ الإشكاليّات التي تعيق مسيرة التّنمية في المناطق الجبليّة بالجنوب الشّرقي عامل الانجراف الذي يعود في الغالب إلى الطّابع الجبلي لهذه المناطق بمنحدراته ومرتفعاته الشّيء الذي يرفع من نسق سيلان المياه مسبّبا ظاهرة انجراف الأرض، وكذلك جفاف المناخ ونزول الأمطار القويّة بطريقة غير منتظمة إلى جانب تقلّص الغشاء النّباتي من جرّاء الرّعي الجائر وقلع الأشجار المثبتة للأرض. ولمجابهة هذا الوضع لا بدّ من سياسة وقائيّة توفّر الحماية اللاّزمة قوامها إدراج تكاليف هذا العنصر ضمن المكوّنات الأساسيّة لهذه المشاريع التّنموية مع  حملات توعية للمواطنين وتوجيههم نحو الرّعي المتداول ومزيد حثّهم على التّشجير والمحافظة على المساحات الخضراء وإتباع طرق استغلال جديدة تسهم في حماية النّباتات والأرض.
كما تعاني مختلف المناطق الجبليّة بالجنوب الشّرقي من العزلة التّامة وانعدام التّجهيزات الأساسيّة حيث ساهمت النّظرة الجهويّة الضّيقة المعتمدة على التّقسيم الإداري خلال المخطّطات السّابقة في زيادة تعميق عزلة القرى والأرياف وحتّى المدن الجبليّة منها فيما بينها، حيث كان من المستحيل مثلا الوصول من بني خداش إلى مطماطة دون المرور بكلّ من مدنين وقابس وكذلك لا يكن من السّهل الوصول من غمراسن إلى بني خداش دون المرور بمدنين رغم قصر المسافة بين هذه التّجمعات السّكنيّة الشّيء الذي نتج عنه في كثير من الأحيان عدم استغلال وتهميش عديد الموارد والإمكانيات الطبيعية والاقتصادية التي كان بالامكان توظيفها في تنمية المناطق الجبلية، وتشكو عدّة تجمعات سكنيّة أيضا من العطش في فصل الصّيف خاصّة حيث تحتضن جبال بني خداش لوحدها أكثر  من 25 تجمّعا سكنيّا.
وفي المقابل لا بدّ أن نشير إلى تميّز هذه المناطق الجبليّة بمناخ يتلاءم مع عدّة أنشطة فلاحيّة في مجال الأشجار المثمرة وتربية الماشية، ويتراوح معدّل نزول الأمطار بين 100 مم في جنوب السّلسلة الجنوبيّة و230 مم في شمالها، حيث تمثّل مياه السّيلان أهمّ الموارد المائيّة التي يمكن استغلالها في الشّرب ولأغراض فلاحيّة متعدّدة وإقامة المنشآت اللاّزمة . وتتميّز هذه الرّبوع كذلك بمناطق رعويّة يمكن استغلالها بصفة محكمة إذا ما توفّرت نقط المياه وبأنماط زراعيّة تعتمد على غراسة الأشجار المثمرة وتربية الماشية من خلال أنماط استغلال زراعي منبثقة من خصوصيّات المناطق الجبليّة وتمثّل عاملا إيجابيّا من أجل استغلال إمكانيّاتها على أحسن وجه.
ومن ناحية أخرى تشكّل الموارد البشريّة التي تزخر بها هذه المناطق عنصرا أساسيّا من هذه الطّاقات التي تميّزت عبر التّاريخ بحركيّتها الدّائبة وديناميكيتها المستمرة ومساهمتها الاقتصاديّة المتمثّلة في الموارد المالية المتأتّية من الهجرة الخارجيّة التي تمكّنت بدون شكّ منذ السّبعينات من دعم المسيرة التّنموية في العديد من القرى الجبليّة والرّفع من مستوى عيش المواطنين في ربوع مناطق الجنوب الشّرقي ( مطماطة، بني خداش، غمراسن ... ). وكان من الممكن أن تساهم هذه الموارد الماليّة بشكل أفضل في تنمية المناطق الجبليّة بجهة الجنوب الشّرقي إذا ما تمّ إحكام توظيفها في تحديد فرص الاستثمار وحثّ المتساكنين على بعث المشاريع الخاصّة.
وتجدر الإشارة إلى أنّه بحكم العزلة التي فرضت على هذه المناطق الجبليّة، فإنّ متساكنيها ظلّوا طيلة أحقاب من الزّمن يعتمدون على إمكانيّاتهم ومهاراتهم الذّاتية في إنتاج صناعات تقليديّة ثريّة وفريدة من نوعها منها ما يستعمل في الحياة العامّة كاللّباس وأدوات العمل والإنتاج موظّفين في ذلك المواد الأوليّة الطّبيعيّة المتاحة إليهم لصنع أدوات يحتاجها الإنسان في حياته اليوميّة كمصنوعات الصّوف والشّعر ووبر الإبل والحلفاء والخشب وغيره ...وقد تميّزت المرأة في هذه المناطق الجبليّة بمصنوعات تقليديّة غاية في الدّقة والإتقان والجمال على غرار التّعجيرة والمرقوم والكتفيّة وغيرها ...
لاستخلاص العبر من التّجارب السّابقة وما يمكن أن تقدّمه من فوائد منهجيّة لتنمية المناطق الجبليّة بالجنوب الشّرقي، نسلّط الضّوء على تجربة ديوان تنمية الجنوب الذي يتولّى إضافة إلى قيامه بمجهود كبير في مجال النّهوض بالاستثمار الخاصّ في قطاعات الفلاحة والصّيد البحري والصّناعة والخدمات، إعداد دراسات لمشاريع تنمويّة متكاملة حسب منهجيّة واضحة وعلى امتداد فضاء جغرافي معين (معتمدية، مجموعة عمادات، منطقة طبيعية، ... ألخ ) حيث كرّست هذه المشاريع البعد الاستشاري للعمل التّنموي من خلال مناقشة الدّراسات من قبل المصالح الجهويّة وتشريك لجان محليّة وجهويّة في مرحلة الإعداد ممّا أضفى طابع الواقعيّة على تصوّر استراتيجيّات التّنمية بالمناطق المعنيّة وأعطى مزيدا من إحكام إنجاز المشاريع المبرمجة.
ومن الجوانب الايجابية الأخرى في عمليّة تصوّر هذه المشاريع هو التّكافل والاندماج بين العمليّات التّنموية في مستوى كلّ منطقة وبين الاستثمار العام والخاصّ حيث يوفّر الاستثمار العام الأرضيّة الملائمة للعمل التّنموي وخلق مجالات أوسع للاستثمار الخاص، وأعطت كذلك هذه المشاريع مكانة خاصّة ومتميّزة للجانب البيئي في العمل التّنموي من خلال برمجة عمليّات خاصّة بالمحافظة على المياه والتّربة ومقاومة التّصحر في كافة مشاريع التّنمية المتكاملة.