في النقد الأدبي

بقلم
محمد بن إدريس بلبصير
قلم يتحدث فتوى شعرية: التجربة الشعرية بين القوة والفعل
 لا تسل عن شيء  أتاه ولوعي هو سر قد انطوى في ضلوعــي
رائع ضائع رقيق الحواشـي ينفخ النور في  السهى والشموع
خمره من معتقات دمائــي حيث يسقينيها بكأس دموعـي
  سألتني وأنت الأعلم بالجواب، عن شيء يقبل كلّ جواب، ويصعب أن يصدق عليه أيّ جواب. إنّه الشّعر وما يكتنفه من محيط ومخيط، وهو يطوف بين صفا جرحه، ومروة نوحه، معلنا لبّيك حسّي وإليك نفسي. 
فالشّعر عندي أيّها السّائل الرّقيق، جوهر لا تكتنفه الأعراض ولا تستدعيه الأغراض، بل هو نسمة من نسمات البيئة الدّاخلية في العالم الخفيّ من كلّ إنسان، بغضّ النّظر عن ثقافته أو جهله؛ إلاّ أنّ النّاس في ذلك طرائق قدد، وفي الغالب مردّ اختلافهم إلى القدرة على التّعبير وجودا وعدما. والحقّ أنّ هذا التّعليل له نصيبه من الصّواب، غير أنّه ليس مقنعا إذا حاولنا التّعمّق في ميتافيزيقا الشّعر، إذا جاز لنا هذا التّعبير. فهناك الحسّ الباطني الذي لم يسلم إنسان من معاناته، وهو عندي على الأقل المسمّى بالتّجربة الشّعرية الحقيقيّة. ثمّ إنّ هذه المعاناة شعر بالقوّة لا بالفعل، ولا تتحقّق بالفعل حتىّ يكون هناك ذوق رفيع، لا يرجع لجمال النّص، بل  لجمال الألم في انتظار المولود، حتّى إذا بلغ المخاض ذروته خرج وليدا سمّيناه النّص.
 وحدة الوجود بين الشعر وموسيقاه تلقائيا بالمعاناة:
لست أريد بهذا المدخل إلاّ أن أقول: إنّ الشّعر أقدم من كلّ صناعة عروضيّة  أو غير عروضيّة، وقديما قال أبو الدّرداء شعرا، فقيل له: «خرجت عن العروض»، فقال: «بل العروض هو الذي خرج عني». وممّا يُعاب على أحمد شوقي حتّى جاءت بعض أبياته مشوّهة، أنّه كان يفكّر في القافية قبل البيت، ولولا أنّك سألتني  أن لا آتي بشعر أحد غيري لضربت لك أمثلة من هذا النّوع عند شوقي. 
ولقد قال الشّعر بعض الجاهليين أو الإسلاميين، وهم سابقون على العروض، فجاءت بعض الهنات في أشعارهم. ومن تلك الهنات استنبط النّقاد في أواخر العصر الأمويّ وأوائل العصر العبّاسي بعض عيوب الشّعر، كالإقواء والإيطاء والإسناد والتّضمين إلى غير ذلك ممّا في كتب النّقد القديم ،ويمكنك الرّجوع مثلا إلى «العمدة في الشّعر» لابن رشيق و«نقد الشّعر» لقدامة بن جعفر وغير هذين، ولا حاجة لنا باستقصاء هذا النّوع من الدّراسة.
 وعليه، فموسيقى الشّعر وأوزانه وبحوره توجد مع وجود المعاناة في آن واحد، ولا عبرة بمن يقول إذا كان الغرض مثلا كذا فإنّه يناسبه بحر كذا ووزن كذا، فحينئذ يصبح الشّعر صناعة، وبذلك يخرج من حيز المعاناة التي سبق الحديث عنها. فموسيقى الشّعر والشّعر كالرّوح والجسد، يولدان في وقت واحد. وبما أنّ الرّوح هي المسؤولة عن حركة الجسد، والجسد هو آلة الحركة، فكلّ منهما سبب لوجود الآخر، وبذلك يتحقّق التّجاوب بين الشّعر والشّعور، فيصدع الشّاعر بمعاناته التي تملي عليه ذلك الأنين الذي يتلذّذ به الآخر، وليس من الضّروري أن يطابق شعور المتلقّي شعور الملقي، لكنّ المهمّ أن يطابق النّصّ والنّغم شعور كلّ من الطرفين. 
 ومن تأمّل بعض الشّعر عند بعض القدماء، وخاصّة ما قيل فجأة، إمّا عند المساجلات، أو في موقف  لا مجال معه للتّدبّر والاختيار، فإنّه لا يملك إلاّ أن يسلم بما قرّرناه.
ولقد وقع لي زمان كنت بفاس، وقد دعيت لإحياء أمسية شعريّة بإحدى دور الشّباب، ومرّت الأمسية بما لها وما عليها، وانفضّ الجمع، وبينما أنا في طريقي إلى حال سبيلي، إذا بحذاء نسويّ يركض خلفي، ويدعوني بأدب حتّى وقفت لها، وبعد التّحيّة سألتني كيف أصف الطّبيعة والجمال وأنا لا أبصر، فوجدتني أقول: 
لا تسأليني لماذا أزرع القمر ولست أحصد أشواكا ولا ثمرا
 فكتبت البيت وانصرفت، ولا أعلم من شأنها شيئا إلى يومي هذا. وممّا وقع لي من هذا القبيل كثير، ومنه على سبيل المثال:  
سأغنّــــي رغم أنـــــي ضاع منــــي كل شأنــــي
ومنه أيضا قولي: 
إن شئت أو ما شئت ماذا أصنع          قدر به طلع الجبين مرصع
 ومنه كذلك: 
إذا الدّهر لم يلسع شجاعا توهّما     له كبرياءً في الورى وتعظّمــا
ومن لم يطعمه الهزائم دهـــره      شجاعته إفك وإن كان ضيغما
تعلم من الأيام ما أنت جاهــــل     فمن دونها الأوهام أن تتعلمـا
 موسيقى الشعر ركن أساسي 
في الإنشاد قبل الإبداع، وبضرب من الاتساع:
 ويمكن القول بأنّ جميع ما في ديواني من ذوات البيت والبيتين أو الثلاثة فهو من هذا النّوع. ولا أعني بهذا كلّه إلغاء الأوزان والبحور وسائر الموسيقيّات من الشّعر، بل إنّني من المتعصّبين إلى الوزن والموسيقى لا في الكتابة فقط بل في الإلقاء أيضا، وربّما كنت أشدّ تعصّبا لهذا في الإلقاء أكثر من الخطّ. ولقد انتبه الأقدمون إلى هذا، فكانوا يتّخذون لأشعارهم رواة فصحاء، فظنّ بعض الدّارسين أنّ هذا إنّما كان لمجرد نشر الشّعر وإذاعته، وهذا صحيح، إلّا أنّه لا بدّ أن يضاف إليه كذلك جودة الإنشاد؛ ولذلك لمّا كان أبو تمام الطّائي يعاني تمتمة يصحب معه منشدا لشعره، كلّما قصد إنشادا في حضرة خليفة أو غيره. فالموسيقى حاضرة في الشّعر حضور الرّوح في الجسد، بل إنّها قد توحي إليه بالرّقص والتّمايل كما تفعل الخمرة في النّشوان. وأخيرا - وليس بأخير- إنّ موسيقى الشّعر هي التي تميّزه عن النّثر، وأمّا قول أبي نعيمة في غرباله الأخرق «ربّ عبارة من النّثر فيها من الموسيقى ما ليس في بيت من الشّعر» فهذا من كلام المصلّين للغرب والرّاقصين له في كلّ طبوله. وأمّا عن البحور الخليليّة وإن كنت  أنسج شعري عليها، فلست متعصّبا لها كما يظنّني بعض قرائي، وكيف أكون كذلك والخليل  نفسه خرج عن بحوره وابتكر بحورا غير التي يتداولها النّاس، وارجع إن شئت إلى كتاب «طبقات اللّغويين» لأبي الطّيب اللّغوي. 
 ثم جاء بعد الخليل المولدون الذين أضافوا إلى الأوزان التّقليديّة أوزانا اشتغل عليها المغنّون أكثر من غيرهم، لا سيّما وقد ازدهر الغناء صدر الدّولة العباسيّة أكثر من أيّ وقت مضى، حيث توسّعت الدّولة الإسلاميّة وظهرت حركة الشّعوبيّة بخيرها وشرّها، غير أنّ أنفاسها ونفائسها امتدت عبر سائر البلاد العربيّة، وتعتبر هذه الحركة الشّعوبيّة الأدبيّة رائدة بامتياز في ظهور فنّ الموشّحات التي وجدت روضةً غناء في الأندلس. وتبع هذا التّحرّر في الشّعر العربي كثير من الحركات التّحرريّة، فظهر في المغرب ما يسمّى بعروض البلد ثمّ الملحون وغير هذا من الأوزان الفصيحة أو الدّارجة، التي لا تكاد تكون لها مرجعيّة منضبطة إلاّ الذّوق بالمعنى الفردي أو العام، وهذا  وغيره لا يمكن  فصله عن وجود قواعد أو شبه قواعد موسيقيّة،  ولذلك من التّعصب الذي لا معنى له القول بتقديس البحور الخليليّة، وكلّ خروج عليها منكر وضلال، وكأنّنا نقرّر قاعدة شرعيّة لا يجوز الخروج عليها. فالاجتهاد والتّجديد شعار الحياة ما دام الفلك يدور، والذي لا ينبغي أن يقول به عاقل، التّقليد الأعمى لكلّ ما تلقننا إياه ديار ليست لنا بديار، تفرض علينا حضارتها الأدبيّة المتمخضّة عن إديولوجيات تستهدف هويّتنا وتحتقر لغتنا، وكلّ ما عندنا من موروث أو مبتكر، فانقلب الرّأس ذنبا والذّنب رأسا، فتشوه اللّسان ومسخ الإنسان. فسمّينا الفوضى نظاما والنّظام تخلّفا، وسيعلم الذين شردوا في أيّ قعر سيقبعون. 
   الوزن جزء من الإحساس بإملاء الأنا الباطن:
وعودا على بدء،  أقول، الذي يحضرني، ولا أشكّ فيه وأنا أقول شعرا، هو حسّي بالقضيّة التي دعتني إلى الكتابة، وأمّا اختيار وزن معيّن فهو جزء من الإحساس المشار إليه، فعلى أيّ وزن انفجر البيت الأول سارت القصيدة مسارها حتّى نهايتها، وكلّ ما أحرص عليه أن لا أخلّ بالوزن الذي كان هو المنطلق، وإلاّ ظننت أنّني شوّشت على نفسي وعلى المتلقي في متابعة جرس معين استقر في سمعه منذ المطلع، وأيّ تشويش من هذا القبيل هو عندي اضطراب في باطني الذي هو مصدر النّص قبل أن يكتب. 
فأنا - وأنا أكتب شعرا- كأنّما أكتب ما يملي عليّ ذلك الباطن فلا أزيد ولا أنقص، فأنا مجرّد رسول من  أناي العميق إلى متنفّس خارجي، أستريح على أريكته كما تستريح الحمامة المفجوعة على أيكة، ثمّ تغرّد بمصدورها بما يطرب له الإنسان من غير جنسها، فالحمامة والأيكة والإنسان ثلاثة أجناس يستحيل أن يحمل أحدها ما يحمل الآخر، لكنّ التّجاوب حاصل بلا ريب؛ وهذا بحث أرى الفلاسفة أولى به من  أيّ ناقد أو شاعر.
 صدق الشاعرية بحفظ الأمانة الشعرية والشعورية:
وأصدق الشّعراء عندي من إذا فرغ من كتابته نسي شعره، حتّى إذا سمع غيره  ينشده ظنّ أنّه لغيره. فالشّعر والإحساس به حقّ مشترك بين النّفوس الحيّة. 
 وذلك لأنّ الحسّ لا يتكرّر، فهو كما قيل نهر متدفّق باستمرار لا تستطيع أن تسبح فيه مرّتين، بحيث يحلّ محلّ الإحساس إحساس جديد يتجدّد معه الفكر واللّغة، ولذلك كان أبو القاسم الشّابي إذا حضره شعر - وهو على سرير نومه- ولم يكن حوله ورق ولا قلم، احتفظ به في ذاكرته، حتّى إذا جاء الصّباح حاول أن يستخرج ما بذاكرته، فيضيع منه بعض اللّفظ فلا يعوّضه، لأنّه يريد تلك الكلمة التي صحبت الإحساس الذي كان في تلك السّاعة التي انصرمت، وكأنّ ذلك الشّعر إنّما قاله شبح طاف به في لحظة ثمّ رحل ولمّا يعد، فيكتب البيت مبتورا، وكفى بهذا حفظا للأمانة الشّعريّة والشّعوريّة. وتلك لعمري هي رسالة الشّاعر كما يجده القارئ الكريم في مطلع إحدى قصائدي في (دم وقلم) 
«فديتك لا تخافي من مرادي فلست سوى رسول من فؤادي»