في الصميم

بقلم
د. مصطفى حضران
الجوامع والجامعات الإسلامية الكبرى دراسة في عوامل الانحطاط والتراجع (1/2)
 لقد احتلّ المسجد مكانة هامّة في المجتمع الإسلامي أهّلته ليكون مصدر التّوجيه الرّوحي والتّأهيل العلمي، ومنارة للعلم والتّعليم، ومركزا للتّربية والتّزكية، ولعلّ السّبب الذي جعل المسجد مكانا للتّعليم، ارتباط مواد التّدريس بالقرآن والحديث قراءة وحفظا، ومع تطوّر الزّمان أصبحت الدّروس تشمل موضوعات متنوّعة: كالتّفسير واللّغة والتّاريخ، وهكذا استمر المسجد في العطاء والتّطور جيلاً بعد جيل، ليؤدّي مهامه في صناعة الحياة ليصبح جامعات ومنارات علميّة وفكريّة رائدة في مختلف العلوم، يروي السّيوطي أن: «دروسا مختلفة رتّبت في الجامع الطّولوني وقد شملت التّفسير والحديث والفقه على المذاهب الأربعة والقراءات والطّب والميقات»(1) ، كما ذكر ابن أبي أصيبعة أنّ موفق البغدادي كان يدرس الطبّ في الجامع الأزهر طوال مدّة إقامته في مصر، حيث يقول: «وكان يسرّني في هذه المدّة أنّني أُقرئ النّاس بالجامع من أوّل النّهار إلى نحو السّاعة الرّابعة، ووسط النّهار يأتي من يقرأ الطّب وغيره، وآخر النّهار أرجع إلى الجامع الأزهر فيقرأ قوم آخرون، وفي اللّيل أشتغل مع نفسي»(2) .
إلاّ أنّ سهم الانحطاط والتّخلّف الذي أصاب الأمّة الإسلاميّة عامّة، مسّ جامعاتها وجوامعها الكبرى، ظهر ذلك جليّا في طرق تدريسها، واضطراب مناهجها، وضياع فلسفتها الإسلاميّة، وفي تخلّفها عن مسايرة الرّكب الحضاري ممّا جعلها منفصلة عن نبض المجتمع غير قادرة على تلبية حاجياته وضرورياته في إنتاج الكوادر والعقول،.
ونحن هنا اخترنا أن نقتصر في هذه الدّراسة على ثلاثة جوامع كبرى، نظرا لأهمّيتها ومركزيّتها بالنّسبة للمسلمين، لنستجلي بعض أسباب انحصارها وتراجعها في العطاء المعرفي والبناء الإنساني، وهي الأزهر الشّريف، وجامع القرويين وجامع الزّيتونة (3). واخترنا ثلاثة مصلحين (4) كلّ واحد منهم له تعلّق بأحد هذه الجوامع، ومن العجيب والغريب أنّه يكاد يجمع كلّ من الحجوي وابن باديس ومحمد عبده، على نفس الانتقادات الموجّهة لكلّ جامع من هذه الجوامع، نجملها في:  
أولا:  نقد منـاهج وطرق التّدريس:
وجّه المصلحون بشكل دقيق سهام النّقد إلى طرق التّدريس بهذه الجوامع، فركّز الحجوي انتقاداته إلى مناهج التّدريس في القرويين، على اعتبار أنّها لم تعد تفي بالغرض التّعليمي المأمول، ولا تساير الرّكب الحضاري، والإكراهات والتّحديات التي تواجهها الثّقافة العربيّة الإسلاميّة، فانتقد طريقة التّلقين التي كانت الطّريقة المتّبعة والغالبة في التّدريس حينئذ، إذ كان كما يقول:«المدرّس يحفظ ويملي، والتّلميذ حسبه أن يسمع ويحفظ من غير «مفاهمة ولا مناقشة»، وليس المراد حفظ العلم، بل يجب أن نربّي فيهم ملكة التفكير»(5) ، ويضيف الحجوي في انتقاداته لمناهج القرويين:«وكان التلقين مبنيّا فيها على الحفظ والإملاء، وقراءة الكتب وحلّ ألفاظها وعوض تدريس العلوم وأمّهات الكتب، كانوا يكتفون بحفظ المختصرات المتأخّرة، فيقضون بسبب ذلك العمر في محاولة إدراك مقاصد مؤلّفيها المستعصية المنال»(6) ، كما انتقد أساليب التّدريس المتبعة في تلقين العلوم الدّينية وخاصّة الفقه الذي بلغ درجة من التقليد والتعقيد، يقول الحجوي: «فلقد قضى هؤلاء المتأخّرون على الفقه، أو على من اشتغل بتواليفه، وترك كتب الأقدمين من الفقهاء بشغل أفكارهم بحلّ الرّموز التي عقدوها بسبب الاختصار، فضاعت أيّام الفقهاء في الشّرح، ثمّ في التّحشيات والمباحث اللّفظيّة، وتحمل الفقهاء آصارا وأثقالا بسبب إعراضهم عن كتب المتقدّمين، وإقبالهم على التّواليف المختصرة والمعتمدة التي لا تفهم إلاّ بواسطة الشّروح، واختصروا في الشّروح فأصبحت هي أيضا محتاجة لشروح وهي الحواشي، أحاطوا بستان الفقه بحيطان شاهقة، ثمّ بأسلاك شائكة، وألقوا العثرات في طريق ارتقائه، حتّى يظنّ الظّان أنّ قصدهم الوحيد جعل الفقه حكرة بيد المحتكرين، ليكون وقفا على قوم من المعمّمين ليكون حرفة عزيزة، وعينا من عيون الرّزق غزيرة» (7) .
كما انتقد الحجوي المدة وكثرة السّنوات الطّويلة التي يقضيها التّلميذ أو الطالب في القرويين مقابل النّتائج الضّعيفة التي يتحصّل عليها، «فالتّلميذ يغادر المسيد وعمره نحو عشر سنين، وقد لا يعلم خلال هذه المدّة الطّويلة سوى تركيب الكلمات، وتحسين الخطّ إن كان معه حذق وحفظ القرآن إن كان معه حفظ، ولكي يكون قادرا على قراءة جريدة أو فهم كتاب، فلابدّ له من أن يتردّد على دروس القرويين لمدّة سبع سنوات أو ثمان سنوات أخرى، وعندها يكون قد ناهز سنّ الثّلاثين، وهو لم يحصل إلاّ على ما يعتبر علما ابتدائيّا عند الأمم الأخرى، وفي هذا السّن يكون قد أدركه الزّواج والاشتغال بالأولاد، في حين تحصل الأمم الأخرى على العلم الابتدائي في سنّ العاشرة، ويدخلون منه للتّعليم الثّانوي، وعندما يبلغون سنّ خمسة عشرة سنة أو ستّ عشرة، يدخلون للمرحلة الجامعيّة، ولا يصلون سنّ الخامسة والعشرين أو السّادسة والعشرين حتّى يصبحوا علماء» (8) .
يؤكّد هذا المعنى الأستاذ عباس محمود العقاد وهو يبيّن حالة العلوم التي أصبح الأزهر يهتم بها ويدرسها لطلابه:«والحقيقة أنّ دروسه يومئذ كانت مقصورة على قشور من علوم الفقه واللّغة، يتلقّاها الطّالب عن أستاذه، ويعوّل في تحصيلها على حفظ الذّاكرة، قلّما يطالبه أحد من أساتذته أو يطالب هو نفسه بوعيها والتصرف في لفظها ومعناها» (9) .
ثانيا: الاعتماد على الكتب القديمة وكثرة الحواشي: 
يقول محمد عمارة وهو ينتقد حالة الأزهر: «لقد لاحظت أنّ كلّ الكتب التي درسناها في الأزهر الشّريف، قد كتبت في عصور تراجع الحضارة الإسلاميّة، وليس في عصور ازدهار الحضارة، أي في عصور الحواشي والتفاصيل، كنت أحيانا أرصد المبتدأ في صفحة وبعد أربع صفحات يأتي الخبر، وعلى الرّغم من أهمّية هذه الكتب ودورها في تعليم الصبر والبحث، وفي تمرين عقولنا، إلاّ أنّنا نحتاج إلى دراسة كتابات عصور الازدهار الحضاري، وكتابات العصر الحديث»(10). هذه الحواشي التي تحدّث عنها محمد عمارة كانت محطّ انتقادات الشّيخ محمد عبده:«أريد أن أعلم النّاس في هذا الجامع شيئا نافعا، بدلا من هذه الشّروح العتيقة البالية الخالية من المعنى، التي هي أضرّ من الكتب القديمة المؤلّفة في القرون الوسطى»(11) فكأنّ حال الشّيخ عبده يطلب اعتماد الكتب القديمة بذاتها إن لم يكن بدّ وعدم توفّر قراءات وكتب جديدة ومعاصرة، أفضل بكثير من الاعتماد على الحواشي وشروح هذه الكتب التي قد تضيع الغرض منها وتفقد معناها.
ثالثا:ضياع درس القرآن والتفسير: 
لقد كانت انتقادات بن باديس للتّعليم في الزّيتونة ولمناهجه انتقادات حادّة، تبيّن حالة التّدهور التي وصل إليها التّعليم في هذا الجامع الكبير، فيقول:«قد حصلنا على شهادة العالميّة من عالم الزّيتونة، ونحن لم ندرس آية واحدة من كتاب اللّه تعالى، ولم يكن عندنا أيّ شوق أو أدنى رغبة في ذلك، ومن أين يكون لنا هذا ونحن لم نسمع من شيوخنا يوما منزلة القرآن من تعلّم الدّين والتّفقّه فيه، ولا منزلة السنة من ذلك، هذا في جامع الزيتونة ، فدع عنك الحديث عن غيره مما هو دونه بمديد المراحل»(12) ، ومن التنبيهات المهمة التي قدمها الشيخ محمد عبده، وتمثل عطبا و خللا قاتلا لمؤسّسة دينيّة، هو غياب الاستفادة من القرآن الكريم، مع أنّه المصدر المؤسّس للعلوم، فإنّه لا يستوفي درسه في الأزهر ما يستوفيه درس أحد الشّروح أو الحواشي أو قاعدة لغويّة ونحوية وبسبب ذلك: «انصرفت الأذهان عن القرآن والحديث، وانحصرت في كتب الفقهاء على ما فيها من الاختلاف والرّكاكة»(13) ، كأنما التفسير يُدرَس من أجل تطبيق القواعد لا من أجل فهم الشّرائع والأحكام، وهذا يعتبره الشّيخ ابن باديس هجراً للقرآن، مع أنّ أصحابه يحسبون أنفسهم أنّهم يخدمون القرآن؛ لذلك كان ابن باديس يرى أنّ هذا يتعارض مع الهدف التّربوي الإصلاحي، الذي يتمثّل في إرجاع ضمير الإنسان المسلم إلى الحقيقة القرآنيّة. ويذكر «أنّ الطّالب يفني حصّة كبيرة من عمره في العلوم الآليّة، دون أن يكون قد طالع ختمة واحدة في أصغر تفسير كتفسير الجلالين مثلاً، وإنّما يغرق في خصومات لفظيّة بين الشّيخ عبد الحكيم وأصحابه في القواعد التي كان يظنّ الطّالب أنّه فرغ منها، ويتخرّج الطّالب دون أن يعرف من حقيقة التّفسير شيئاً، وذلك بدعوى أنّهم يطبقون القواعد على الآيات. وهذه الخاصّية كانت حاضرة في انتقادات الحجوي حيث قال: «كما أنّ علوما كثيرة قد تمّ هجرها كالتّفسير الذي انصرف النّاس عنه، وكالتّاريخ الذي لا تخفى فوائده العظيمة»(14) .
رابعا:التّوسع في الفروع والجزئيّات وعلم الآلة:
من الانتقادات التي وجهت إلى هذه الجوامع، الاستغراق في الجزئيّات على حساب علوم أصيلة، والانصراف إلى الاهتمام بالفروع والتوسّع فيها وإثقال ذهن التّلميذ بتفاصيلها واختلافاتها، على حساب العلوم الأصلية والمهمّة، كما ذكر ابن خلدون:«فالعلوم التي هي مقاصد، فلا حرج في توسعة الكلام فيها، وتفريع المسائل، فإنّ ذلك يزيد طالبها تمكّنا في ملكته وإيضاحا لمعانيها المقصودة، أما العلوم التي هي آلة لغيرها، فلا ينبغي أن ينظر فيها إلاّ من حيث هي آلة لذلك الغير فقط»(15)، فكان واقع الزّيتونة مثالا لهذا الانحراف الفكري والتّعليمي الذي حذّر منه بن خلدون، حيث كان الاهتمام بعلوم الآلة والإفراط في ذلك، إلى درجة الابتعاد والتيه عن الغرض منها، وإعاقة تحصيل العلوم المقصودة لذاتها، يقول بن باديس: «وفي جامع الزّيتونة عمّره اللّه تعالى، إذا حضر الطّالب بعد تحصيل التّطويع في درس التّفسير ـ ويا للمصيبة ـ يقع في خصومات لفظيّة في القواعد التي كان يحسب أنّه فرغ منها من قبل، فيقضي في خصومة من الخصومات أيّاما و شهورا فتنتهي السّنة و هو لا يزال حين ابتدأ أو ما تجاوزه إلاّ قليلا، دون أن يحصل على شيء من حقيقة التّفسير، وإنّما قضى سنته في المماحكات بدعوى أنّها تطبيقات للقواعد على الآيات، كأنّ التفسير إنما يقرأ لأجل تطبيق القواعد الآليّة، لا لأجل فهم الشرائع والأحكام الإلهيّة، فهذا هجر للقرآن، مع أنّ أصحابه يحسبون أنفسهم أنهم في خدمة القرآن»(16) ، فواقع  جامع الزيتونة، هو التوسع في العلوم الآلية، والإفراط في ذلك إلى درجة الابتعاد عن الغرض منها، وإعاقة تحصيل العلوم المقصودة لذاتها، مما جعل طُرُقَ التدريس المنتهَجة في جامع الزيتونة ليست وسيلةً تؤدي إلى تحقيق الغرض من التربية، إنما تكوِّن ثقافة لفظية يهتم أصحابها بالمناقشات اللفظية العقيمة طوال سِنِين الدراسة. ويذكر ابن باديس، أن الطالب كان يُفني حصة كبيرة من عمره في العلوم الآلية، دون أن يكون قد طالع ختمة واحدة في أصغر تفسير كتفسير الجلالين مثلاً، وإنما يغرق في خصومات لفظية،  وهو لاينكر التوسع في العلوم التي تعد مقاصد في ذاتها، فيقول: «فأما العلوم التي هي مقاصد، فلا حرج في توسعة الكلام فيها، وتفريع المسائل؛ فإن ذلك يزيد طالبها تمكُّناً في ملكته، وإيضاحاً لمعانيها المقصودة... أما العلوم التي هي آلة لغيرها... فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط»(17) .
ويؤكد هذا المعنى أيضا العلامة الحجوي وهو ينتقد الإكثار من الاهتمامات اللفظية فيقول:»فجل الدروس تكثر فيها المباحثات اللفظية، والمناقشات الواهية المتعلقة بألفاظ «المختصر»و»الألفية»، حتى إن الطالب يذهب لقراءة الفقه والنحو، فيرجع خاوي الوفاض منهما، ليس  في ذهنه سوى تصحيح لفظة من «المختصر»، أو بيت بحث فيه «أبو حيان» مع «ابن مالك»، أما الحكم الفقهي الذي يقضي به القاضي ويفتي به المفتون، او القاعدة العربية التي يصلح بها التلميذ لكنته» (18) .
الهوامش
(1)   السيوطي»حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة»  دار إحياء الكتب العربية مصر ج2 ط 1 السنة 1967ص138
(2)  ابن أبي أصيبعة «كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء» ص689 نقلا عن محجوب عباس «التعليم في كتب التراث» عالم الكتب الحديث الأردن ط1 السنة 2007 ص108
(3) على اعتبار أنها الجامعات الثلاث البارزة في الأمة الإسلامية  الزيتونة ثم تأسيسها 637 ميلادي القرويين ثم تأسيسها 958 ميلادي الأزهر ثم تأسيسها 970 ميلادي
(4) محمد عبده، الأزهر الشريف/ عبد الحميد بن باديس، جامع  الزيتونة/ محمد الحجوي التعالبي جامع القرويين، لأن كل واحد من هؤلاء درس بالجامع الذي قدم له سهام النقد فيما بعد.
(5) محمد الحجوي «إصلاح التعليم العربي» ص 488 نقلا عن آسية  بنعدادة «الفكر الإصلاحي في عهد الحماية محمد الحجوي نموذجا» ص253
(6) محمد بن الحسن بن العربي بن محمد الحجوي الثعالبي «الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي» دار الكتب العلمية -بيروت-لبنان الطبعة: الأولى  1995م ج2 ص386
(7) محمد الحجوي»الفكر السامي» م س ج2 ص705
(8) محمد الحجوي «إصلاح التعليم العربي» ص488 نقلا عن آسية  بنعدادة «الفكر الإصلاحي في عهد الحماية محمد الحجوي نموذجا» م س ص252
(9) عباس محمود العقاد «محمد عبده» منشورات المكتبة العصرية بيروت السنة 1980 ص36
(10) محمد عمارة «مجلة المسلم المعاصر»عدد90 السنة 1998 ص172/173
(11) محمد عبده «الأعمال الكاملة» تحقيق محمد عمارة « دار الشروق بيروت 1993 ص201
(12) عبد الحميد بن باديس»آثار بن باديس» الشركة الجزائرية 1997  الطبعة 3ج4 ص76
(13) المرجع السابق ص 217
(14) محمد بن الحسن بن العربيّ بن محمد الحجوي الثعالبي «الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي» م س ج2 ص386
(15) ابن خلدون «المقدمة» م س  ص124
(16) عبد الحميد محمد بن باديس «مجالس التذكير» مطبوعات وزارة الشؤون الدينية - الجزائر 1982 الطبعة:1 ص251
(17) المرجع السابق ص 255
(18) محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي «كناش الحجوي الثعالبي» .الخزانة العامة رقم :127