وبعد

بقلم
شكري سلطاني
التاريخ والعبرة
 إنّ المطالع لتراثنا والقارئ لتاريخنا والمتمعّن لما قدّمه خيرة الرّجال المصلحين الصّالحين من أفكار ومواقف عبر حقب زمانيّة متتالية يتألّم لما آل إليه واقع أمّتنا من رداءة وتقهقر وحقارة رغم مساهماتهم القيّمة وأفكارهم الإبداعيّة النّيرة، فلقد أرادوا الإصلاح وما بخلوا على قومهم بالفكرة والنّصيحة والرّؤية والحكمة. فمن المسؤول عن خيبتنا وديمومة فشلنا وبؤسنا؟ لماذا لم تحصل النّقلة والقفزة النّوعية؟ هل هناك تقصير وسوء تدبير؟ هل هناك سوء فهم ووهم في الطّرح والمعالجة والفعل؟ هل تباطأ الرّكب في انتهاز فرص الفعل والتّغيير والممارسة الثّوريّة؟ هل أنّ الإستجابة لم تكن بقدر التّحدي؟ هل انقطع حبل النّجاة لرخوته وضعفه وإنهزمت همّة الرّجال أمام الإغراءات والإكراهات والتّوجيهات والإملاءات، فنسوا الواجب والحقّ وخارت عزائمهم وذبلت عقائدهم وضمرت مبادئهم؟
-1 «منهم من قضى نحبه»
لقد قيل ما قيل، وحُبرت الكتب والوثائق بالتّحاليل والملاحظات والإستنتاجات وشتّى المعالجات والحلول لواقع الأمّة الإسلاميّة والعربيّة من  لدن مفكّرين ومصلحين صادقين مخلصين متألمّين لمصير الأمة الإسلامية . لكن هل تقدّمنا بعد هذا الفيض من الأفكار والكتب والمحاضرات؟
لقد بقيت أفكارهم حبرا على ورق في كتب موجودة غير مفقودة، فكتبهم قد قُرئت وما أرادوا إيصاله من معلومات قد وصل إلى قارئيهم ومستمعيهم ومحبّيهم، ولكن لم يتطوّر واقعنا ولم ننهض. كبوة تتلوها كبوة وخيبة تنادي خيبة أخرى لتستقر وتتجذّر في تربتنا وبيئتنا، فلقد زادت خيباتنا ونكساتنا وتذوّقنا مرارة واقعنا ولم نفارق بؤس حالنا. إذن لا بدّ من وقفة تأمّل عميقة وتريّث لفهم ما يجري وفرملة النّسق السّريع للإحاطة بإحاطتنا والتفكير خارج الزّمن والسّياق. 
لقد تتالت كتابات وأفكار المصلحين الذين سعوا جاهدين لإصلاح الواقع وتغييره وتثويره وتداول على إثراء المدّ الإصلاحي الثّوري في كلّ حقبة زمانيّة من تاريخ أمّتنا القريب غير البعيد، رجال من خيرة الأمّة صادقون مخلصون صاغوا بعقولهم أفكارا بناءة وبصفاء وجدانهم شعورا وإحساسا صادقا نبيلا يسري ويُقذَف في شعور ومشاعر المخلصين الصّادقين القارئين والمستمعين المحبّين لهم. 
حارب هؤلاء المصلحون على واجهات عديدة سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة وتربويّة إجتماعيّة ودينيّة. فحذّروا من الإستعمار المباشر وغير المباشر وألاعيبه وأساليبه القذرة، ودعوا إلى ضرورة بناء تعليم وطني على أسس صحيحة ترتبط ببيئتنا وتراثنا والتّمسك بهويتنا لكي نبني ونصوغ جيلا من تربتنا يعزّ عليه تراب وطنه وتراثه ويدافع شامخا عن هويته.
لقد سعى المصلحون إلى تثبيت دين القَيّمة، دين العلم والعمل لا دين وعّاظ السّلاطين وتغييب الجماهير، كما سعوا إلى ترسيخ إيمان لا يشوبه نفاق وعملوا على تجذير القِيّم السّليمة ومحاربة القِيّم السّقيمة. حذّروا من بؤس واقعنا واستبداد الحاكمين وغشاوة وجهل المحكومين المحرومين من حقوقهم وسعوا إلى إيقاظ ضمائرهم وتثوير نفوسهم ليغيّروا واقعهم . رافقتهم في جهادهم نباهتهم الذّاتية النّفسيّة والإجتماعيّة وما خضعوا لأساليب وأدوات الإستحمار بل كشفوا ألاعيبه وخداع المستحمرين، فلا هُم باعوا ضمائرهم ولا خانوا عقائدهم ودينهم ونبيهم ولا اشتروا دنياهم بدينهم  وذلك لعمق إيمانهم وتمسّكهم بمبادئهم وأصالتهم وهويّتهم كيف لا وهم ملح الأرض وتربتها الصّالحة ومعدنها النّفيس.
كتبهم معروضة إلى يومنا هذا تقرأ وأفكارهم منشورة معروضة تشهد على شهادتهم على عصرهم وصدقهم. إنّهم من فئة الرّجال الذين«صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ» ولقد قضوا نحبهم فرحمة اللّه عليهم جميعا. لكن الواقع الذين أرادوا إصلاحه لم يتغير بل زاد سوءا وقتامة، فهل أراد هؤلاء إزالة جبل راسخ ثابت بمعاول وفؤوس وسيوف رخوة لا تقوى على إزالة طبقاته وصخوره؟. لا أعتقد ذلك بتاتا، فمعاولهم وفؤوسهم وسيوفهم مصقولة بقوّة إيمانهم وصدق عزيمتهم وصفاء أرواحهم.
إنّ التّغيير يتطلّب جهدا كبيرا وصبرا ومصابرة ومثابرة ومداومة ومقاومة يحتاج إلى حبال ورجال وهُم الرّجال الذين أمدّوا الحبال للجذب. فهل تعاون كلّ الرجال على الجذب وقوّة الدّفع لتشغيل المعطل وإنقاذ الغريق وقلب معادلة الواقع رأسا على عقب؟؟؟ 
إنّ الإجابة لا يمكن أن تكون إلاّ بالنّفي، لأنّ الواقع استمر بعيوبه وهنّاته ونقائصه وعلله الظّاهرة والباطنة رغم بعض المحاولات، فلقد فاضت الأرض بأرجاسها وأدناسها وتمكّن وساد سفلة القوم وحثالتهم، وتكلّم الرّويبضة واستفاد الإنتهازي اللّئيم وسحق الضّعيف البائس المحروم وأهين الإنسان وسلبت القيم ووهنت العزائم وضعفت النّفوس في هذا الواقع المنكوس المعكوس. ما صلح حال الهمّج الرّعاع، فلقد زاد تنطّعهم وفوضويتهم وعدمهم.
إنّ الثّورة قلب للموجود وللواقع المعيش بكلّ آليّاته، فهي تغيير للمفاهيم والأذهان والسّلوكيّات وكنس المفسدين وتثبيت المصلحين في مواقعهم الأماميّة لقيادة الكادحين، فليست تغيير شكل بشكل آخر وتجميلا للواقع بإصلاحات جانبيّة هامشيّة لا تمسّ الجوهر فلا تغيّر النّفوس والأرواح بل تزيّن الأجسام وتجمّل الأشباح والواقع وتحافظ على المصالح الشّخصيّة والإمتيازات. 
إنّ التّطور المادّي والتّكنولوجي السّريع بنسقه وآليّاته وميكانزماته وفنونه وأذواقه قد شكّل قالبا مادّيا ومعنويّا استوعب الواقع وصاغه نموذجا ذا سحنة جاذبة للنّفوس الضّعيفة وعامّة النّاس وسقط متاعها ومانعة للبصائر عن كشف معانيها وإكتشاف حقيقتها. 
ونتيجة لهيمنة الغرب على العالم وفرضه لنسقه وحضارته التي هي حضارة الأشياء لا حضارة الإنسان، فقد تاه الناس في مجتمع إستهلاكي يتدافع أفراده متنافسين متطاحنين، جوهرهم ودعامتهم  المادّة وغايتهم توفير حاجيّاتهم المادّية وقضاء مصالحهم الشّخصيّة منطلقاتهم واقعهم الموضوعي بكلّ شروطه ووسائله وأدواته المادّية.
فكيف لهذا الإنسان في حضارة الأشياء أن يفكّر من خارج المادّة وكثافتها وأن يتجاوز واقع الحسّ المتجذر المنطبع في الصورة الجسدية image corporelle وآثاره. من يخترق العولمة ونتائجها وتأثيراتها وآثارها العميقة على الإنسان والأوطان؟
إن هؤلاء الرجال الصادقين الذين تركوا أقوالهم وأعمالهم ومواقفهم  وكتاباتهم وكُتبهم وأفكارهم.إجتهدوا وأخلصوا وسجلوا في صفحات التاريخ أنهم كانوا شاهدين على عصرهم بما قدموه ولقد قضَوا نحبهم ولم تتحقق آمانيهم بعد غيابهم خاصّة في واقعنا العربي رغم صدق ما كتبوا ورجاحة أفكارهم وثوريّتها وأصالتها .
إذن علينا أن نتريث قليلا وأن نعيد الكرّة بعدهم مرّات ومرّات حتّى تفتح الأبواب المغلقة بعد طرقها مرارا وتكرارا بشدّة العزائم وصلابة المواقف وهذا دور مناط بعهدة «من ينتظر» .
-2 «ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا»
إنّ خاصّية هؤلاء الرّجال أنّهم من طينة أولئك الذين سبقوهم ورحلوا، فمنهم من ينتظر مازالت مسيرة حياتهم مستمرّة لم يغيّبهم الموت بعد ومنهم آخرون من الأجيال القادمة الذين سيلتحقون بِخَلَفِهِمْ. فأمّة سيّدنا محمد ﷺ أمّة الخير والخير موجود غير مفقود في الأمّة إلى يوم البعث رغم جسارة الباطل وطغيانه، فالصّراع متواصل بين الحقّ والباطل إلى قيام السّاعة. 
هؤلاء المنتظرون ميزتهم  الأخرى أنهم «لم يبدلوا تبديلا» .فهم  ثابتون متمسكون بالقيّم والمبادئ غير مبدلين ولا محرّفين ولا متأوّلين. فطوبى لمن يتمسّك بالثّوابت ولا يغيّر ما أنزل اللّه ولا تكون خلفيّته ومرجعيّته الفكريّة والعقائديّة خارج دائرة الوحي الإلهي والنّور الرّباني، فالنّصر من عند اللّه سبحانه وتعالى والأمر إليه كلّه .
آن الأوان لتجميع كلّ القوى الخيّرة لإرساء مدرسة فكريّة إصلاحيّة قبسها من روح وشعلة وأفكار وشعور ومشاعر ما قدّمه المصلحون السّابقون وإنشاء بنك معلومات ومعارف يجمع ويثبّت ويستثمر ويثمّر ما قاله روّاد النّهضة والإصلاح في قالب مفاهيمي معرفي إجرائي لكي نحافظ على مرّ الأزمان والأجيال على الرّأسمال الرّمزي والمعياري لطاقة الأمّة وديناميّة نشاطها الفعلي بهدف تنوير الأذهان وتطوير الأفهام وتثوير الواقع فيتمّ تجاوز القالب السّاجن للنّفوس المعيق للتّطور الذّاتي والموضوعي للأمّة « فكلّ أرض ولها عودة ثائر».
إنّ الأمانة المناطة بعهدة «من ينتظر وما بدلوا تبديلا» تنوء بحملها السّماوات والأرض والجبال، فدورهم أساسي وجوهري في إحداث التّغيير ومحاربة الرّكود وتقويم كل اعوجاج وانحراف. والتّغيير جهد مستمر فيه دراسة للعلل والأسباب والأعراض وبحث للحلول وسبل العلاج مع اتباع سبل الوقاية للحفاظ على الجوانب الإيجابيّة وتغذيتها وتطويرها.
ولأنّ هؤلاء من صفوة المؤمنين بما أنهم «لم يبدلوا تبديلا»، فهم في مأمن من الدّنيا وشهواتها ولن يفلّ عزمهم وتخرّ عزائمهم مادامت في أرواحهم شعلة الآداء وروح التّغيير وبذرته والتّمسّك بدينهم 
والدّين الذي لا يحرّك سواكن النّفوس لنيل حقوقها وإرساء العدل والحقّ وتغيير ما يجب تغييره  لا يجدي نفعا لأنّه دين وعاظ السّلاطين، فالدّين الحقّ هو دين الأنبياء والرُسل والجماهير والمحرومين وكلّ الأحرار المتوثّبين لنيل حقوقهم والثّورة على الظّلم والظّالمين والمستبدّين، دين الصّحوة والثّورة المستمرة والعبادة والهِمّة لا دين العادة والرّكود والاستسلام والوهن وتخدير العامّة بوجوب الخضوع والإستكانة والرّضا بقضاء الواقع وأقدار السّلاطين .