وجهة نظر

بقلم
محمد القسنطيني
ما بعد الحجر الصحي العام وما بعد كورونا
 يكاد يكون من المستحيل استقراء الوضع الاقتصادي والاجتماعي ما بعد جائحة كورونا في كلّ بلدان العالم بدقة عالية لكنّ الأكيد أنه سيكون صعبا جدّا. وبالنسبة لبلادنا ولوضعية اقتصادنا ووضعنا الاجتماعي نقول ما قاله الله تعالى في سورة البقرة «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)» حيث يمكن أن تكون فرصة للقيام بثورة على الأنموذج الاقتصادي القائم والانطلاق في تركيز منوال لنماء المجتمع في مختلف المجالات. منوال يكون هدفه المجتمع ونسيجه ويصبح فيه النمو الاقتصادي نتيجة لحراك المجتمع ونسيجه.
هي فرصة لتحجيم القطاع غير المهيكل وتمتين القطاع المهيكل. ذلك أن القطاع غير المهيكل هو الأكثر تضرّرا من القطاع المهيكل طبعا عدا الصناعات المرتبطة بحركة التنقل كالسياحة. النموذج الاقتصاد القائم يطغى عليه الاقتصاد غير المهيكل والسوق السوداء. قرابة المليون شخص الذين تمّ تعدادهم لتلقي المساعدة المباشرة من الدولة «للتخفيف عليهم» من وطأة تبعات أزمة كورونا لدلالة بيّنة على هذه السمة لاقتصادنا. فليس كلّهم أهلا لتلك المعونة.
الانطلاق الأفضل هو بالبحث والنبش في قدراتنا الذاتية والعمل على تثمينها وتوجيهها نحو وجهة واحدة وأهداف جامعة لكل مكونات المجتمع. فلنا من الموارد البشرية والمالية والبنية التحتية ما يكفي لانطلاقة قوية وعلى أسس متينة لنماء المجتمع نماء متوازيا مستداما إذا ما تمّ توظيفها التوظيف الأمثل. فوطننا يزخر بالموارد والقدرات والطاقات بما يكفيه للنهوض بالمجتمع في كلّ الميادين. لا ينقصنا إلا الاتحاد حول غاية وأهداف معيّنة وحسن التوكّل وحسن الإدارة عبر محاربة التواكل وسوء الإدارة في القطاعين الخاص والعام. 
يجب أن تكون المرحلة الراهنة مرحلة الإدارة الجماعية للموارد والامكانات المتاحة بدون المساس من حرّية الأفراد الماديين والمعنويين ولإدارة المخاطر الحقيقية أو المحتملة ومرحلة الاجماع والاجتماع حول أهداف واحدة آنية ومتوسطة وبعيدة المدى لتكون النجم القطبي الذي يهتدي به الجميع.
نحن نحتاج الآن وبسرعة إلى التفاعل الإيجابي والحيني بين الدولة والفاعل الاقتصادي بالبحث عن السبل لخلق تشاركية فعلية تجمع السرعة والمرونة والفعّالية لأنّنا وفي هذه الفترة بالذات في حاجة ماسة للمرونة والاستعجال والمراجعة الحينية لأن المتغيرات والتغيرات ستكون متسارعة ومتلاحقة وغير متشابهة ومبعثرة وحتى متناقضة.
نحن لسنا في حاجة إلى إعادة النظر لدور الدولة فحسب بل إلى إعادة صياغة للمجتمع وهيكلته وإعطاء الأولوية والعمل على بعث هياكله المستقلة عن الجهاز التنفيذي للدولة وأن يكون المجتمع هو الهدف في أمنه وطمأـنينته ورغد عيشه حتّى وإن اختلفت الصياغات. 
لذا فالمقاربة أساسها الاعتناء جماعيا بالإمكانات والقدرات الذاتية الحقيقية أو الكامنة والتعويل عليها والعمل على تمتينها وتمكينها وتطويرها وتوجيه الكل نحو أهداف جامعة ونحو الأفضل بمرونة واستعجال واستفراغ ما في الوسع.
فما هي الخطوات العملية الضرورية الآنية؟
1. إعادة دمج الأموال المغيّبة في الاقتصاد المهيكل لتحسين السيولة
توجد أموال طائلة مجمّدة تقدّر بمليارات الدينارات غير موظفة مخزّنة تحت الأرض معظمها ثمرة السوق غير المهيكل أو السوق السوداء. يمكن دمج هذا الصنف من الأموال المغيّبة بوقف أي تتبع ضدّ كلّ من يضع ماله في بورصة الأوراق المالية لمدّة سنة بدون سحب أي جزء منها. 
2. بعث قطب حكومي لكلّ فضاء اقتصادي 
يكون العنوان الوحيد للمؤسّسات النّشطة في ذلك الفضاء وذلك بهدف تحسين فعالية ومردودية المؤسّسة ولقطع الطّريق على التّراخي واللاّمبالاة والرّشوة ويتمّ في نفس الوقت تحييد القوانين البائدة والمعطّلة للحركية الاقتصادية بدون انتظار تحيينها وتقنينها مرورا بمجلس الشعب.
تتمثّل مهمّة هذا القطب في المتابعة اللصيقة لظرف المؤسّسة وتطورها ولقدرتها على الإدارة الحسنة ومدى التزامها بالخيارات الكبرى للدولة واصدار القرارات التطبيقية الاجرائية اللازمة لكلّ فضاء اقتصادي، وإذا لزم الخاص بمؤسسة معيّنة، لتيسير عمل المؤسسات النشطة في فضائه. 
وتتكوّن تركيبته من خبراء متمرّسين في ميدانهم يمثلّون كلّ المعنيين بالفضاء الاقتصادي وبالمؤسسات الفاعلة فيه مثل «قطب الفضاء الصّناعي» الذي يضم في أعضائه ممثلين عن وزارة الصّناعة والبنك المركزي والبيئة والتّجارة،...الخ. 
وتكون صلاحياته مثل الصّلاحيات الاستثنائيّة الحالية للحكومة.أوامره نافذة تلغي وتنفي أي أمر جار به يتعارض وظرف المؤسّسة النّشطة في فضائه. 
وتتمّ مراقبته من خلال «قطب مركزي» ممثّل من طرف كلّ الهياكل المركزيّة للدّولة ويجمع كلّ ما يصدره من أحكام للتعمّق فيها قصد إرشاد «أقطاب الفضاءات» لمزيد من النجاعة والتنسيق وكذلك لاستنباط الأحكام الجامعة التي يعرضها على مجلس الشعب للمصادقة عليها تعويضا لأحكام قائمة غير ناجعة أو المعطّلة للاقتصاد. وكذلك لكشف وفضح أيّ تلاعب في عمل أيّ قطب إن وجد.
هذه الآليّة سبيل للتّخلص من القطاع العمومي المنتج للسّلع والخدمات وطريق لتأسيس لعقد جديد بين المجتمع عموما وجهاز الدّولة خصوصا وبين المؤسّسات الخاصّة المنتجة للسّلع وللخدمات.
3. تأطير وتوجيه العمل التّطوعي ومأسسته 
موارد مالية ضخمة من تبرّعات الأفراد ومن الصدقة المفروضة يتم جمعها وانفاقها على هامش الدّورة الاقتصاديّة، وجب توجيهها نحو الأفعال والأعمال والبرامج التي تزيل الفقر وتخلق مواطن شغل وتحسّن ظروف العيش عوضا عن الصّدقة من أجل الصّدقة فحسب. هذا علاوة على الصّعوبات التي تتعرّض لها جمعيات العمل الخيري عند حاجتها لتدخّل مؤسّسات الدّولة. 
 لذلك من الضروري تنظيم ومأسسة العمل التطوعي وخلق الشراكة بين الدولة وجمعيات العمل التطوعي وذلك بـ:
- إيجاد الإطار القانوني للتفاعل الايجابي بين أجهزة الدولة، وخاصة المحلّية منها، وبين الجمعيات
- تحديد أولويّات العمل التّطوعي بكلّ جهة أو ميدان ووضعه على ذمّة الجمعيّات لتختار ما يناسبها من مشاريع.
- تأسيس جمعيّة نماء بكلّ دائرة تجمّع سكاني تهتم بكلّ مشاغله وبكلّ ما يزيد من أمنه وطمأنينته وسعة رزقه وتكون النّاطق الرّسمي للتّجمع السّكاني والممثل الوحيد لمتساكنيه في الهيئات المحلّية.
- بعث صناديق استثمار مشتركة على المستوى المحلّي. 
4. التخفيف من حدّة أزمة المالية العمومية إلى أدناها بالعدالة الجبائية:
عبر استعادة الثّقة بين الفاعل الاقتصادي والدّولة من خلال العدالة الجبائيّة ومحاصرة ظاهرة التّهرب الضّريبي وذلك بإلغاء المفعول السّيئ للأداء على القيمة المضافة(1)والتخفيف من الضرائب على مؤسّسات القطاع غير المهيكل عملا، وإعطاء السّلطة المحلّية وللمجتمع المدني دور أكبر في مراقبة المؤسّسات الصّغرى من حرفييّن وأطبّاء ومحامين وأشباههم.
5. الاستثمار في الجهات
وذلك عبر تثمين خصوصيّة كلّ جهة وما يميّزها والابتعاد ما أمكن عن تلويث تجمّعاتها المحلّية.فخلق مواطن الشّغل أمر مهمّ وحارق ولكن الأهمّ هو مستقبل الجهة على المدى البعيد وأمن وطمأنينة متساكنيها لأنّ سلامة المجتمع أهم من النّمو الاقتصادي الذي يجب أن يكون نتيجة نمو سليم للمجتمع وليس العكس.
ويمكن التّركيز على المناطق الدّاخلية التي لازالت عذراء ولم يستفحل فيها التّلوث المجتمعي(2) وأولويّة الأولويّات هي تحديد مثال تهيئة عمراني منسجم مع خصوصية كلّ جهة ومقدّرا لآفاق التّطور التّكنلوجي مثل شكل التّنقل ونوعيّة الطّاقة المستهلكة والطّرقات وغيرها من المسائل العمرانيّة والابتعاد عن تلويثها بصناعة لا تمتّ لها بصلة.
6. توجيه الاستثمار نحو الأتمتة (automatisation) والاقتصاد الرقمي.
وذلك عبر توجيه البرامج التّعليمية نحو الأتمتة والتّكنولوجيات الجديدة المبعثرة للنّظم الاقتصادية القائمة، وتوجيه دعم الدّولة في نفس الاتجاه بدون إعطاء الأولويّة لبعث مواطن الشّغل، فهذا سلوك غير اقتصادي وغير مجد.
7. هيكلة وتنظيم المؤسسات:
تعاني المؤسّسة المنتجة (خدمة أو منتوجا) أساسا من سوء الإدارة والعلاقة المتأزّمة مع أجهزة الدّولة . 
فأمّا سوء الإدارة فيمكن معالجته بـ:
- إجبار كلّ المؤسّسات مهما كان حجمها على إثبات تمكّنها من مجالات الإدارة الحسنة.
- ربط أيّ دعم تحت أيّ شكل كان بقبول المؤسّسة الانفتاح والتّنظيم وفق متطلبّات السّوق وتوجّهات الدّولة.
- التحقّق من أن المؤسّسة تعتبر عملتها هم رأس مالها وليسوا بعبء عليها. فنسبة مساهمة العامل في ضعف القدرة التّنافسية للمنتوج التونسي لا تتجاوز 30%، والباقي يتقاسمه المشرفون على إدارة المؤسّسة والدّولة.
وأمّا العلاقة المتأزّمة مع أجهزة الدّولة فيمكن معالجتها بالعدالة الجبائيّة والتّخفيف من وطأة القوانين البالية والمعطّلة وغير الموائمة للظّرف الاقتصادي، بالإضافة إلى محاصرة الفساد والرّشوة.
8. حل إشكالية أزمة الانتداب عوضا عن البحث في أزمة التشغيل 
لا توجد في الوقت الرّاهن علاقة بين القدرات والكفاءات المطلوبة أو التي يجب توفيرها لإنجاح برامج ومخطّطات الاستثمار وبين المؤهّلات الحقيقية لطالبي الشّغل خاصّة أصحاب الشّهادات العليا. لذا فالانتداب هو الأخطر على أيّ برنامج ومخطّط للنّهوض بالاقتصاد. لذلك وجب التعرّف على حاجات المؤسّسات المستعجلة والتّركيز على مراكز التّكوين لإعادة تأهيل العديد من العاطلين عن العمل بحسب الحاجيات الحقيقيّة لسوق الشّغل، مع خلق شراكة حقيقيّة بين هذه المراكز والمؤسّسات الاقتصاديّة. 
9. دعم الحرف والمهن الصغرى التي يمكن أن تكون مشاريع مؤسسات ذات حجم محترم
من أهم أسباب وهن المشاريع وضعفها في مختلف المجالات قلّة الخبرة في الإدارة الحسنة والتّوجس من الدّولة وجبايتها المجحفة. لذلك من الضّروري فرض التّكوين المسبق في أسس الإدارة الحسنة على كلّ باعث أي مشروع جديد ولو بائع خضر.
10. التمكين للمؤسّسات النّاشئة
كثير من المؤسّسات النّاشئة وضعها هشّ غير أنّها قادرة على أن تتحوّل إلى مؤسسات ذات حجم معتبر. هذه المؤسّسات تفتقر إلى الدّعم اللّصيق من الدّولة وربّما إلى موارد ماليّة ظرفيّة أو لمنظومة إدارة تواكب تطوّر أسواقها، أو لكفاءات. لذا وجب اقتراب الدّولة من هاته المؤسّسات النّاشئة وفهم خصوصيّة كلّ واحدة منها ودعمها وترشيدها وإعانتها بما يتناسب مع وضعيّة وحاجة كلّ واحدة منها. 
11. الاستغلال الأمثل للعقارات القائمة غير المستغلّة أو ضعيفة الاستغلال
من بين هذه العقارات تلك التّابعة للدّولة (تمليك أو كراء) والمساحات والعقارات المهجورة المتواجدة في المناطق الصّناعية القائمة. فلا فائدة من بعث مناطق صناعيّة جديدة ولا زالت هناك بنية تحتيّة غير مستغلّة.
الهوامش
(1) وذلك بـ (أ) اقتطاع الأداء على القيمة المضافة عند الإنتاج ووقف انتقالها من يد إلى أخرى (ب)الأداء على القيمة المضافة على المنتوج المستورد نهائي وغير قابل للانتقال (ج) تدفع الشركات المصدرة الأداء على القيمة المضافة بحسب استهلاكها للمواد التي تمّ التزود منها من السوق المحلّية (د) إعطاء المؤسسات المهيكلة إمكانية دفع القيمة المضافة على المواد الموردّة بحسب استهلاكها أو بحسب تسويقها.
(2) تعريف التّلوث المجتمعي: هو مجوع التّلوث البيئي والبناء الفوضوي والزّحف العشوائي على الأراضي الزّراعيّة والمثال التّهيئة الذي لم يؤسّس على رؤية استشرافيّة على المدى البعيد لتطوّر المجتمع في كلّ المجالات النّقل والانحراف الأخلاقي وضعف النّسيج المجتمعي وغياب الرّقابة الجماعيّة.