الأولى

بقلم
فيصل العش
في الحاجة إلى «رجال» يجيدون التّحاور
 (1) 
« فكر يعلو....
فكر يسقط....
حوار الصمّ يناديني .... يغازلني ويجنيني
زيتونا بلا زيت....
وتينا بلا سكّر ....
أعمى يصرخ في وجهي ... 
يجادلني ...
في لون البحروالعنبر...
كل الأفكار ... ناقصة ...
كلّ الأفكار زائفة ...
لا فكر سوى فكر المنبر...»
بهذه الأبيات عبّرت عن حزني وألمي للواقع المرير الذي كانت تعيشه ساحتنا الفكريّة والثّقافيّة .. واقع انعدمت فيه أبجديّات الحوار وغابت فيه ثقافة الاستماع إلى الآخر وقبول الرّأي المخالف .... كتبت هذه الأبيات في أحد أيام خريف 1983 ... بغرفتي بالمبيت الجامعي بمنّوبة. ومن لا يعرف منّوبة وكلّية الآداب ومبيتها الجامعي، معقل النّضال الطّلابي في العهد البورقيبي وموقع الاحتكاك بين المدارس الفكريّة والايديولوجيّة المختلفة، بين الإسلاميّين واليساريين أو بين الاسلاميّين والقوميّين أو بين الإسلاميّين بمختلف توجّهاتهم واليساريين بمختلف مشاربهم ... في تلك الأيام كان النّقاش على أشده بين مختلف الفرقاء لكنّه لم يرتق إلى رتبة «الحوار»، فكانت حلقات النّقاش لا تنتهي عادة إلاّ بكيل الاتهامات ورفع الشّعارات ذات الطّبيعة العدائيّة المرتكزة أساسا على مصطلحات مثل «السحق» و«الموت» و«العمالة» و«الرجعيّة» و«الكفر».... الخ....
وبعد سبع وثلاثين سنة .... ترانا في نفس اللّحظة وكأنّ عقارب السّاعة لم تتحرّك. وبالرّغم من فعل الأيّام في ملامحنا وأشكالنا، فإنّ ما نراه اليوم ونسمعه من جدال عقيم في جلسات البرلمان وعلى شاشات التّلفاز وموجات الإذاعات وأعمدة الصّحف وعلى صفحات التّواصل الاجتماعي هو تكرار لما كان يُقال في حلقات النّقاش ويُكتب في المعلّقات الجداريّة التي كانت تغطّي جدران الكلّيات والمدارس العليا.
كيف يمكن أن نبني وطنا للجميع ونحن لا نعرف معنى الحوار ولا نمارسه؟ كيف السّبيل إلى الوصول إلى حلول لمشاغلنا المتراكمة ونحن نعيش ثقافة «الأنا»؟ نمجّد الذّات ولو كانت على خطأ و نقبر  «الآخر» ولو كان على صواب؟ كيف يمكن أن نتعايش فيما بيننا ونحن نتخبّط في التّلفيقيّة ونكرّر نفس أخطاء الماضي ونعمل على ترقيع الخطأ بالخطأ ؟ نسدّ آذاننا ونمارس الحصار حول كلام وآراء الآخرين ولا نستمع إلاّ إلى صدى كلامنا وآرائنا، ونُقنع «الأنا» فينا بأنّ الصّواب منّا وإلينا.
(2) 
الأصل اللّغوي لكلمة الحوار هي «الحَوْرُ» وهو الرّجوع عن الشّيء وإلى الشّيء، وهم يتحاورون أي يتراجعون الكلام، والمحاورة مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة(1). والمحاورة والحوار المراددة في الكلام ومنه التّحاور(2). قال الراغب: «الحور: التردد، إما بالذات وإما بالفكر»(3) ، والمراجعة في الكلام تكون عادة بين طرفين، وقد ورد مصطلح الحوار في القرآن الكريم في عدّة مواقع منها قوله تعالى: «قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرهُ..» (4)، وقوله: «وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا»(5).
أمّا اصطلاحا فيعرّف الحوار بكونه: «مراجعة الكلام وتداوله بين طرفين. وعرّفه بعضهم بأنّه نوع في الحديث بين شخصين، أو فريقين يتمّ فيه تداول الكلام بينهما بطريقة متكافئة، فلا يستأثر أحدهما دون الآخر، ويغلب عليه الهدوء والبعد عن الخصومة والتّعصب، وهو ضرب من الأدب الرّفيع وأسلوب من أساليبه (5).
والفرق بين الحوار والجدال هو أنّ الجدال شدّة في الكلام، مع التّمسك بالرّأي والتّعصب له، وأمّا الحوار فهو مجرد مراجعة الكلام بين الطّرفين دون وجود خصومة بالضّرورة، بل الغالب عليه الهدوء والبعد عن التّعصب(7). وقد ورد مصطلحي الحوار والجدال في سياق واحد، قال تعالى: «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّـهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ» (8). 
ويمكن تعريف الحوار أيضاً بأنّه تَعاونٌ بين الأطراف المُتحاورة بِهدف مَعرفة الحقيقة والوصول إليها، وفيه يكشِف كلّ طرف عن كلّ ما خَفِيَ عن الطّرف الآخر، يَقول الحافظ الذّهبي: «إنّما وضعت المناظرة لكشف الحقِّ، وإفادةِ العالِم الأذكى العلمَ لمن دونه، وتنبيهِ الأغفلَ الأضعفَ»(9)، وفي القرآن الكريم جاء الحِوار بِمعنى المُجادلة بالحُسنى. قال تعالى: «أُدْعُ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن» (10)
(3)
ليس هدف الحوار إلغاء الآخر، ونجاح «الأنا» ليس مرهونا بفشل «الآخر» لأنّ الذّاتية والغيريّة لا يتناقضان بالضّرورة، فالحوار اختزال للمسافات بين «الأنا» و«الآخر» وردم للهوّة السّحيقة التي تفصل بين طرفي الحوار وجسر تواصل وتفاعل خصب، يساعد على تكامل الآراء واتساع الأفق الفكري الذي يستوعب الحقيقة مهما كان مصدرها .
والحوار مواجهة لموضوع ما نبحث عن جذوره لنستجلي الحقيقة بنيّة الاستفادة قبل الإفادة وليس مواجهة للطّرف المتحاور معنا. الحوار كما قال أحدهم «معرفة بها نتطلّع للحقيقة بالسّؤال والبحث لا إيديولوجيا تجنح نحو الانكماش والتّقوقع». فحين يعتنق أحدنا أيديولوجيا ما، أو ينحاز إليها، فإنّ هذه الأيديولوجيا تغدو النظّارة التي يرى من خلالها العالم. وليس هذا فحسب؛ بل ويُخطِّئ المختلفين معه بالمطلق. فتغدو المعرفة، إذ ذاك، أسيرة الأيديولوجيا وليست عمليّة كشف وفهم وتفسير وموضوعيّة، وهذا هو معنى العائق الأيديولوجي للمعرفة.
ويتطلّب نجاح الحوار الإنطلاق فيه بدون خلفيّات مسبقة ولا قدسيّة لفكرة على حساب أخرى وهو ما عبّر عنه الشّافعي بقولته: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصّواب»وقول فولتير: «قد أختلف معك في الرّأي، ولكنّي مستعدّ أن أموت كي تقول رأيك». 
تقوم ثقافة الحوار على التّسامح والتّعايش، وهي مفتاح للتخلّص من الخلافات، وركيزة أساسيّة لأيّ مشروع مجتمعي ديمقراطي وشرط ضروري للسّلام والتّقدم الاجتماعي، وبواسطتها نستطيع القضاء على التّعصب والتّمييز والكراهيّة ونقطع بذلك الطّريق أمام الاستبداد والدّكتاتوريّة، لأنّهما لا ينبتان في مجتمع شعاره الحوار والتّسامح. لهذا عمل الاستبداد طيلة فترة هيمنته على تدمير ثقافة الحوار وبثّ ثقافة الاستبداد وغرسها في العقول منذ الصّغر عبر جميع الوسائل المتاحة، فلم يترك مجالا من المجالات إلاّ وصبغه بهذه الثّقافة، فأفسد بذلك صفاء النّفوس وعطّل آداء العقول وشوّش أجهزة السّمع والبصر، فأصبح النّاس يعيشون في حالة من الفوضى والتّناحر والضعف والتبعيّة للمستبد.
(4) 
إنّ غياب الحوار من المجتمع يعني غياب الحرّية، وحقّ التّعبير عن الأفكار والآراء، وهو دليل على هيمنة ثقافة الاستبداد ومصادرة حرّية الفكر والثّقافة، كما أنّ غياب الحوار دليل على طغيان «الفرديّة» ونبذ الآخر وإقصائه. وعندما يشوه الحوار أو تتمّ مصادرته، فإنّ قدرة المجتمع على البناء والإصلاح تغدو هشّة لا رجاء منها.
ما أحوجنا إلى حوار بناء يعترف فيه المخطِئُ ويتواضع من خلاله المصيب، الغاية منه ترتيب فوضى الأفكار والبحث عن حلول للمشكلات . إنّه يتطلّب صدرا رحبا و انفتاحا مستمرّا وعقلا متفتّحا وخروجا دائما عن الذّات للإنغماس في رحاب موضوع الحوار قصد التّعرف على خباياه واكتشاف رموزه والوصول إلى إجابات للتّساؤلات العميقة المتعلّقة به والتي لا يمكن أن تكون إلاّ ثمرة جهد المتحاورين جميعا. 
الحوار ثقافة مفقودة في وطننا نتيجة سنوات طويلة من الكبت والاستبداد والإقصاء، ولا خيار لدى من يحلم بمستقبل أفضل ووطن يحترم فيه النّاس بعضهم بعضا، سوى أن يجتهد في وضع أسس هذه الثّقافة والقطع مع ثقافة الصّراع والعراك لأنّ البناء لا يتمّ بالمعاول، فالمعاول مجعولة للهدم لا للبناء.
 (5) 
إنّ غياب ثقافة الحوار هو أحد الثّمار المرّة للاستبداد، ويتجلّى غياب هذه الثّقافة في ما رأيناه بعد الثّورة ومازلنا نراه من محاولات فرض كلّ طرف لرأيه على الآخر. فمنهم من يحاول فرض موقفه بحجّة «الشّرعية الانتخابيّة» وآخر بحجّة «الشّرعية الدّينيّة» وثالث بحجّة «حداثته وفكره التّنويري» وهو ما نراه بالعين المجرّدة على شاشات التلفاز وفي مجلس الشّعب وفي الطّريق العام وفي المساجد والصّحف والإذاعات وصفحات التّواصل الاجتماعي... ويعتمد الجميع سلاح التّشويش ومحاولة طمس الحقائق وتحريف الكلم عن مواضعه ورفع الأصوات بكافة أنواع اللّغو حتّى تضيع الحقيقة. 
ومن مظاهر غياب ثقافة الحوار سعي البعض إلى تخويف النّاس من خطورة الاستماع الى الرّأي الآخر بتعلّة عدائه للثّورة تارة أو معاداته للدّين تارة أخرى أو بتعلّة رجعيّته ورفضه للحداثة والتّقدم، مستعملين بدون خجل، ما جادت عليهم قريحتهم من عبارات الاستخفاف والتّهكم وهتك الأعراض.
غدا غياب «ثقافة الحوار» في أوساط العمل السّياسي والثّقافي والدّيني في تونس، ظاهرة سلبيّة حيث بات إلغاء الآخر ومحاربته عنوان التّعامل بين مكوّنات المجتمع. وقد تفنّنت أطراف عديدة في استغلال وسائل التّواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام لشنّ الحملات على «الأعداء» والتّنكيل بهم كأنّهم لا ينتمون إلى نفس الوطن. حتّى أنّ العاقل منّا لم يعد قادرا على متابعة الحوارات التّلفزيّة ولا مداولات مجلس الشّعب ولا حتّى تصفّح صفحات الفايس بوك.
 (6) 
إنّ شعبنا وجميع الشّعوب العربيّة تعوّل على استفاقة نخبها بجميع أنواعها واختلاف مشاربها الفكريّة من غيبوبتها وتحرّرها من سجونها «الايديولوجيّة» وتسلّحها بفكر حرّ أصيل بعيدا عن الخرافة والوهم والطغيان والنرجسيّة، فتنسى ذواتها وتتحاور بهدوء ورويّة، فتلك هي الأداة الوحيدة للبحث عن الحقّ والحقيقة والحلول العميقة لمشاكلنا.
إن الشعوب ليست في حاجة إلى الحماسة والصّراخ ورفع الشعارات الرّنانة وهي ليست في حاجة إلى أن ينهش بعضها بعضا وإنّما هي في حاجة ملحّة إلى حكماء وعقلاء يجيدون فنون إدارة الإختلاف من أجل خلق توافق واتّفاق يصبّ في مصلحة تلك الشّعوب ويحقّق لها آمالها وأحلامها في عيش كريم وحرّية لا غشّ فيها ومستقبل أفضل من الحاضر.
إنها في حاجة إلى «رجال» يعرفون كيف يتحاورون ...
الهوامش
(1) انظر: لسان العرب، ابن منظور، 4/218.
(2) انظر: القاموس المحيط، الفيروز آبادي، 1/486.
(3) الراغب الأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد، المفردات في غريب القرآن، دار المعرفة، بيروت، لبنان، 2001، ص 142.
(4) سورة الكهف - الآية 37
(5) سورة المجادلة - الآية 1
(6) انظر: الحوار آدابه وضوابطه في ضوء الكتاب والسنة، يحيى زمزمي، ص22.
(7) المرجع السابق، ص 26.
(8) سورة المجادلة - الآية 1
(9) الزرقاني، محمد بن عبد الباقي(ت.1122ه - 1710م) شرح الزرقاني على المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّدية، دار الكتب العلميّة، بيروت 1996 - مج 7 - ص 470
(10) سورة النحل - الآية 125