مقالات في التنمية

بقلم
فيصل العش
مقدمة لرؤية اقتصادية لتونس ما بعد الثورة

(أ) مقدّمة 

 

تعيش تونس هذه الأيام وضعا اقتصاديا صعبا يحسّه المواطن البسيط قبل الخبير والمسؤول والوزير. فغلاء المعيشة وارتفاع نسبة الأسعار لم يعد مخفيا على أحد، وارتفاع نسبة البطالة خاصة بالمناطق الداخلية المهمّشة يعترف به الحاكمــــون قبـــــل معارضيهــــم. و لن نتعمّق كثيرا في هذا المقال في الأسباب التي أدت إلى هذا الوضع وتحميل المسؤولية لزيد أو لعمر فكل الثورات تمرّ بصعوبات جمّة في سنواتها الأولى وليس من السهل تجاوز تركة كبيرة من نظام استبد طويلا وأفسد ونهب ثروات الوطن لعقود من الزمن. فتونس تعيد البناء بعد الخراب، مما يعني أنها ستمرّ بصعوبات قد تستمر لأشهر وربما لسنوات طويلة. صحيح أنه كان بالإمكان تحقيق أفضل مما كان على المستوى الاقتصادي، لكن المهمّ الآن الاهتمام بالمواضيع الحقيقية والبحث عن الحلول للمشكلات الرئيسيّة التي ثار من أجلها الشعب . وأرى أن الأزمة الاقتصادية التي عصفت بتونس خاصّة في العشريــــة الأخيــــرة من العهد البائد بالرغم من نسب النمـــــو المرضيّة التي كان يقدّمها النظام والتي لم تكن تعتمد مؤشرات تنموية تعبّر عن حقيقة الوضع بالبلاد ومدى استفادة التونسي البسيط والفقير من هذه النسب، بالإضافــة إلى احتكار الثروة من طرف العائلة المالكة وبعض المحيطين بها، كانت من بين أهم الأسباب التي  أشعلت نار الثـــــورة في البـــــلاد وأطاحت بـــــرأس النظام يوم 14 جانفي 2012 . 

وبالرغم من كوني لست بعالم ولا بخبير اقتصـــادي، ولا أحفظ عن ظهر قلب النماذج الاقتصادية المتاحة ، لكنني سأحاول بقدر المعلومات التي أمتلكها وبصفتي مواطن يعيش في هذا البلد ورب أسرة يتحكم فيها العامل الاقتصادي بنسبة كبيرة ، أن أتحدث في المسألة الاقتصادية لعلّي أساهم في :

 تحويل وجهة الحوارات الدائرة الآن بين المثقفين والطبقة السياسيــــة مـــن المواضيع المصطنعـــــة التي لا أرى أنها من أولويات المرحلة إلى أحد المواضيع الهامّة التي يجب الخوض فيها كالمسألة الإقتصادية .

 طرح بعض الأفكار حول الرؤية الاقتصادية لتونس ما بعد الثورة على أمل أن تكون مقدّمة لمشاركة أهل الاختصاص في هذا البحث قصد تعميقه و تحويلــــه إلى مشروع اقتصادي يكون بديلا  للنظام الليبرالي المشوّه الذي نحن بصدد تنفيذه في البلاد في استمرار للوضع ما قبل الثورة وكأن شيئا لم يحدث.

إن الانزلاق الخطير الذي وقع فيه الاقتصاد التونسي خلال فترة حكم الرئيس المخلوع ”بن علي“ يتطلب تصحيح لمساره وذلك بوضع رؤية اقتصادية جديدة تجعل من النمو والعدالة أهم مقاصد الاقتصاد الوطني . 

وتنطلق رؤيتنا لمسار التنميــــة الاقتصاديـــة للبلاد من إيماننا العميق بضرورة بلورة نهج محكم يرتكز على الفعاليـــة و تكافؤ الفرص و نبذ الفوارق، من حيث الاهتمام المتوازن بالجهات والقطاعات والشرائح الاجتماعية المنتجة التي يؤدي تنشيطها إلى إنعاش المنظومة الاقتصادية و الوطنية.

وفي هذا السياق فإننا نرى أن يقوم الاقتصاد التونسي على مبادئ الحرية والتشاركية واللامركزية في ظل دولة قوية لها مؤسسات ضامنة تعتمد القانون لتحقيق العدالة الاجتماعية. فالحرية الاقتصادية تشجّع على المبادرة والإبداع والتطوير والتشاركية تضمن عدم احتكار الثروة والمشاريع الاقتصادية من طرف رجال الأعمال والمستثمرين أمّا اللامركزية فهي توفّّر التسهيلات وتقلل ارتباط المؤسسات الاقتصادية بالمركز مما يوفر مرونة في الإنتاج والتوزيع (الداخلي والخارجي).

ويتمثل دور الدولة في:

◄ الرقابة الصارمة وحماية المنافسة ومنع الاحتكار في السوق عبر مؤسسات وقوانين واضحة ودقيقة.

◄ حماية الفئات الفقيرة بتمتّعها بنظام حماية اجتماعية يضمن كرامتها ويحقق لها الحد الأدنى من العيش الكريــــم مع تمكينهـــا من نسبة معيّنة من الثروة الوطنية لتشجيعها على إقامة مشاريع صغيرة تحقق لها الاكتفاء الذاتي .

 ◄ تنمية الهياكل الأساسية والمرافق العامة والمشروعات الإستراتيجية خاصة التى يحجم القطاع الخاص عن الدخول فيها نتيجة كبر حجم التمويل المطلوب لها أو ارتفاع درجة مخاطرهـــــا أو تدنى المكاسب المتوقعة منهـــــا سواء على المستــــوى القريب أو البعيد. 

◄  تشجيع الاستثمار وإنشاء المؤسسات الاقتصادية التي تقوم على مبدأ التشاركية سواء بين القطاع العام والخاص أو داخل القطاع الخاص نفسه والذي يتمثّل في تشريك العمّال في رأس مال المؤسسة بنسب معيّنة حسب سلّم زمني تحفّز فيهم روح العمل والمبادرة وتجعلهم يشعرون بالمسؤولية تجاه مؤسستهم. ( لا نقصد هنا بالاقتصاد التشاركــــي ما نظّر لــــه الاقتصادي الأمريكـــي ”روبن هانيل“ )

◄  الإحاطة بأصحاب الشهائد العليا بتشجيعهم على تكوين مؤسسات صغرى ومتوسطة والإحاطة بها منذ انطلاقها إلى أن تصبح قادرة على المنافسة وذلك عبر محاضن المؤسسات. 

 

 (ب) أسس الرؤية الاقتصادية

 

تقوم الرؤية الاقتصادية التي نقترحها على مجموعة من الأسس والمبادئ الحاكمة للسياسات الاقتصادية في المجالات المختلفة وتتمثل في:

(1)اعتبار المواطن التونسي محور عملية التنمية الاقتصاديــــة، فهو الذي يقوم بمتطلباتها وهو الذي يجني ثمارها. وبالتالي اعتماد التنمية البشرية عنصرا أساسيا في  التخطيط لتنمية اقتصادية ناجحة

(2) اعتبار الموارد العامة حق لجميع المواطنيــــن وهم ســـــواء في الاستفادة منها مع التفكير في حقّ الأجيال القادمة في تلك الموارد .

(2)إيلاء الجانب القيمي والأخلاقي مكانته الحقيقية بكونه أمرا ضروريا ولازما لعملية التنمية الاقتصادية فقيم العمل والإتقان والابتكار والتضامن ضمان رئيسي يحفظ تماسك المجتمع ويشكل المناخ الملائم للتنمية الاقتصادية ونجاح المؤسسات.

(3) اعتبار مدى استعداد المواطن لتوظيف ثروته في ربوع الوطن في مشاريع منتجة، مع ضمان حرية الملكية معيارا للمواطنة والوطنية الحقيقية.

(4) اعتماد العلوم الاقتصادية ومبادئ اقتصاد المعرفة لتأسيس الاقتصاد الوطني مع تشجيع البحث العلمي في هذا المجال.

 (5) اعتبار الحرية الاقتصادية والمنافسة الشريفة أساس نجاح العملية الاقتصادية وهو ما يعطي للقطاع الخــــاص دورًا محوريًـــا في الحياة الاقتصادية التونسية.

(6)اعتماد الصيغة التشاركية كصيغة جديدة للتعاون بين القطاعات الاقتصادية، خاصة بين القطاع العام والخاص، في تنفيذ وبناء وإدارة مشاريع ذات أهمية وطنية، خاصة في مجال البنية التحتية، أو تلك المتصلة بالمرافق العامة الرئيسية باعتبار أن هذه الصيغة تقطع مع نظام الخصخصة الكاملة وتحقق مجموعة من الأهداف كتوفير وتطوير المرافق والخدمات والبنية الأساسية بكفاءة أكبر وتكلفة أقل والاستفادة من إمكانية القطاع الخاص التمويلية والتنظيمية وتخفيض الأعباء التمويلية عن الموازنة العامة للدولة .بالإضافة إلى رفع مستوى المعيشة من خلال جذب المزيد من الاستثمارات وخلق فرص عمل جديدة، وبالتالي المساهمـــــة في تخفيض معدلات البطالة والفقر.

غير أن اعتماد الصيغة التشاركية يتطلب أي إيجاد البنية التنظيمية والتشريعية والقانونية المناسبة لها، بشكل يخدم الانطلاقة الاقتصادية المجتمعية وتستفيد منها جميع الأطراف المتشاركة.

  (7)تقديم المصلحة العامة دون الإضرار بحقوق الفرد وحريته الاقتصادية.

(8) اعتماد مبدأ التوازن في تخطيط وتنفيذ المشاريع الاقتصادية بين الجهات المختلفة مع التركيز على الولايات الداخلية والمحرومة والسعي التدريجي نحو التخفيف من الفوارق بين الجهات

(9) اعتماد نظام اللامركزية الاقتصاديـــــة والماليــــة والإدارية على مستوى الجماعات المحلية و مؤسسات الدولة كأسلوب لتقليص الصعوبات في وجه الاستثمار خاصة من الناحية الإدارية. 

(10) اعتماد نظام جبائيّ محكم يعتمــــــــد مبدأ العدالــــة ويهدف إلى  ضمان حق الدولة أو الجماعات المحليــــة مقابل الخدمــــات التي توفرها للأفراد والمؤسسات. 

(11) اعتماد مبدأ التنوع الاقتصادي لمصادر توليد الدخل الوطني وضمان عدم ارتباط الاقتصاد الوطني باقتصاديات الدول الكبرى حتى يصبح قادرًاً على مواجهة التحديات الاقتصادية الدولية وأزمات الاقتصاد العالمي. فالتركيز على السياحة مثلا كمصدر أساسي للدخل الوطني يجعل الاقتصاد رهينة للاستقرار والوضع العالمي والكل يستشعر الصعوبات التي يمرّ بها الاقتصاد الحالي من جراء عدم نجاح الموسم السياحي والصعوبات التي تعصف بهذا القطاع.

(12)العمل وفق إستراتيجية الاعتماد على الذات في توفير السلع الإستراتيجية وخاصّة الفلاحية والمتعلّقة بالغذاء والدواء.

(13) الاعتناء بالجانب القانوني وبناء المؤسسات وتنظيم معاملات الأفراد اقتصاديا بوضوح هو السبيل نحو مواجهة المشكلات الاقتصادية الحالية وهو الضامن لتحقيق أهداف التنمية وحماية المجتمع.

(14) اعتبار مكافحة الفساد، وتطبيق المساءلة والمحاسبة، أساس من أسس بناء اقتصاد فاعل وقوي. ويتمّ ذلك عبر تفعيل دور المؤسسات الرقابية ومنحها الاستقلال اللازم لكي تؤدي دورها بشكل حقيقي وذلك بإلغاء تبعيتها للسلطة التنفيذية ، ونشر تقاريرها بحرية وشفافية تامة وتخويلها سلطة إحالة المخالفات للقضاء دون إذن من أى جهة، وتأكيد الاستقلال التام والحصانة المطلقة للسلطة القضائية دون إقصاء أو احتواء حتى تتمكـــن من تأديــــة دورها فى تثبيت سيادة القانون واحترام أحكام القضاء.

 (15)إعادة الاعتبار لدور الاقتصـــــاد المجتمعــــــي التضامنــــي في المنظومة الاقتصادية عن طريق إطلاق حرية وتكوين الجمعيات التضامنية والجمعيات الخيريّة والتعاضديّات وصناديق الزكاة  وتسهيل مشاركتها فى الحياة الاقتصادية خاصّة في المناطق الريفيّة والمحرومة بما يؤدى إلى تدعيم المشاركة المجتمعية ويشيع مناخ التكافل والرحمة فى المجتمع.

(16) اعتماد عقد اجتماعي توافقي بين مؤسسات رجال الأعمــــال و اتحادات العمّال يحدد حقوق وواجبات كل طرف نحو الآخر ويضمن مصالح أصحاب المؤسسات والعمّال  

 (17)اعتبار التعاون الاقتصادي مع دول المغرب العربي وبقية الدول العربية والإسلامية والافريقية، بعدًا استراتيجيُا في بناء سياستها الاقتصادية الخارجية مع دعم التعاون مع الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط ( الاتحاد الأوروبي ) والتفتح على جميع الأسواق الأخرى كأسواق أمريكا الجنوبية و دول الشرق الأدنى.

 (18)رفض سياسات ”المعونة المشروطة“ والتوجه للاعتمـــاد على الذات والمشاركة الاقتصادية كبديل لها.

 

هذه أفكار أوّلية نطرحها للتفاعل والنقاش لعلّها تساهم في بلورة رؤية اقتصادية تتبناها القوى الوطنية الفاعلة لتغيّر واقع البلاد وتوصل تونس إلى شواطـــئ الأمــــان وتحقق لهذا الشعب مطمحه في العيش الكريم وتضمن له الاحترام بين الأمم.