الأولى

بقلم
فيصل العش
الكورونا ونظام التفاهة
 (أ)
كشفت «الكورونا» أزمة حقيقيّة لدى إنسان القرن الواحد والعشرين وعرّت زيف الحضارة الغربيّة التي صدّعت رؤوس البشر بمبادئها السّامية المرتكزة على حقوق الإنسان وحرّيته وحرّكت الجيوش من أجل عولمة ثقافتها باعتبارها الثّقافة الأنسب والأفضل للإنسانيّة جمعاء. إنّ ما فعله الفيروس هو فضح النّظام الرّأسمالي النّيوليبرالي المتوحّش الذي طبع الغرب وإبراز ثغراته ومدى عجزه عن القيام بوظائفه وإخلاله بمتطلبات الرّفاه الاجتماعي الذي وعد به. وما حصل خلال الشّهرين الماضيين على مستوى العالم كلّه يدفعنا للتّساؤل عن سبب تفشّي الفيروس بشكل كبير في الصّين وأوروبّا وأمريكا، فيقتل الآلاف ويفرض على الملايين البقاء سجناء بيوتهم، في حين أنّ الخسائر البشريّة في دول تسمّى قبل الأزمة دولا نامية أو متخلّفة أو فقيرة كانت ضئيلة مقارنة بما حدث في الدّول الأوروبيّة والولايات المتحدة الأمريكيّة برغم ما تملك هذه الأخيرة من معدّات وبنى تحتيّة صحيّة ضخمة ومتطوّرة.
أحد جوانب الإجابة على هذا التّساؤل يكمن في طبيعة النّظام الثّقافي والسّياسي في تلك الدّول الذي رعته وطوّرته النّيوليبراليّة العالميّة وتسعى لفرضه على كلّ دول العالم وشعوبها.
(ب)
 يقوم النّظام الرّأسمالي النّيوليبرالي على مبدأ الرّبح دون غيره باعتماد مختلف الوسائل بما فيها استغلال الإنسان وتطويعه باعتباره أداتي إنتاج واستهلاك في نفس الوقت. لذا سعى النّيوليبراليّون إلى بسط نظام التّفاهة وتعميم الرّداءة في مختلف جوانب الحياة بما فيها السّياسيّة وسوق الشّغل والإعلام والفنّ، معتمدين منهجا يرتكز على الشّعبويّة والسّطحيّة والبهرجة والابتذال وبالتّالي عدم إعطاء أهمّية لقيم الإنسان وتنميته الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثّقافيّة. وقد نجح النّيوليبراليّون في تفكيك منظومة القيم وتهميش الكفاءات مقابل نشر ثقافة استهلاكيّة جعلت من السّلبيّة والتّفاهة أسلوب عيش لدى أغلب النّاس، ثقافة بلا عمق إنساني لا تسعى إلى بناء الإنسان المواطن وإنّما مستهلك بلا وعي.
لقد نجحت النّيوليبراليّة المتوحّشة في مسخ مجتمعات عديدة في العالم بما فيها مجتمعات أوروبّا وأمريكا، اقتصاديّاً وثقافيّاً وروحيّاً والإبقاء عليها كقطعان من جيوش عمليّة الانتاج القاسية والمهلكة نفسيّاً وإنسانيّاً، وجعل أبنائها عبيداً للاستهلاك يلهثون بلا انقطاع من أجل إشباع الغرائز.
النتيجة كانت، سواء في الدّول المتقدّمة أو في غيرها من الدّول، أن استساغ النّاس التّفاهات لأنّها تحقّق شهواتهم ورغباتهم وتعطّل الحواس وتخدّر النّفس وتفصلها عن واقع المسؤوليّة والإحساس بالذّات. فالإنسان الحالي يريد حياة الرّفاه بلا جهد ولا تعب ولم تعد لديه الرّغبة في التّأمل والتّفكير ولا وقت له لذلك، هو يبحث عن حلّ يريحه حتّى وإن كان صوريّا. لم يعد يرغب في التّحليل العميق ولا في آراء الفلاسفة والمفكّرين.  لذلك سيطر التّافهون على مفاصل الدّول واحتلّوا الفضاء العمومي بخطاب تبريري يفتقد إلى المنطق العلمي والعقلي، وكلام مجرّد من أيّة طاقة اجتماعيّة، أو قوّة أخلاقيّة، من دون تقديم حلول حقيقيّة لمعالجة مشاغل النّاس وأزماتهم، مدعومون بآلة إعلاميّة رهيبة دأبها تهميش الفكر باستبعاد المفكّرين والمثقّفين وفسح المجال أمام الخبراء والتكنوقراط لتدبير الأزمات دون حلّها وتقديم الحلول الظرفيّة والعرضيّة. 
(ت)  
الخبراء هم منتوج للجامعات والمؤسّسات الأكاديميّة التي حوّلها نظام التّفاهة إلى مؤسّسات ربحيّة لتصبح هي الأخرى حلقة في سلسلة صنع التّفاهة ودعمها وتجذيرها في المجتمع. غابت في المؤسّسات الجامعيّة في الأنظمة النيوليبراليّة فكرة الإحاطة العلميّة، وقيم التّفكير العلمي المجرّد وأصبحت المعرفة سلعة، وتحوّلت الكثير من الجامعات من منتج للمعرفة إلى تاجر فيها، خاصّة مع ارتفاع طلب الحصول على الدّرجات العلميّة من ماجستير ودكتوراه،  فصارت التّفاهة خيارا مؤسّسيّا. 
من جهة ثانية، لم يعد الطّالب مستهلكا للتّدريس بغية الحصول على شهادة جامعيّة، بل صار هو نفسه سلعة. فالجامعة تبيع ما تصنعه من طلبتها كخبراء إلى زبائنها الجدد، وتحديدا إلى الشّركات وغيرها من المؤسّسات المموّلة لها. «فبعد أن مضت الجامعات على طريق التخصّص المبالغ في دقّته، صارت مموّلة من قبل الشّركات التّجاريّة، التي تقدّم منحا تُملي من خلالها إرادتها على الجامعة، فيعمل بذلك كلّ من الأساتذة والطّلبة على الموضوعات والمشروعات التي فرضتها تلك الشّركات، لينتهي الأمر بهذه المؤسّسات الأكاديميّة العليا إلى إنتاج «الخبراء» ذوي التّخصّص الضيّق الذين يخدمون السّوق، لا العلماء ذوي الأفق الواسع القادرين على مواجهة المشاكل الحياتيّة للمجتمع»(1). هؤلاء الخبراء والتكنوقراط يمثّلون بشكل أو بآخر مصالح الشّركات التجاريّة أو الصّناعيّة التي تموّلهم وتدفع لهم مقابل بحوثهم وبالتّالي فهم ينتجون الأفكار مقابل الحصول على منافع مادّية، وعلاقتهم بالعلم قائمة على المصلحة والمنفعة، أمّا العالم والمفكّر فهو حالة تحرّكها دوافع أخلاقيّة ونضاليّة، تقوم بتحليل وتفكيك واقع المجتمع والبحث في كيفيّة إعادة بنائه على أسس صلبة لا تأخذ بعين الاعتبار المرابيح المادّية لرأس المال وإنّما تجعل من الإنسان  القيمة الحقيقيّة وجوهر كلّ المعادلات التي تبنى بها الدّول والحضارات وهؤلاء يتمّ محاصرتهم بمختلف الوسائل حتّى لا يؤثّرون في المجتمعات.
(ث)
 ولأنّنا في زمن «الميديا» حيث لا سلطة إلاّ لمن يحتكر تكنلوجيّات الإعلام والتّواصل ويُصَرِّفُ مضامينها وفق أجندته لا غير، سعى النّظام الرّأسمالي والنّيوليبرالي المتوحّش عبر وسائل الإعلام المختلفة والوسائط التكنولوجيّة الحديثة إلى تسطيح كلّ ما هو عميق وتمييع كلّ ما هو جاد، وتغيير أذواق النّاس وتعطيل عقولهم مقابل تهييج غرائزهم وشهواتهم وترسيخ التّفاهة في النفوس، ففُرضت نماذج معيّنة من الفنون ورُفعت قيمة أشباه المواهب في كلّ المجالات، فأصبح فنّ الغرائز هو المهيمن، وكثر متابعوه وزاد أصحابه ثراءً وشهرة، بينما تحوّلت الفنون الرّاقية والأدب الهادف والفكر والعلم إلى بضاعة كاسدة، انصرف عنها النّاس، وتدهورت حالة أصحابها مادّيا ومعنوّيا.  
أدّى انخفاض المعايير وتغييب منظومات المبادئ الرّفيعة والمفاهيم العليا إلى تسهيل صعود البسطاء فكريّاً وأخلاقيّاً لمفاصل القرار في الحكومات والإدارة والتّجارة والأكاديميا في سابقة لم تشهدها أي حقبة حضاريّة من قبل. فحين تغيب ثقافة المبادئ، يفسد الذّوق العام وتتدنّى الأخلاق في المجتمع، فيصبح الأقزام في أحجام العمالقة، ويخفت صوت العُقلاء ويعلو صوت الجُهلاء وتسود السّطحية، ومن هنا تتبدّل المعايير وتتغيّر المفاهيم عند النّاس؛ فيضعون الصّغير مكان الكبير، والجاهل مكان العالم، ويقدّمون التّفاهة على القيمة. هكذا خطّطت النيوليبراليّة المتوحّشة ونجحت في خطّتها.
تجد النّاس في أوروبا وفي غيرها من دول العالم يقضون أغلب ساعات أعمارهم في جدال حول أجمل قميص وأفضل حذاء وآخر صيحات الموضة وأفضل لاعب كرة ويتابعون بالملايين أخبار أشباه الفنّانين والرّياضيين على الواتساب والإنستجرام. وتقام المسابقات الخاصّة بأطول قُبلة وأعظم كسكاس وأجمل فتاة، وتقام السهرات التّلفزيّة لمناقشة ذلك فيجتمع كبار الخبراء للتّناظر حول أجمل النهود الخ... فلا عجب أن يملك شابّ رياضي فاشل في الدّراسة، أو مغنية رشيقة القوام ما لا يمكن أن يملك جزءا منه كلّ مثقفي ومفكّري المجتمع طيلة حياة عملهم وكدّهم من المال.
(ج)
ولم تسلم السّياسة من داء التّفاهة فقد تمّ إفراغها من مفاهيمها الكبرى وركائزها الأساسيّة، كالنّضال الوطني والعمل للصّالح العام، وأصبحت محكومة بالنّفع الشخصيّ للسّياسي والقوى التي تقف وراءه من رؤوس أموال وشركات كبرى ولوبيّات اقتصاديّة، ليتحوّل اهتمام السّاسة من الصّالح العام والقيم الانسانيّة النبيلة إلى التّعامل مع مؤسّسات الدّولة باعتبارها مشروعا تجاريّا مربحا لا يخضع لأيّة منظومات أخلاقيّة أو مثل وقيم عليا.
 وقد تمكّنت التفاهة من اختراق المشهد السّياسي العام والوصول إلى الحكم في أوروبا والولايات المتّحدة الامريكيّة والدّول النّامية، فتحولت الفضاءات السّياسية إلى خيمة سرك كبيرة ينشّطها التّافهون. إنّهم يزحفون كلّ يوم نحو المزيد من المواقع مستغلّين الدّيمقراطيّة والشّعبويّة والأزمات الاقتصاديّة الخانقة وتدهور أوضاع النّاس الاجتماعيّة ممّا حدى بأستاذ الفسلفة في جامعة كيبيك الكندية، «ألان دونو» وهو من المناهضين للرّأسماليّة المتوحّشة أن يصرخ في العالم عبر كتابه «نظام التفاهة» قائلا : «لقد تبوّأ  التّافهون موقع السّلطة»(2) 
ولقد كان وصول «دونالد ترامب» إلى سُدة الحكم في الولايات المتحدة، إعلانا رسميّا لانتصار «نظام التّفاهة»، فالرّداءة والانحطاط صارا معيارَي الإدارة الأميركيّة(3) لتزيد في تدعيم انهيار منظومات القيم وانتهاك القانون الدّولي. ولم تسلم أوروبا من ذلك حيث بدأت تُظهر أعراض الإصابة بـ «مرض» التّفاهة والشّعبوية، بدليل ما أنتجته الانتخابات من صعود للتّيارات الشّعبويّة في عدد من الدّول، كإيطاليا وبولونيا والمجر والسّويد وفرنسا وبريطانيا، وما أسفرت عنه انتخابات البرلمان الأوروبي أخيراً. حيث بات تيّار التفاهة من ثوابت المعادلات السّياسية في القارّة العجوز (4)
(ح) 
لم يكن من الممكن أن يكون القرار السّياسي في العديد من الدّول الأوروبيّة والولايات المتّحدة الأمريكيّة وبعض الدّول المرتبطة بها قرارا حكيما في معالجة انتشار وباء الكورونا، فكانت النّتيجة عشرات الآلاف من الموتى، لأنّ اتخاذ قرار بالحجر الصحّي الشّامل لم يكن مقبولا من طرف أصحاب القرار الحقيقيّين (الشّركات التّجارية الكبرى واللّوبيّات الاقتصاديّة...) ولم يتمّ اتّخاذه إلاّ بعد الارتفاع المذهل لعدد الوفيّــات في دول مثل الولايات المتّحدة الأمريكيّة وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا.
لقد كانت مقاربة هذه الدّول تجاه أزمة فيروس كورونا أقرب للفشل منها للنّجاح. وهي مقاربات لم تأت من فراغ وإنّما هي نتاج آراء «الخبراء» ومواقف السّياسيين الذين لا يفكّرون إلاّ ضمن مصالح من يموّلهم من شركات اقتصاديّة وتجاريّة كبرى. وإذا كان النّظر إلى فشل مقاربة «مناعة القطيع» التي تبناها كلّ من «ترمب» في الولايات المتّحدة و«جونسون» في بريطانيا، تكفي للتّدليل على فشل هذه السّياسات التي أنتجها نظام التّفاهة، فإنّ البحث في التّجربة الايطاليّة والإسبانيّة والفرنسيّة تكاد تكون صادمة. ففي سبيل المحافظة على الاقتصاد والسّياحة والأنشطة التي تدرّ الأموال الطّائلة كمقابلات كرة القدم «champions league» تأخّر السياسيّون في فرض إغلاق البلاد والحجر الصحّي العام.  
أمّا على مستوى العلاج، فقد سعت بعض الشّركات الكبرى إلى احتكار الدّواء حتّى قبل اكتشافه ومحاصرة العلماء الذين دعوا إلى اعتماد بعض الأدوية الموجودة بكثرة وبأسعار مقبولة لدى عامّة النّاس من أمثال البروفيسور الفرنسي «ديدييه راوول».
(خ) 
لم يكن أحد يصدّق أنّ نظام التفاهة الذي بنى أركانه النيوليبراليّون هو النظام الذي يحكم الولايات المتّحدة الأمريكيّة وأغلب الدّول الغربيّة لولا ما كشفته أفعال الكورونا في مجتمعات هذه الدّول. والحال في الدّول العربيّة من حيث هيمنة التفاهة لا يختلف كثيرا عن حال الدّول الغربيّة -حتّى وإن كانت أضرار الكورونا أقلّ بكثير فيها - مادامت مجتمعاتنا تابعة سياسيّا واقتصاديّا وثقافيّا لتلك الدّول.
 وإذا كانت التّفاهة قد هيمنت على جوانب الحياة وشملت مجالات الاقتصاد والمال والأعمال والعلوم والثّقافة والقانون والسّياسة والإعلام وشبكات التّواصل، فكيف يتسنّى لنا استغلال الفرصة التي وفّرتها لنا «الكورونا» لتعديل المسار وإعادة الاعتبار إلى الأفكار وقدرة الإنسان على بناء حياة أفضل يكون فيها هو المحور والهدف في آن؟
الهوامش
(1) الدكتورة مشاعل عبد العزيز الهاجري  - في تقديم كتاب «نظام التفاهة» لأستاذ الفلسفة والعلوم السياسيّة بجامعة كابيك «آلان دونو» - دار سؤال بيروت - الطبعة الأولى 2020 - صفحة37
 (2)  «نظام التفاهة»  - آلان دونو - دار سؤال بيروت - الطّبعة الأولى  2020 - صفحة 69
(3) تظهر هيمنة التفاهة في النّظام العالمي اليوم مثلاً في زيادة شعبية ترامب مع كلّ إجراء سياسي أو «تويتة» تافهة يقوم بها. تكشف الإستطلاعات الأخيرة بتاريخ 17 ديسمبر2019 عن تزايد التّأييد لترامب رغم إجراءات العزل التي كانت تهدّد رئاسته. ويُفسّر دونو هذه الظّاهرة إلى حدّ بعيد بظهور «خبراء» فارغين قادرين على توجيه الرأي العام عبر خطب تافهة لا تحفظ للخبراء ومن يدعمونهم إلّا بقاءهم في السّلطة. 
(4) ومن الأمثلة على ذلك حزب الاستقلال البريطاني، وحزب الجبهة الوطنية الفرنسي، وحزب البديل الألماني، وحزب بوديموس الإسباني، وحزب الحرّية النّمساوي، وحركة «النّجوم الخمس» الإيطاليّة والاتحاد المدني المجري و حزب العدالة والقانون البولاندي.