شخصيات الإصلاح

بقلم
التحرير الإصلاح
جيفري لانغ
 «الإسلام هو الخضوع لإرادة اللّه، وطريق يقود إلى ارتقاء لا حدود له، وإلى درجات لا حدود لها من السّلام والطّمأنينة .. إنّه المحرّك للقدرات الإنسانيّة جميعها، إنّه التزام طوعيّ للجسد والعقل والقلب والرّوح» هكذا يرى البروفيسور «جيفري لانغ» عالم الرياضيّات الأمريكي الإسلام. وهكذا اقتنع به. 
في بداية كلّ محاضراته عن الدّين الذي اعتنقه وملأ قلبه بالطّمأنينة والسّعادة، كان «لانغ» يردّد هذه الجملة الشّهيرة «أنا لم أترك المسيحيّة من أجل الدّخول في الإسلام، بل تركت الإلحاد لأصبح مسلمًا».
ولد «جيفري لانغ» يوم 30 جانفي 1954 بمدينة «برديجبورت» ترعرع في عائلة كاثوليكيّة محافظة وتعلّم ودرس خلال ثماني عشرة سنة في مدارس كاثوليكيّة خاصّة. بدأ «لانغ» في جعل كلّ شيء حوله قابل للسّؤال، ليخفّف من تقديسه لكلّ شيء كان يقدّسه من قبل، ليكون الدّين بالنّسبة إليه علامة استفهام كبيرة لا يستطيع فكّ لغزها والوصول إلى إجابات مرضيّة تكفي بحثه وترضي سؤاله، حيث فقد الثّقة في السّياسة والمجتمع والنّظام، ليقرّر أن يكون ملحدًا تمامًا عندما بلغ الثّامنة عشر. وفي الجامعة درس الفلسفة ثمّ نال شهادة الدّكتوراه من جامعة باردو سنة 1981 بعد إنجازه لرسالة عن سطح زاريسكي (Zariski surface)تحت توجيهات «ويليام هاينزر» و«بايتور بلاس».
«جيفري لانغ» هو أحد أساتذة الرّياضيّات في جامعة كنساس، واحدة من أهم الجامعات في الولايات المتّحدة الأمريكيّة وأكبرها، بدأ تعرّفه على الإسلام عن طريق الطّلاب المسلمين في الجامعة، فكان معروفًا أنّه ملحد من نقاشاته مع الطّلاب عن الدّين، وبخاصّة المسلمين منهم، ليجد في يوم ما على مكتبه نسخة من القرآن الكريم مترجمة إلى الإنجليزيّة.
قرّر «لانغ» قراءة ذلك الكتاب لكسر الملل، فهو يعرف أنّه سيملّ بعد قراءة بضع من صفحاته، بل رأى أنّها وسيلة جيّدة لجلب النّعاس والنّوم مبكّرًا، فهو لم يكن يتوقّع الكثير ليجده في القرآن الكريم، إلاّ أنّ النّتيجة كانت عكس ما كان يتوقّعه تمامًا.
أوّل ما جلب انتباه «جيفري» مخاطبة الإله المباشرة للإنسانيّة من خلال الكتاب، فهو أسلوب لم يتعوّد عليه من قبل في قراءة الدّين، فطالما تعوّد على قراءة الدّين من وجهة نظر التّاريخ، أو من وجهة نظر السّير الذّاتيّة للأنبياء والقدّيسين، كما كان متصوّرًا أنّه لا يحدث حوار بين الرّب وعبده إلاّ من خلال وسيط، سواء كان الوسيط نبيّا أو رسولا أو قدّيسا في الكنيسة، أو من خلال وليّ الأمر من أحد الصّالحين، لكنّه وجد في القرآن خطابًا مباشرًا من الإله للعبد بدون أيّ وسيط، وهو ما جعله يعتقد بأنّ مؤلف هذا الكتاب عبقريّ، وإنّه بلا شكّ يتّبع أسلوبًا ساحرًا في جذب القارئ.
اعتبر «جيفري» أسلوب الكتابة أسلوبًا فريدًا، فلقد اعتمد القرآن كليًّا على أسلوب الحوار، فتسلسل الآيات يدفعك للتّعجب والسّؤال، ومن ثمّ تجد الإجابة بعد أسطر قليلة من خلال الحوار، ليكتشف لأوّل مرّة سبب وجوده على الأرض من خلال حوار اللّه مع الملائكة والشّيطان حول جعله آدم خليفة في الأرض، فكلّ ما كان يعرفه «جيفري» من خلال المسيحيّة أن وجود الإنسان على الأرض هو بمثابة عقاب له للتّطهير من آثامه التي وُلد محمّلًا بها، ليجد العكس تمامًا في القرآن الكريم. لقد خلق الله آدم ليكون خليفة في الأرض، ويؤدّي مهمّة نبيلة خُلق من أجلها.
اعتبر «جيفري» ذلك الحوار بمثابة منارة له للتّعرف على الإسلام، حيث كانت أسئلة الملائكة للّه في هذا الحوار هي نفس أسئلته التي دفعته للإلحاد، لماذا خلق اللّه البشر على الأرض؟ هل لنشر الفساد، وإراقة الدّماء؟ لماذا لم يكلّف الملائكة بالخلافة وهي مخلوقات مسالمة، تمجّده وتعبده ولن تكون بأي درجة أكثر إجرامية ممّا قد يكون عليه الإنسان؟ وكان الجواب واضحا صريحا من خلال ذلك الحوار.
يقول «جيفري» في كتابه «حتّى الملائكة تسأل»:«القرآن هذا الكتاب الكريم أسرني بقوّة، وتملّك قلبي، وجعلني أستسلم للّه، فالقرآن يدفع قارئه إلى اللّحظة القصوى، حيث يتبدّى للقارئ أنّه يقف بمفرده أمام خالقه». ويتحدّث عن القرآن الكريم في كتابه «الصّراع من أجل الإيمان» فيقول: «وإذا ما اتخذت القرآن بجدّيّة فإنّه لا يمكنك قراءته ببساطة، فهو يحمل عليك، وكأنّ له حقوقاً عليك ! وهو يجادلك، وينتقدك ويُخجلك ويتحدّاك … لقد كنت على الطّرف الآخر، وبدا واضحاً أنّ مُنزل القرآن كان يعرفني أكثر ممّا أعرف نفسي … لقد كان القرآن يسبقني دوماً في تفكيري، وكان يخاطب تساؤلاتي … وفي كلّ ليلة كنت أضع أسئلتي واعتراضاتي، ولكنّني كنت أكتشف الإجابة في اليوم التّالي … لقد قابلت نفسي وجهاً لوجه في صفحات القرآن..».
توطّدت علاقة «جيفري» بالقرآن الكريم إلى أن قرّر الدّخول في الإسلام، ويصف لحظة نطقه للشّهادتين  بأنّها الأصعب في حياته لكنّها كانت الأكثر قوّة وتحرّراً. يقول وهو يصف كلمات الشّهادتين«لقد كانت هذه الكلمات كقطرات الماء الصّافي تنحدر في الحلق المحترق لرجل قارب الموت من الظمأ».
بعد أن أسلم، أجهد «جيفري» نفسه في حضور الصّلوات كي يسمع صوت القراءة، على الرّغم من أنّه كان يجهل العربيّة، ولما سُئل عن ذلك أجاب : «لماذا يسكن الطّفل الرّضيع ويرتاح لصوت أمّه؟ أتمنّى أن أعيش تحت حماية ذلك الصّوت إلى الأبد».
«جيفري لانغ» يعشق الصّلاة ويعتبرها المقياس الرّئيس اليومي لدرجة خضوع المؤمن لربّه، وفيها يقول : «ويا لها من مشاعر رائعة الجمال، فعندما تسجد بثبات على الأرض تشعر فجأة كأنّك رُفعت إلى الجنّة، تتنفّس من هوائها، وتشتمُّ تربتها، وتستنشق شذا عبيرها، وتشعر وكأنّك توشك أن ترفع عن الأرض، وتوضع بين ذراعي الحبّ الأسمى والأعظم».
وعن صلاة الفجر يقول: «هي من أكثر العبادات إثارة، فثمّة دافع ما في النّهوض فجراً – بينما الجميع نائمون – لتسمع موسيقا القرآن تملأ سكون اللّيل، فتشعر وكأنّك تغادر هذا العالم وتسافر مع الملائكة لتمجّد اللّه عند الفجر».