أسماء الله الحسنى

بقلم
الهادي بريك
الوكيل ـ الكفيل
 الوكيل   ‏
سمّى سبحانه نفسه ( وكيلا ) في كتابه العزيز زهاء أربع عشرة مرّة. أصل هذا الإسم هو فعل (وكل) الذي هو ثلاثي مجرّد معلول وبتعبير علماء الصّرف : مثال. عدا أنّ هذا الفعل بصيغته المجرّدة عزيز الإستخدام ولذا يستعاض عنه في العادة بزياداته ومنها ( وكّل ) و( أوكل ) وتوكّل ) و غيرها. وكل ـ يكل ـ وكلا : أعاد وأرجع وفاء بالشّيء أو الأمر إلى أصله أو صاحبه. وكّل يوكّل توكيلا : أي أناب غيره وفوضه في تصريف أمر أو تدبير شيء. ومنها التّوكيل في الزّواج أو إبرام أي عقد عدا العقد الأعظم أي عقد الإيمان والتّوحيد بين اللّه وعبده فلا تنفع فيه وكالة ولا توكيل. أوكل يوكل إيكالا : أي كلّف غيره بأمر أو شيء. توكّل يتوكّل توكّلا : أي قام هو بنفسه وبمحض إرادته وكامل وعيه بإحالة نفسه وتدبيره إلى غيره لما له فيه من ثقة أنّه أقدر منه أو أعظم. ومنه توكّل المؤمن على ربّه وحده دون سواه. نفيد من هذا الجذر الثّلاثي أنّه يعني إحالة الأمر إلى الآخر. ويعلم ذلك بالصّوت من جهة وبقيادة حرف الواو المعلول من جهة أخرى لهذا الجذر. إذ أنّ الحرف بظلّ صوته يحدّد المعنى تقدّما أو تأخّرا وتوسّطا إلى حدّ كبير مع عوامل أخرى إذ اللّسان العربي علم صوتي وأمّته التي صنعته أمّة أميّة بالكامل.
ما هو إسم الفاعل ؟
إسم ( الوكيل ) كما هو معلوم وكما جرت عليه أكثر أسمائه سبحانه على وزن ( فعيل) أي صيغة مبالغة. أصل الفعل كما مرّ بنا هو ثلاثيه المجرد المثال ( وكل). ومن فعل ( وكل ) يكون إسم الفاعل : واكلا وإسم المفعول موكولا. ولدقّة فعل الوكل إذ هو في الأصل عمل عقدي فكري من النّوع الثّقيل فإنّه إستعيض في إسم الفاعل عن ( واكل )  بمزيده ( المتوكل ) أو ( الموكل ) وإستعيض في إسم المفعول ـ وهو المفعول عليه إذ التّوكل يكون على جهة ما ـ عن ( موكول ) لعدم مناسبتها للمعنى المقصود بهذا الإسم الإلهي أي الوكيل. ذلك أنّ المتوكّل عليه ثقيلة ومركبة ومثلها الموكل إليه. ثمّ إنّ إسم الفاعل من هذا المعنى ليس مهمّا جدّا إذ العبرة بالمتوكّل عليه أي بمن إتخذه الضّعيف بأيّ صورة من صور الضّعف ركنا شديدا يلجأ إليه ويفرّ إليه. ومن ذا إختار سبحانه أن يكون إسمه الوكيل فهو من يستجمع كلّ أسباب الوكالة وعن جدارة وإستحقاق وأهلية. وكذلك لأنّ كلّ شيء ممّن يعبده طوعا أو كرها هو إليه فقير فهو وكيله بصورة أو بأخرى. ومن ذا برز إسم المفعول أو إسم المفعول عليه وإن كان ذلك لا يليق باللّه سبحانه وكان هو وحده سبحانه الوكيل عن كلّ مخلوقاته في التّدبير والحياة وفي كلّ شيء.
 الوكالة فعل عقدي بإمتياز شديد
إمتلأ الكتاب العزيز بأمرين : أوّلهما أنّ الوكيل الحقّ الذي يكفي عبده ويدبّر أمره ويلجأ إليه طمعا وخوفا هو اللّه وحده سبحانه إذ أنّ ذلك هو أمّ العبادة وأثرا من آثار اليقين والحبّ والثّقة. ثانيهما هو أنّ فعل التّوكّل فعل عقدي بإمتياز شديد بل هو أمّ الإعتقاد ودليله ولذلك قال سبحانه «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ»(1) كما أمر بالتّوكل عليه مرّات في الكتاب العزيز منها قوله سبحانه «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ»(2)ومنها قوله سبحانه «وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ»(3) و«فَاعْبُدهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ»(4) وغير ذلك لا يحصى إذ أن التوكل على الوكيل الحق من أولى أمارات الإيمان الصحيح وأولى علامات الإعتقاد الراسخ. ولا عبرة بإعتقاد لا يتوكل فيه المعتقد على ربه توكلا كليّا ولا معنى لإيمان لا يصحبه توكّل كلّي على المؤمن به
لم نتوكل على الله وحده؟
أجاب هو نفسه سبحانه في كتابه عن ذلك مرات لأن القضية عقدية من النوع الثقيل ومن ذلك أنه قال «أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدهُ»(5). جاء ذلك في سؤال إستنكاري بليغ. أي أن العبد يتوكل على ربه الحق سبحانه لأنه يؤمن أنه كافيه أمره كله في يسره وعسره وفي فقره وغناه بل في ضميره المستتر حيث أن التوكل عليه سبحانه يثمر سكينة وطمأنينة ورضى وفي حياته المتقلبة. التوكل في بعده الروحي هو قوة نفسية تنشأ في الإنسان فتغذيه إرادة ماضية لا تتخلف وتشحنه بأمل لا يعرف اليأس إليه سبيلا ومن ذا ذمّ المتردد الجبان المتأرجح فلا هو إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. الأصل في الإنسان هو التوكل وليس التردد والتأخر عدا أن الإنسان يظفر بركن شديد وحبل عاصم عندما يشحن نفسه توكلا وتصميما بعقيدة وإيمان وبقدر ثقته في ذلك المعتقد فيه ويقينه في قوته وأنه كافيه أمره يكون توكله صحيحا. ما عرف التاريخ من الناجحين في الدنيا إلا  متوكلا لا يتردد ومن ذا نعلم أن التوكل حاجة دنيوية وأخروية معا وأنه حاجة نفسية وروحية وعملية في الآن نفسه
نفي الوكالة عن النّبوة : مخّ العقيدة الصّحيحة
من قرأ القرآن الكريم مرّة واحدة بتدبّر وتأنّ يدرك بيسر أنّ اللّه سبحانه نفى الوكالة عن نبّيه ـ وعن منزلة النّبوة بصفة عامّة ـ مرّات ومرّات ربّما تناهز العشرات الكثيرات. ومن ذلك أنّه قصر وظيفة النّبوة على البلاغ «إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ»(6) وفي مقابل ذلك نفى عنه وظيفة الجبر والتّجبّر، فقال له «وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ»(7) ونفى عنه وظيفة الحفظ فقال له«وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا» (8) ونفى عنه وظيفة الوكالة فقال له مرّات كثيرات «وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ»(9) ونفى عنه صفة السّيطرة فقال له «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ»(10) وهكذا نفى عن النّبوة ـ كل نبوة ـ وظائف الحفظ والوكالة والسّيطرة والجبر وأثبت في مقابل ذلك وظيفة واحدة هي وظيفة البلاغ. هذا النّفي وذاك الإثبات لصيق جدّا بما يمور في حياتنا الفكريّة المعاصرة، ذلك أنّ الصّراع اليوم في الدّنيا كلّها تقريبا يدور بين مشروعين كبيرين : مشروع إسلامي يقوم على حرّية الإنسان حتّى حيال قضيّة الكفر والإيمان فهو حرّ إن آمن وحرّ إن كفر لا يكرهه على ذلك حتّى خالقه ووليّ نعمته عدا أنّه يتحمّل مسؤوليّته كاملة يوم القيامة وأنّ النّبي نفسه ـ كلّ نبيّ ـ ما عليه سوى إبلاغ الرّسالة الإلهيّة إلى النّاس وليس عليه ـ ولا له أصلا ـ أن يتقمّص دور الوكالة نيابة عن اللّه في قبول إيمانهم إن آمنوا أو يتقمّص دور عقوبتهم إن إختاروا الكفر ما ظلوا مسالمين لا يكرهون غيرهم على كفرهم. ذلك هو المشروع الإسلامي الذي يقوم على وتد شامخ راسخ عنوانه حرّية الإنسان وحرّية إرادته حتّى حيال ربّه وليّ نعمته وحتّى حيال الرّسول الذي يعيش معه ويبلغه رسالة ربّه إليه، فلا يُكره على إيمان ولا على كفر. بل ذهب الأمر إلى حدّ سؤال إستنكاري منه سبحانه إلى نبيّه محمد عليه السّلام إذ قال له «أَفَأَنتَ تُكْرهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ»(11). والخطاب موجّه إلينا نحن إذ أنّه عليه السّلام لم يفكّر مجرّد تفكير في إكراه النّاس على الإيمان. ومشروع غربي معاصر يقوم على الإكراه والتّيوقراطيّة وإرساء نظام دينيّ إلهيّ طاغوتيّ. ومن يقرأ الكتب المقدّسة التي زوّرها أصحابها يدرك بجلاء أنّها ممتلئة بالإكراه وجعل رجال الدّين والفاتحين مسيطرين جبابرة وأنّ التّوبة محلّها القسّ فهو من يمنحها وهو من يمنعها وهو الأمر الذي ثارت عليه أروبا قبل عقود. خلاصة الأمر هي إذن أنّ الإسلام عندما ينفي عن النّبوة كلّ وظائف الجبر والإكراه والسّيطرة والحفظ والوكالة عن النّاس إنّما هو يرسي نظاما مدنيّا حضريّا إنسانيّا قوامه الحرّية وعنوانه الحقوق وذلك حتّى يظلّ الإنسان عبدا لربّه الواحد الأوحد فحسب إن شاء طاعة وإن لم يشأ فهو كرها كذلك ويتحمّل مسؤوليّته يوم القيامة. لذلك فإنّ قضيّة نفي الوكالة عن النّبوة في الإسلام قضيّة عقديّة بإمتياز شديد وهي قضيّة معاصرة. ولكن نرى كثيرا من المنسوبين إلى الدّين في الإسلام ما فقهوا من ذلكم من شيء، فهم ينصبون أنفسهم حفظة ووكلاء ومسيطرين وجبّارين على النّاس وهو ما يجعل كثيرا من الأحرار يشمئزّون من الدّين وينفرون منه وهي حالقة كئيبة.
التوكّل الصّحيح طريق إلى الجنّة
جاء ذلك في الحديث المتّفق عليه والمعروف بحديث عكاشة والذي أخبر فيه عليه السّلام أنّ زهاء سبعين ألفا من النّاس يدخلون الجنّة بلا حساب ولا عذاب (واللّه أعلم إن كان العدد هنا للتّكثير والمبالغة أم للحقيقة، وما أظنّه إلاّ للمبالغة لأنّ سبعين ألفا في الأمّة الإسلاميّة مترامية الأطراف لا يساوي وبرة في جمل أو شعرة في ثور) وقال إنّهم : الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيّرون وعلى ربّهم يتوكّلون. ومن ذا فإنّ التّوكّل مركّب من أدقّ مركّبات الإعتقاد الصّحيح بل هو مخّ الإيمان السّليم وأمّ الإعتقاد الأصحّ. وفحوى الحديث المتّفق عليه كلّه يدور حول إخلاص الإيمان فلا حتّى طلبا للرّقى ولا بثّا إياها وإن إختلفت التّآويل هنا ولا تطيّرا يصرم وحدة الإنسان ويشوّش قلبه ويجعله متردّدا، بل توكّل صحيح ماض.
التواكل وإفساد التّوكّل
لم يرد هذا لا في القرآن ولا في السّنة الصّحيحة على الأقل ولكن قرض بعضهم أنّ التّواكل هو مضاد للتّوكّل في نحت تعبيريّ صرفيّ معمول به في لسان العرب إذ أنّ التّواكل هو التّوكّل الكاذب الذي يجعل الفؤاد جيّاشا بحب اللّه سبحانه ولكنّه يظلّ متأخّرا عن إعداد الأسباب المادّية. ومعلوم في الإسلام أنّ التّوكّل الإيماني الصّحيح المقبول لا يكون إلاّ بشقّيه الإثنين معا أي التّوكّل القلبي الشّاحن للفؤاد بالمضاء والثّقة في اللّه من جهة والتّوكّل عليه كذلك مادّيا من جهة أخرى. أي إعداد الأسباب المادّية. ومن طرائف ذلك بمثل ما أخبرنا في الوحي الكريم أنّ حتّى المعجزات النّبوية لم تمنح أصحابها إلاّ من بعد توكّلهم على ربّهم الحقّ ولذا أُمر موسى عليه السّلام بضرب الأرض حتّى تنبجس ماء زلالا وبضرب البحر حتّى ينفلق طودين وأُمرت مريم البتول بهزّ النّخلة حتّى تسقط عليها رطبا جنيّا. حتّى المعجزة لا تكون إلاّ بسبب مادّي. تلك هي شريعة الإسلام. فكيف إذا كان الإنسان الذي لا يرقب معجزة. ما عليه سوى أن يتوسّل إلى اللّه بالأمرين معا أي التّوكّل الرّوحي ثقة فيه والتّوكّل المادّي أي إعدادا للأسباب قدر الإمكان. عدا أنّ هذا الأمر فقهه الأولون فعمروا الدّنيا وتنكبه الآخرون فإسترقتهم الدّنيا. ويروى أنّ الفاروق وجد ذات مرة في المسجد شابا يدمن الوجود في المسجد فسأله عمن ينفق عليه فقال أنه أخوه فعلاه بدرته وعلمه أن أخاه خير منه إذ هو من المتوكلين الحقيقيين أما هو فهو من المتواكلين
الكفيل
لم يرد هذا الإسم عدا مرّة واحدة في قوله سبحانه  «وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا»(12). والكفيل من فعل (كفل ـ يكفل ـ كفلا وكفالة) فهو كافل وهو مكفول. الكفيل إسم فاعل على زون (فعيل) كالعادة ومعناه : الضّامن والكافي والقائم. الإنسان يكفل اليتيم لأنّه عاجز محتاج وبمثل ذلك، وتعالى الله عنّا علوا كبيرا يكفل الرّحمان سبحانه كونه وخلقه وعباده. كما أخبرنا سبحانه عن زكريا الذي كفل مريم البتول أو كفّلها بالتّشديد بحسب إختلاف القراءات أي ضمن لها ما تحتاجه في حدود قدراته. وإحتضن القرآن الكريم كذلك هذا الجذر (كفل) في قوله «وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا»(13). الكفل هو النّصيب والحظّ. وإنّما نسب الكفل للشّافع السّيء حتّى يحيط به إحاطة الكفيل بكفيله. واللّه سبحانه وكيل وكفيل معا.
هل يتسمى الإنسان وكيلا وكفيلا؟
يتّصف الإنسان بصفة الوكالة فهو وكيل فلان في عقده وهو كفيل فلانة اليتيمة مثلا ولكن لا يتسمّى به إسما علما فيقال له : وكيل. إذ أنّ قصر هذا الإسم على اللّه وحده سبحانه أدعى إلى الإعتقاد الصّحيح. أمّا إسم الكفيل فلا حرج فيه صفة وإسما معا.
الهوامش
(1) سورة آل عمران - الآية 159
(2) سورة إبراهيم - الآية 12
(3) سورة الشعراء - الآية 217
(4) سورة هود - الآية 123
(5) سورة الزمر - الآية 36
(6) سورة الشورى - الآية 48
(7) سورة ق - الآية 45
(8) سورة الأنعام - الآية 107
(9) سورة الأنعام - الآية 107
(10) سورة الغاشية - الآية 22
(11) سورة يونس - الآية 99
(12) سورة النحل - الآية 91
(13) سورة النساء - الآية 85