نفحات

بقلم
محمد المرنيسي‎
اصح ياعبد يغوث !
  نغزني صاحبي وقال مبتسما: «تقرأ ولا تكتب،اكتب وانشر ففي الحركة بركة».
قلت متحسّرا: «ماذا أكتب؟ولمن أكتب؟وأين أنشر؟ وكيف؟..»
أنا لا أكتب طلبا لإعجابك أو إرضائك، أو خوفا من استخفافك واستفزازك، أنا لا أكتب ترفا واستمتاعا برسم اسمي ونسبي على واجهة المنشورات والمدوّنات، أنا لا أكتب طمعا في عِرْق أو شِدْق أسُدّ به فاقتي وحاجتي العاجلة، أو رغبة في تخليد أثر للأجيال القادمة.
أنا لا أكتب منتقما أو متشفيا، ولا أكتب مبتسما ولا مستكينا هادئا، اكتب فقط عندما يعصرني الألم، ويشتد لديّ الإحساس بالغربة، وتضيق أمامي مسالك الخروج من المتاهة بداخلي، عندئذ تشرق الأفكار في ذهني، وتتراقص الكلمات أمامي، فأختار منها ما يريح خاطري، ويخفّف عني غربتي.
قطب صاحبي جبينه ونفر ثم زفر، وقال مغاضبا: «كفى... كفى، مزّق أوراقك وكسّر أقلامك وارحل إلى كهف مهجور، واعبد ربّك حتى يحين أجلك، فالحياة الجارية لا تمرّ بواديك، ولا تحلّ بناديك، ارحمْنا ببعدك، وأرِحْنا بغياب طلعتك وصلعتك».
قلت لصاحبي مبتسما: «معذور أنت ياعبد يغوث ! العالم كلّه على شاكلتك إلاّ من رحم اللّه، يعيشون بأقلامهم وألسنتهم وأفكارهم، يسخّرون جوارحهم لغير ما خُلقَت له، ويتّخذونها شراكا ومصائد للمتعة والمال والجاه وطلب الرّئاسة، يفكّرون فقط في ذواتهم، يريدون أن يكون مَن دونهم تبَعا لهم، وكيف يستقيم هذا الأمر إذا طغت الذّوات، وتناطحت الجباه، واشتد الصّراع بغية التّفرد والتّميّز والفوز بالبطولة الزّائفة؟
مسكين أنت ياعبد يغوث،آمنتَ بدعوتهم إلى التّمتع بالحياة، واقتناص الملذّات، والحرص على ما بيدك خوفا من الزّوال، وتعلّقتَ بالأوهام والأحلام في مستقبل الأيام، ولم يعد لك من هَمّ إلاّ أن يكون غدك أحسن من يومك، ويومك أحسن من أمسك؛ لتزداد تمكّنا واستكبارا وتجبّرا واستهتارا...»
قاطعني متجهّما:  «أنا عبد اللّه لا عبد يغوث، أعيش كما يعيش النّاس، وأحلم كما يحلم النّاس، ولا يأكل الذّئب من الغنم إلاّ القاصية كما تعلم، وما تدعو إليه في هواجسك وشطحاتك لا يعدو أن يكون رقعة بؤس وشؤم في فضاء دنيانا الجميلة الواسعة.
نحن نعيش في عالم يسع كلّ ما ترى من خلق الله، ونسعى في حياتنا لتحقيق أهدافنا رغم اختلافنا في الجنس واللّون واللّغة والدّين والقيم، فلماذا تضِيق ذرْعا باختيار النّاس لأسلوب حياتهم وتصرّفاتهم، وهم مسؤولون عن نواياهم وأعمالهم لا يضرّونك في شيء؟ ألا تعلم أنّ اللّه الذي خلقهم ورزقهم وقدّر أعمارهم ومآلهم هو أعلم بهم وأشفق عليهم منك؟ فلماذا تنغص عليهم حياتهم بألفاظك السّوداء،وعباراتك الكالحة، وأفكارك الشّاردة الباردة البائدة التي لم تعد غير ذكريات عابرة يسترجعها «المتنوّرون» عند السّخرية والاستهزاء؟ !»
قلت لصاحبي مشفقا: «اصحُ ياعبد يغوث، خذ حذرك قبل فوات الأوان، عبد الله لا يعبد غير اللّه، ولا يخاف إلّا اللّه، ولا يقدم على أمر في دينه ودنياه حتّى يعرف حكم اللّه فيه، فلا تكن إمّعة- كما جاء في الأثر- تقول أنا مع النّاس إن أحسن النّاس أحسنت، وإن أساءوا أسأت، ولكن وطّنوا أنفسكم، إن أحسن النّاس أن تحسنوا وإن أساءوا ألاّ تظلموا.
واعلم ياعبد يغوث، «أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ»..كما جاء في حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما.
صحّحْ مفاهيمك ياعبدَ الله، وعدّلْ سلوكك، واتّبِعْ سبيل الهدى والتّقى قبل الحسرة والنّدم، وكن عبد اللّه حقّا وصدقا، ولا تكن عبداً ليغوثَ ويعوقَ ونسرا.
فهذه نصيحتي إليك، قبل أن أودّعك، ولن تر صلعتي أو تسمع موعظتي بعد اليوم».