في الصميم

بقلم
عبدالمجيد بلبصير
مفهوم القيم في الإسلام
 معنى القيم في الإسلام وتجلياتها
يطلق لفظ القيم في الاصطلاح العام على مجموع التّصوّرات الفرديّة والاجتماعيّة، ‏إزاء الواقع المادي والحركي، وهي تبني إجمالا وبشكل نسبي، للنّسق الفكري اتجاهاته ‏وفق معالم الصّواب والخطأ، وللنّظام السّلوكي مواقفه وفق صوى القبول والرّفض.‏
وفي الاصطلاح الإسلامي يطلق اللّفظ على أصول المنظومة الفكريّة والأخلاقيّة، من ‏أمّهات الفضائل ومكارم الأخلاق، التي يهتدي بها العقل إلى السّداد النّوراني، والقلب ‏إلى الإخلاص الإيماني، والجوارح إلى الصّلاح الرّباني.‏
وعليه فالأعمال تجليّات القيم، وإن اختلفت صورها باختلاف محالها التي ترجع إلى ‏العناصر الجوهريّة الثّلاثة، التي تلتئم بها حقيقة الإنسان في القرآن. وقد رصد الشّيخ ‏الطّاهر بن عاشور رحمه الله في كتابه القيّم «أصول النّظام الاجتماعي في الإسلام» ‏ما يليق بكلّ منها من القيم ضمن ما أسماه «القسم الأول في أصول إصلاح الأفراد» ‏‏(1)نعرضه موجزا، متصرّفا فيه ببعض بيان فيما يلي:‏
(1) العقل: ويصدر عنه الأعمال التّصوريّة التي يرجى بها صلاح الاعتقاد والتّفكير بما ‏يثمر النّجاح في الحياتين، وقد حاطها الإسلام بما يضمن سدادها ورشادها بمكارم ‏الفضائل العقليّة، من أهمها:‏
‏أ) التفكر العبادي في الخلق والأمر: وهو جولان قوّة الفكر في الآيات، تكوينا وتكليفا، ‏بالرّنو في معانيها والاعتبار بحكمها، بما يؤدّي إلى تقدير مدبّرها سبحانه حقّ قدره. ‏فالتّفكر العبادي متى سدّد بالوحي يقي العقل من الوقوع في مهاوي الكفر والشّرك ‏والتّعطيل والخطأ في صفاته سبحانه.‏
‏ب) الحزم: وهو حذر عقلي من الوقوع في الأرزاء التي قد يتعسّر دفعها، أو يضيع في ‏دفعها وقت ثمين، نحو الوقوع في شباك أهل النّصب والاحتيال، سواء في حال ‏الحرب «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ»(2) أو في حال السّلم «لايلدغ المؤمن من جحر مرّتين»(3) ‏و«السّعيد من وعظ بغيره»(4).‏
(2) القلب: وتصدر عنه الأعمال القلبية التي يرجى بها تحصيل مقام التّقوى للنّفس، لقوله ﷺ وهو يشير إلى صدره ثلاث مرّات: «التّقوى ههنا» (5) يعني في القلب، ‏فالأعمال القلبية هي جماع قسم الأخلاق والضمائر التي سعى الإسلام إلى حفظها من ‏الفساد من جانبين اثنين:‏
(*) جانب الوجود: حيث أمر بالتّحلي بأمهات الفضائل القلبيّة التي هي سبب اكتساب ‏الكمال والمجاهدة للنّوال، وأهمّها أربع:‏
‏أ) الإخلاص في العمل: بحيث يندفع العامل إلى البر ابتغاء وجه الله، لا لإرضاء ‏الناس، فهو بذلك مولد للطاقة.‏
‏ب)حسن النية: وينبعث منه محبة الخير العام وإتقان العمل الصالح، فهو بذلك مغذ ‏للطاقة.‏
‏ج) الإحسان: وهو أن يستحضر العامل مراقبته سبحانه، فهو بذلك مجدّد للطّاقة.‏
‏د)الصبر: وهو ملاك ذلك كلّه توليدا وتغذية وتجديدا، إذ به تُربّى النّفوس على قوّة ‏الإرادة، فتبدّد كافّة مثبّطات العمل، من نحو توهم ضعف المقدرة بالكسل، أو بإنكار ‏الجهّال ولوم اللّوام، تحطيما للمعنويّات.‏
(*) جانب العدم: حيث أمر بالتّخلي عن أمهات الرّذائل القلبيّة، إذ هي حائلة عن الكمال، ‏موجبة لدوام النّقص، وأعظمها خمس:‏
‏أ) و ب) الكبر والعجب: إذ الأوّل حاصل بالجهل بقدر النّفس، والثّاني بالاعتداد المفرط ‏بها، وكلاهما صارف عن اعتقاد الحاجة إلى الصّلاح والكمال.‏
‏ج) الحقد: وهو ناجم عن البغض في غير اللّه، أي بغير موجب حقّ، صارف للهمّة إلى ‏الانتقام عن الاشتغال بما يفيد.‏
‏د) الغضب: وهو متلف للفكرة، سالب للمواهب، وفي الصحيح «أنّ رجلا قال يا رسول ‏اللّه أوصني، قال: لا تغضب، فكرّر مرارا فقال: لا تغضب» (6) وفي الحديث «‏لاَ يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ»(7).‏
‏ه) الحسد: وهو ناشئ عن تمني زوال النعمة عن صاحبها، وفيه تقصير عن اكتساب ‏مثلها حال القدرة، وعدم الرضا بما قسم له من ربه حال العجز.‏
3) الجوارح: وتصدر عنها أعمال البدن التي تجري على ما يأمر به العقل والقلب ‏المهيمنان عليها، ويرجى بها صلاح السلوك والممارسة، وقد صانها الإسلام بفضائل ‏لا تبرز إلا بها، وأهمها ستّ:‏
‏أ) النظام: وهو عون على إكمال الأعمال وتيسيرها، وشاهده في الإسلام ترتيب أمور ‏الخلق والأمر، إذ كل منها جار على نظام هو عين حكمته سبحانه «وَكُلُّ شَيْءٍ عِندهُ بِمِقْدَارٍ» (8).‏
‏ب) التوقيت: وهو أصل عظيم للمحافظة على القيام بالعمل، وعدم الغفلة عنه، وقد حدّد ‏الإسلام لأصول العبادات أوقاتا نحو أوقات الصلوات، ورمضان للصّيام، وحولان ‏الحول لزكاة النّقد.‏
‏ج) الدوام: ويقي من سوء الخاتمة التي هي في معنى إبطال الدوام على العمل الصالح، ‏وفي الحديث «أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل»(9).‏
‏د) ترك الكلفة: وهو وسيلة لما قبله، إذ به يندحر الملل والكلل، ويتجدد الأمل والعمل، ‏وفي الحديث  «عليكم من الأعمال ما تطيقون فإن الله لايمل حتى تملوا» (10).‏
‏ه) المبادرة: وهي تؤذن بالحزم خشية طروء الموانع، ومن ثم قدمت صلاة العيد على ‏خطبتها، لأن المبادرة بالعبادة التي نيطت بذلك اليوم أولى.‏
‏و) الإتقان: وهو صرف العامل جميع جهده ومعرفته في عمله، ليكون محصلا لأحسن ‏ما يقصد منه أو ينشأ عنه، وفي الحديث «إن الله يحب إذا عمل العبد عملا أن يحسنه ‏أو يتقنه» (11).‏
ولعلّ ما رصد الشّيخ ابن عاشور رحمه الله لكلّ عنصر من العناصر الثّلاثة، من أهم ‏ما يليق به من القيم، إنّما هو أوّليّات لما ينشأ بعد من القيم الاجتماعيّة المركّبة نحو برّ ‏الوالدين وتوقير الجار، وإنجاد المستضعف ونصرة المظلوم وأداء الحقوق، ونحو ذلك ‏من أجزاء الفعل العبادي المركّب، ممّا يضمن تماسك النّسيج الاجتماعي العام، في ‏كنف ربّانيّة الإسلام. ذلك أنّ صلاح المجموع ينبني أساسا على استقرار القيم التّعاملية ‏واستمرارها في توطيد أواصر التّعاون على البر والتّقوى بين النّاس، فهي بطبيعتها قيم ‏متعدّية، وإن انبنت في الأصل على القيم اللاّزمة الصّادرة ابتداء عن حقيقة معنى ‏التّوحيد ولوازمه من القيم البسيطة، التي ينشأ عنها صلاح الآحاد دون صلاح ‏المجموع بالضّرورة.
وعليه فمناهجنا التربوية، على اختلاف أشكالها ووسائلها، ‏مدعوة لأن تصل بين جنسي القيم، بحيث ينبغي أن تشحن بقيم الصّلاح الفردي، مثلما ‏ينبغي أن تشحذ بقيم الصّلاح الاجتماعي، مبني بعضها على بعض، إذ الأصل أنّ قيم ‏القرآن المدني مبنيّة على تمثّل قيم القرآن المكّي.‏
إنّ البعد التّشييئي للحياة في العولمة المتغطرسة اليوم، قوى من وطأة الأهواء ‏الشّخصيّة والشّهوات المادّية حتّى صارت معبودات للإنسان، ممّا أدّى إلى تداعي ‏التّماسك القيمي على المستوى الفردي ابتداء، بحيث خفّت جذوة المعاني التّوحيدية في ‏النّفس، ومن ثمّ صارت كهرباء السّلوك الاجتماعي العام المتماسك في حكم النّضوب. ‏فالبرّ بالوالدين مثلا، رغم أنّه واجب شرعي وقيمة اجتماعيّة كبرى حاضنة لمكارم ‏الأخلاق ومحاسن الآداب، على مستوى الأسر المسلمة الممتدّة، إلّا أنّه آخذ منذ زمن ‏في الانحسار، وبمختلف أشكال العقوق، سواء ما كان منها أعلى من التّأفيف نحو ‏القطيعة والشّتم والضرب، أو ما كان أدنى منه نحو النّظر شزرا.‏
وإنّما يقاس مستوى الرّشد في المجتمعات بما يشغل مثل هذه القيمة (من مساحة) في المتن ‏الأخلاقي، الذي ينبغي أن يُذاد عن حماه بالمتن التّشريعي. قال الشيخ ابن عاشور عند ‏تفسير قوله سبحانه في الأحقاف «وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا»(12) «وقد تكرّرت ‏الوصاية ببرّ الوالدين في القرآن، وحرّض عليها النّبي ﷺ في مواطن ‏عديدة، فكان البرّ بالوالدين أجلى مظهرا في هذه الأمّة منه في غيرها، وكان من ‏بركات أهلها، بحيث لم يبلغ برّ الوالدين مبلغا في أمّة مبلغه في المسلمين».‏
مصادر القيم في الإسلام ومقاماتها
ويراد بالمصادر محاضن القيم الإسلاميّة ومنابعها التي تمتاح منها مادتها، وترسم من ‏خلالها صورتها في النّفس والواقع، وهي لاتكاد تخرج إجمالا عن أربعة أصول:‏
‏1) النقل الصحيح: أي ما صحّ من الوحي رواية ودراية، وهو أعلى الأصول البانية ‏للنّسق القيمي الثّابت في الإسلام، كما أنّه موافق لقيم ما بعده مطابق لها سواء بطريق ‏التّصديق أو بطريق الهيمنة، بحيث يحدّد معالم الصّواب والخطأ على مستوى التّفكير، ‏وصوى القبول والرّفض على مستوى السّلوك، حتّى لا يخرج المتّبع لهديه عن قيم ‏الحنيفيّة السّمحة، إذ الحنف هو الميل في المشي عن الطّريق المعتاد، والقصد ميل قيم ‏الإسلام عن معتاد الضّلالات سواء تعلّق الأمر بباطل الاعتقاد أو بفاسد العمل.‏
‏2) العقل الصريح: وهو الذي يمدّ القيم العقليّة –فيما هو طوع مقدوره- بآليات التّسديد ‏والتّرشيد بما ركّز فيه من أفكار ومبادئ نحو السّببيّة والغائيّة وعدم التّناقض.‏
‏3) الفطرة السليمة: والمراد بها ما أودع سبحانه في أصل خلقة الإنسان من بديع القوّة ‏السّويّة، التي تحمله على توخّي قيم الصلاح والإصلاح، والإذعان لمبادئ الحقّ ‏ومكارم الأخلاق، وهي أيضا مقياس نفسي مترجم لقيم السّعادة والشّقاء على مستوى ‏الإحساس، وفي الحديث «البرّ ما اطمأن إليه قلبك والإثم ما حاك في صدرك ‏وكرهت أن يطّلع عليه النّاس»(13).‏
‏4)الواقع الموضوعي: أي ما استقر واستمر من مظاهر الخلق على أصل صلاحه، إذ ‏قوانينه مصمّمة على موافقة قيم هدى الوحي والعقل وأحاسيس الفطرة.‏
وأمّا مقامات القيم في الإسلام فتعكس مجالات تجسيدها في الواقع، وهي متأرجحة بين ‏مقامين اثنين:‏
‏1) مقام التقوى والعدل: وهو مقام التّحقق من العبوديّة للّه بالاقتصار على حدّ الكفاية من ‏القيم، امتثالا للفرائض من المأمورات، واجتنابا للكبائر من المنهيّات، وأداء للحقوق من ‏غير زيادة أو تطفيف.‏
‏2) مقام التقديس والإحسان: وهو مقام التّحقّق من الولاية للّه، بالاستكثار من جلب ‏المصالح وإبطال المفاسد، وذلك بمجاوزة الفروض إلى النّوافل بالامتثال، والكبائر إلى ‏الصّغائر بالاجتناب، والعدل إلى الفضل بالإيفاء.‏
الهامش
(1) ينظر من ص 45 إلى ص 80 طبعة مصنع الكتاب الشركة التونسية للتوزيع بدون ‏تأريخ. ‏
(2) سورة النّساء - الآية 71
(3) رواه البخاري (6133) ومسلم(2998)
(4) رواه ابن ماجه (46)
(5) رواه البخاري
(6) رواه البخاري  عن أبي هريرة
(7) أخرجه الشّيخان عن أبي بكر الصدّيق
(8) سورة الرّعد - الآية 8
(9) البخاري، في كتابه الجامع الصّحيح
(10) رواه البخاري (43) ومسلم (785)
(11) رواه الطبراني في الاوسط
(12) سورة العنكبوت - الآية 8
(13) رواه الإمام أحمد والدار قطني، وغيرهما