أهل الاختصاص

بقلم
أ.د.فوزي أحمد عبد السلام
لحن الطبيعة المعزوف بالأعداد غير النسبية
 عيد ميلاد للرّياضيات  «‏‎ π-Day‏»‏‎ ‎
لماذا تتّخذ الرّياضيّات من يوم 14 مارس عيدا لها والتي تقع دلالته في العدد‎ π ‎المقرّبة قيمته إلى ‏‎3.14‎، ‏وليس مثلا من يوم 7 فبراير والتي تقع دلالته في العدد‎ ‏e‏ ‎المقرّبة قيمته إلى ‏‎2.7 ‎، وكلاهما عدد غير نسبي؟ أيّ ‏عدد لا يمكن كتابته على هيئة نسبة، بسطها ومقامها أعداد صحيحة ومقامها لا يساوي الصّفر، وأغلب الأعداد غير ‏نسبيّة، فهي كثيفة جدّا على خطّ الأعداد، فبين كلّ عددين غير نسبيّين يوجد عدد غير نسبيّ آخر، وفي أيّ عدد غير نسبيّ تكون الأرقام أمام الفاصلة العشريّة غير منتهية وغير متكرّرة.  وهذه ‏أعداد غير معروف قيمتها المضبوطة، ولكن تُعرف قيمتها التّقريبيّة فقط. إجابة هذا التّساؤل ربّما تكمن في أنّ ‏البشريّة تعرف العدد π منذ 4000 عام تقريبـا، وتعرف العدد ‏e‏ منذ 400 عام فقط، أي أنّ العدد π هو الجدّ الأعظم ‏للأعداد غير النّسبيّة، بينما لا يزال العدد e‏ في سنّ الطّفولة بعد. وقد احتفل علماء الرّياضيّات بمعرفة 13 تريليون ‏رقم عشري بعد الفاصلة العشريّة لذاك العدد π وذلك باستخدام حاسوب فائق الكفاءة طوّره الياباني «هوكونشي» ظلّ ‏يعمل لمدّة‎ ‎‏208 يوما في عام 2014. 
وبداية معرفة الإنسان بالعدد π ربّما تكون هي النّسبة التّقريبيّة بين محيط ‏الدّائرة‎ ‎وقطرها، واستخدم الرّمز π وهو الحرف اللاّتيني المناظر للحرف ‏p‏ الحرف الأول من الكلمة الإنجليزيّة ‏للمحيط ‏perimeter‏ لأوّل مرّة سنة 1706 بواسطة «ويليام جون»، لكنّه كان معروفا قبل 4000 سنة على الأقل، ويذكر صاحب كتاب «‏The History of Pi‏»(1) على أنّه بحلول 2000 قبل الميلاد، كان البابليّون والصّينيّون ‏والهنود والمصريّون القدماء مدركين لوجود وأهمّية ذلك العدد، حيث وُجِد أنّ نسبة ارتفاع الهرم الأكبر بالجيزة إلى ‏محيط قاعدته هي π، وطوّره علماء الإغريق بعد ذلك ويسمّونه‎ ‎‏ أيضا باسم «ثابت أرشميدس». 
على مرّ ‏هذا الزّمان الطّويل لم يتوقّف انبهار الإنسان بالعدد  π  ولم يقتصر العمل به على علماء الرّياضيّات فحسب، بل دخل ‏الميدان الفنّانون أيضا، وانطلاقا من كون الأعداد هي نسب، فلماذا لا نقترح تمثيل كلّ رقم بعلامة موسيقيّة على ‏أن تبقى نسبة بُعد قيم الأرقام المتتالية عن بعضها متناسبة مع بُعد العلامات الموسيقيّة الممثِّلة لها عن بعضها، وهكذا ‏قدّم الموسيقيّون معزوفات للعدد π تستطيع القارئ سماعها على اليوتيوب (2) ‎‏.‏
لحن الطّبيعة معزوف بالأعداد غير النّسبيّة
تحكي الأعداد غير النّسبيّة قصّة جهل الإنسان بالحقيقة المطلقة عن طريق العلم الطّبيعي وحده. فالعلم ‏الطّبيعي يعمل فقط في نطاق ضيّق جدّا من المحلّية، ولا طريق للحقيقة المطلقة إلاّ طريق «الوحي». ولكن في نفس ‏الوقت تحكي قصّة الأعداد غير النّسبيّة كفاح الإنسان لمحاربة الجهل النّسبي، أي كفاحه من أجل الوصول إلى ‏الحقيقة النّسبيّة حتّى ولو كان لأجل معرفة أكثر دقّة لعدد مجهول. والأغرب من ذلك أنّ لحن الدّورات الزّمنيّة ‏لأشياء كثيرة جدّا في الطّبيعة معزوف على نغمة هذه الأعداد. 
إليكم بعض الأمثلة: طول اليوم عدد غير نسبي، وأمّا ‏عن كونه 24 ساعة فما هو إلاّ متوسّط وتقريب، وكذلك طول الشّهور القمريّة، وطول السّنة الشّمسيّة فما هي إلاّ ‏متوسط وتقريب أيضا، حتّى إنّ أيّ يوم في السّنة بما فيها 3/14 لا يُعلم هل هو بالضّبط أم مجرّد تقريب. وقد وقعت ‏حادثة غريبة جدّا منذ وقت ليس بالبعيد وهي الاتفاق على حذف بعض أيام من التّاريخ والرّجوع بالتّقويم إلى الوراء ‏في حدود العشرة أيّام وذلك لغرض ضبط الزّمن (وذلك كلّه ناتج من تقريب لحركة الشّمس الظّاهريّة حول الأرض ‏من اعتبار أنّها تدور في مدار يتطابق مع مستوي الاستواء الأرضي، وتقريب آخر من اعتبار أنّها تدور بسرعة ‏مداريّة منتظمة وكلا التّقريبين يعبر عنه بمتسلسلتين لا نهائيتين من متسلسلات «فوريير» وهو ما يعبّر عنه بمعادلة ‏الزّمن). 
ثمّة إشارة أخرى أنّه لو كان عدد الأجرام السّماويّة مثل الشّمس والأرض والكواكب والأقمار، وهي تبدو ‏كما لو كانت لا نهائيّة، حيث تمّ حسابها إحصائيّا بما يقارب «مائة مليار مجرّة، في كلّ مجرّة مائة مليار نجم، كلّ ‏نجم بمثابة شمس مثل شمسنا» لو كانت أطوال دورات هذه الأجسام حول محورها وحول نفسها أعدادا نسبيّة، لحدث ‏بينها ما يسمّى بظاهرة الرّنين، وهي وإن كان لها فوائد إلاّ أنّها تسبّب كوارث عديدة، ولكان الكون مهدّدا ‏بالفناء والهدم من داخله ولزادت فرص عدم الاستقرار بصفة كبيرة، بحيث كان من الممكن جدّا أن تهرب الكواكب بما فيها ‏الأرض من مداراتها، وهي نفس المشكلة التي شغلت بال الكثيرين من علماء الرّياضيّات الفلكيّين من أمثال «لابلاس». ‏إذن لحن استقرار الطّبيعة معزوف على نغم الأعداد غير النّسبيّة. ‏
خطورة الكمبيوتر والحاسبات الآليّة على الذّاكرة العلميّة
تبدو الرّفاهيّة التي أعطتنا إيّاها أجهزة الحاسوب الآلي خطرة جدّا على ذاكرتنا العلميّة، فكيف كان يحسب ‏النّاس الحسابات المرهقة بدون وجود كمبيوترات حديثة؟ في القرن السّادس عشر، كان النّاس يجرون حساباتهم العلميّة ‏يدويّا، واحد من هؤلاء العباقرة كان الرّياضي الفلكي «جون نابيير»، وضع على عاتقة مسألة تطوير طريقة لحساب ‏ضرب رقم مكوّن مثلا من 7 أرقام عشريّة في رقم آخر مكوّن من 7 أرقام عشريّة، ثمّ قسمة النّاتج على رقم آخر ‏مكوّن من 7 أرقام عشريّة بطريقة دقيقة وسريعة. طبعا كان هذا لا يتمّ عن طريق الآلة الحاسبة، فلم تكن تلك الآلة ‏الغريبة قد ولدت بعد. كل ذلك كان يتمّ يدويّا، أدّى ذلك إلى اختراع «نابيير» اللّوغاريتم الطّبيعي. 
أطلق «نابيير» على هذه ‏الطّريقة الحسابيّة «اللوغاريتم‎ «Logarithm‎وهي كلمة مشتقّة من كلمتين يونانيتين: الأولى هي‎‎‏‏Logos ‎‏ ولها ‏أكثر من معنى منها الحكمة أو النّسبة، والثّانية هي‎ arithmos ‎ومعناها العدد. وبالتّالي يكون معنى كلمة لوغاريتم ‏‏«تقسيم العدد» أو «حكمة العدد». وليس المجال هنا هو التّعمق في رياضيّات اللّوغاريتمات لكن يكفي معرفة أنّ سرّ ‏عبقريتها هو تحويل عمليّات الضّرب إلى جمع والقسمة إلى طرح والرّفع إلى أس إلى ضرب. 
بعد ذلك أجرى «هيجنز» دراسة تحليليّة لحساب المساحة تحت منحني دالة مقلوب المتغيّر x ‎‏  والمحصورة من أعلى بمنحني الدّالة ‏المذكورة ومن أسفل بمحور x  ومن اليسار بالمحور الموازي لمحورy  ‎‏  عند ‏x=1 ‎‏  ومن اليمين بالمحور الموازي  ‏لمحور y عند x=t  فكانت القيمة دوما هي لوغاريتم  نابير للعدد t. وكان «هيجنز»يبحث تحديدا عن تلك النّقطة التي ‏تحصر بينها وبين النّقطة 1 مساحة قدرها الوحدة. كان يقترب شيئا فشيئا من عدد ما، لكن ذلك العدد لم يكن فواصله ‏العشريّة تنتهي هي الأخرى، كان محصورا بين 2 و 3. وكان ذلك يشهد بميلاد عدد غير نسبي جديد وعلى ما يبدو ‏أنّ المولود سيكون له شأن عظيم كأخيه الأكبر π. ‏
قصة ميلاد العدد غير النسبي ‏e‏ ‎‏  ‏‎ ‎
من الفقرة السّابقة بدأت قصّة شيّقة أخرى حول ذاك العدد والذي سمّي ‏فيما بعد بالعدد ‏e‏، بطل هذه القصّة هو «جاكوب برنولي»(3)، الذي كان مهتمّا ‏بحساب قيمة الفائدة البنكيّة المركّبة، كان يبحث في القضيّة التّالية: إذا ‏كان هناك بنك يعطى فائدة 100 % مرّة واحدة سنويّا، وبنك آخر ‏يعطي نفس الفائدة لكنّه يوزّعها 50 % مرّتين فى السّنة، وبنك ثالث ‏يعطي نفس الفائدة لكنّــه يوزّعهـا بنسبــة ‎ 100/12 ‎‏% على شهور ‏السّنة، وثمّة بنك رابع يعطي نفس الفائدة لكنّه يوزّعها بنسبة  ‏‏‏‎100/365 %‎‏ على أيّام السّنة، وماذا إذا كان بنك يوزّع الفائدة كلّ ‏ساعة بل كلّ ثانية بل كلّ لحظة تؤول مدّتها الزّمنيّة إلى الصّفر، كيف ‏سيكون قيمة هذا الدّولار بعد مرور العام لكلّ بنك من هذه البنـوك، ‏انظـر إلى المعادلات البسيطة المقابلة لترى الفرق بين كلّ حالة ‏وأخرى (وهو العدد المكتوب باللّون الأزرق). 
لم يستطع «برنولى» ‏التّوصل بنفسه إلى هذه القيمة. وما توصّل إليه إنّ القيمة تنحصر بين ‏‏2 و 3‏‎ .‎كان «برنولى» يبحث أيضا في اللّوغاريتمات وهو ربّما أوّل ‏من أدرك الصّورة التي نملكها نحن اليوم حول اللّوغاريتمات. وهي ‏أنّها الدّالة العكسيّة لحساب الدّالة الأسية ‏Exponential. كما أدرك أنّ لوغاريتمات «نابيير» لها أساس معيّن. لكنّه لم يدرك أنّ هذا الأساس هو نفسه ‏النّتيجة التي يبحث عنها فى حساب الفائدة المركّبة الموزّعة لحظيّا. ‏ليأتي الرّياضي والفلكي السّويسرى أويلر‎] ‎‏1707-1783‏‎[‎م ليوحّد ‏جهود سابقيه، فقد أدرك أنّ لوغاريتمات «نابيير» أساسها هو القيمة ‏التي يبحث عنها «برنولى» و«هيجنز» هو من حدّد تلك القيمة بدقّة. ‏وصاغ المعادلة التّالية لحساب القيمة التّقريبية لذلك العدد عن طريق ‏متسلسلة لانهائيّة، وله صياغة أخرى جميلة بدلالة الكسور المستمرّة. ‏والبعض يرجع سبب تسمية ذلك العدد بالحرف ‏e‏‎‏ إلى كونه الحرف ‏الأول من اسم ‏Euler‏ لكنّ آخرين يرفضون ذلك ويقولون إنّ سبب ‏التّسمية هو الحرف الأول لكلمة ‏Exponential ‎‏ «الأسية» لأنّه ‏علامة على الدّالة الأسية، وثمّة فريق ثالث يقولون لا هذا ولا ذاك.‏  
 ‎ ‎أهمية العدد  π  والعدد‏‎ ‏e‏ في الطّبيعة
للعدد π  استخدامات مباشرة منها حساب المساحات وأحجام، وأخرى غير مباشرة كثيرة جدّا، فعلى ‏سبيل المثال لا الحصر كيف كنّا سنحسب كتلة الأرض مثلا، لنستطيع منها حساب طول الفترة الزّمنيّة للمدارات ‏التي تدور فيها الأقمار الصناعية حولها، هذه واحدة فقط مبني عليها مثلا عشرات الفوائد منها التّليفونات المحمولة ‏في أيدينا، فهي أجهزة إليكترونيّة مربوطة بالمواضع المحسوبة بدقّة للأقمار الصناعيّة، أنظمة GPS، وخرائط ‏الطّقس، وتتبّع الطّائرات والسّفن.  
أمّا أهميّة العدد ‏e‏  فقد عرفناها سابقــا من أعمــال «برنوللي» في المجال البنكي، لكنّ ‏الرّياضي والفلكي الألمانى «كارل فريدريك جاوس» ‏‎]‎‏1777-1855‏‎[‎م كان هو أوّل من وسّع رقعة استخدام العدد ‏e‏ ‏ودالّته الأسية في الطّبيعة فهو صاحب دالة التّوزيع الطّبيعي‎ ‎والتي جوهرها الدّالة الأسية بالأساس‎ ‏e‏ ‎‏ولقد سمّي ‏بالتّوزيع الطّبيعي لوصفه العديد من الظّواهر الطّبيعيّة فهى تصف توزيع الدّخول المادّية وطول القامة، وتوزيع شدّة ‏الأمطار عبر العام، وتدخل في وصف سلوك الدّوائر الكهربيّة والانشطار النّووي، كما أنّها تدخل في بناء النّماذج ‏المالية كنموذج «بلاك شولتز». بل إنّها تستخدم في وصف ظواهر أخرى غير الظواهر الطبيعية بمعنى غير المادّية، ‏مثل وضع اختبارات قياسيّة لتحديد مستوى الطّلاب، وتحديد معدّلات الذّكاء لدى البشر‎.‎
الهوامش
(1) ‏Petr Beckmann,  «A History of Pi», St. Martin›s Press; 19th ed. (1976).‎
(2) أنغام الموسيقى على أرقام النسبة الثابتة ‏‎ (pi )‎يمكن مشاهدته وسماعه علي الرابط التالي:
https://www.youtube.com/watch?v=8bblMAyWXgY&t=145s
(3) جاكوب برنولي (1654 - 1705م) Jakob Bernoulli هو عالم سويسري، برع في التّحليل ونظرية الاحتمالات والفيزياء، وسمّيت باسمه العديد من النّتائج في التّحليل والإحصاء، واحدا من مؤسّسي حساب التّفاضل والتّكامل، وكان أشهر أفراد عائلته من علماء الرّياضيات، ومن بينهم أخوه جوهان وابن أخيه نيكولاس.