نفحات

بقلم
محمد المرنيسي‎
السوط والبطانة
 في مجلس هادئ، فضاؤه واسع، وهواؤه ماتع،‎ ‎ونوره ساطع، فراشه وثيرناعم، وأثاثه على مبدإ ‏الوسطيّة قائم، وخوانه مكتظ بهيج باسم، رحب بي الشّيخ الوقور عند المدخل، فجلست مع ‏الحضور حيث أشار، بعد البسملة والاستغفار، وعيني على الخوان، تختار الأشهى والألذ قبل ‏صدورالإذن والبيان ‎من الشّيخ أبي المكارم همام بن ثوبان.‏
التفت إلى الضّيوف، فوجدت فيهم المجهول والمعروف، وتبادلنا البسمات، مع أجمل ‏العبارات، وقبل الدّخول في الحديث، اقترح شيخنا الافتتاح بالشّاي وتوابعه، قبل الخوض في ‏موضوع الحديث ومفاصله، فاستجبنا مسرعين مهطعين، فامتدّت الأيدي والأعناق إلى ثمرات ‏الأطباق، وهاجت الأشواق والأذواق إلى نغم الكسر والشقّ والصّعق. وجدّ الجدّ، واشتدت المعركة ‏بين الأخذ والرّد، والشدّ والكدّ، فلا تسمع إلاّ أصوات الشّراب والقضم والطّحن، ولا ترى إلاّ ‏مخلصا سباقا إلى الأطباق،لا يتكلّم ولا يلتفت، لا يشكو من علّة، ولا يأنف من قلّة، حتّى إذا أقفر ‏الخوان وتنفّست صحونه، وجفّت الأباريق وسكنت مدامعها، وهمدت الأصوات وانقطع صخبها ‏وصفيرها قام الشّيخ خطيبا في الضّيوف، فبسمل وحمدل، وقرأ ورتّل، ثمّ أطرق وتمتم، نظر ‏الشّيخ إلى ضيوفه وابتسم، ورحّب وسلّم، ورغبهم في الحديث عمّا استفادوه من علمه، وما بدا ‏لهم في سلوكه وسيرته، فتسابقوا لتعداد محاسن الشّيخ وكراماته، وما شاع وانتشر من درر ‏حكمه وبديع فوائده: فقصّ بعضهم أنّه رأى الشّيخ في منامه في أجمل هيئة وأحسن حال، فعلق ‏أحدهم باسما: «ذلك هو حسن المآل». وقال آخر إنّه رآه ممتطيا حصانا يسبح في الفضاء، وبيده ‏سوط من ضياء، يجلد به مسترقي أخبار السماء، فعلق أحدهم متحفزا: «الحصان السّابح ‏كرامة، والسّوط الضّوئي عزّة وشهامة، وجلد الشّياطين نصر من الله ورعاية». وقال ثالث: «دعونا ‏من أحلامكم وتأويلاتكم، ومشاهدتكم وأمانيكم، أوليس هدفنا أن نستمتع برؤية الشّيخ والاستفادة ‏من علمه وعمله؟»
رفع الشّيخ يده إلى أعلى فتبعتها أبصار القوم في خضوع واستكانة، زفر ثمّ أطرق واستغفر، ثم ‏قال: «آه،ليتني أكون كما رأيتم، وليت شهادتكم لي تنفعني عند الحاجة إليها! ‎ولكنكم تجهلون كثيرا ‏من ملفاتي الشّخصية عند أهلي وأبنائي وأقاربي وأصدقائي وأعدائي ومن أتعامل معهم في ‏عملي وحاجياتي، وعند زوّار الفجر سيرتي ومكنوناتي، والله أعلم بسريرتي وعلانيتي، ولو ‏اطلعتم على محتويات هذه الملفّات لهربتم منّي كما يهرب السّليم من الأجرب، ومن خاف شيئا ‏هرب منه، ومن خاف الله هرب إليه كما قيل، وأنا أعلم بنفسي منكم، والله يعلم ما نخفي وما ‏نعلن، وإليه المرجع والمصير.‏
وما أذكر أن أحدكم أسرّ إلي يوما بنصيحة أو توجيه أو تنبيه في أمر لم أوفق فيه إلى ‏الصّواب، ولا جهر أحدكم بنقد أو تقويم، أو إشارة أو أمارة تكبح قفزاتي، وتخفف من هفواتي ‏وعثراتي. همكم لحس الأطباق ومدّ الأعناق وتطريز المدح والثّناء، والإغراق في الإطراء ‏والنّفاق، ومن حسب أنّه يسلم من طعن النّاس وغيبتهم فهو مجنون مخبول، وليس في الرذائل ‏أشبه بالفضائل من محبة المدح كما يقال.‏
صدّقنا رأيكم فينا لجهلنا وغفلتنا، وبنينا أمجادا من سراب تلهينا ولا تنفعنا، وأنتم أنتم كالحرباء ‏تتلون جلودكم وتختفي مكائدكم، أنتم وأمثالكم من أكبر حواجز الإصلاح في الأمّة، فكلّ راع في ‏أيّ مجال وفي أيّ موقع تحيطون به وتلتفّون حوله لتزوير الحقائق وتغطية الفساد نكاية ‏بالعباد،غايتكم إطفاء نور العدل، وإعدام الصّدق واستيراد كلّ منتوج فاسد عفن، فلا يجد ‏الرّاعي أمامه وخلفه وعن يمينه وشماله إلاّ المطبلون المزمرون الرّاقصون ‏والمصفقون، فيأخذه الإعجاب بالنّفس والغرور بالحال، فيستجيب لهم بما يرون ويفتون له بما ‏يشتهون، ويرى أنّ الصّفوة هم هؤلاء، وأنّ الشرّ والخراب هم أولئك الذين يدعون أنّهم يمتلكون ‏مشاريع الإصلاح لإنقاذ الأمّة من الانهيار. فكم من قويّ أنهكتموه، وكم من أمين خوّنتموه، وكم ‏من صالح ضيّعتموه، وكم من مخلص نبذتموه، فمتى ترجعون عن غيّكم ومتى تدركون أنّكم ‏على باطل فتسارعون إلى تغيير المسار إلى طريق الخير والصّلاح؟ ولولا أنّكم ضيوفي ولكم ‏الحقّ علي لأدّبتكم بهذا»، وأخرج سوطا من تحت وسادته وضرب به في الفضاء بقوة.‏
أسرّ في أذني من بجانبي وقال: «قم واهرب قبل أن يخلف الشّيخ عهده، وأنت قليل اللّحم واهن ‏العظم، لا يتحمّل ظهرك الجلد». سمعت صوت الجرس، فاستيقظت مذعورا، فنظرت حولي فإذا ‏أنا في غرفتي وعلى سريري. أشعلت المصباح وتعوّذت ونهضت. قلت: «الحمد لله الذي لم ‏تستطع الأجهزة الحديثة تسجيل هذا المشهد بالصّوت والصّورة، ولكن، أليس من حقّي أن أحلم ‏وأرى ما لا يستطيع أن يتحقّق في الواقع؟ ‏‎!‎»