شخصيات الإصلاح

بقلم
التحرير الإصلاح
السلطان سليمان القانوني
 لقَّبه رعاياه بالقانوني وسمَّاه خصومه بسليمان العظيم أو سليمان الرهيب، ورغم شهرته بالعدل حتى مع رعاياه غير المسلمين، فإنه كان طرفاً في مأساة مروعة لعائلته، كما كانت نهايته غريبة، ولَم تفك طلاسمها إلا في وقت قريب. صنّفه بعض المؤرخين ضمن القادة المصلحين فيما اعتبره آخرون مجرما بارتكابه عدّة جرائم فى حقّ البشريّة، إنه سليمان القانوني السّلطان العثماني الشهير.
وُلد السلطان «سليمان خان الأول» عام 1495م، وهو ابن السلطان العثماني «سليم الأول»، وأمُّه هي «حفصة خاتون» ابنة «منكولي كراني» خان القرم. هو عاشر السّلاطين العثمانيّين وخليفة المسلمين الثّمانين، وثاني من حمل لقب «أمير المؤمنين» من آل عثمان وهو واحد من أعظم السّلاطين في تاريخ الدّولة العثمانية على الإطلاق. حكم القانوني الدّولة العثمانيّة 46 عامًا منذ استلامه الحكم عام 1520م وعمره 26 عاماً، حتَّى وفاته عام 1566م، وهي أطول فترة حكم بين السّلاطين العثمانييّن، وقد اتسعتْ رقعة الدّولة العثمانيّة في عهده ضعف ما كانت عليه قبله، وبلغت أقصى اتساع لها حتى أصبحت أقوى دولة في العالم في ذلك الوقت، ففي عهده تمَّ فتحُ شمال إفريقيا وتمَّ القضاء على دولة المجر وفتح فيينا وبلغراد. 
حفلت سيرة السلطان «سليمان» بالعديد من الإنجازات والأحداث المثيرة، ما بين الحروب والفتوحات والهيكلة الاجتماعية القوية. فقد أصبح «سليمان» حاكمًا بارزًا في أوروبا في القرن السادس عشر، يتزعم قمة سلطة الدولة الإسلامية العسكرية والسياسية والاقتصادية. قاد سليمان الجيوش العثمانية لغزو المعاقل والحصون المسيحية في بلغراد ورودوس وأغلب أراضي مملكة المجر قبل أن يتوقّف في حصار فيينا في 1529م. كما ضمّ هذا السّلطان أغلب مناطق الشّرق الأوسط في صراعه مع الصّفويين ومناطق شاسعة من شمال أفريقيا حتّى الجزائر. وتحت حكمه، سيطرت الأساطيل العثمانية على بحار المنطقة من البحر المتوسط إلى البحر الأحمر حتّى الخليج. ويذكر المؤرخون بأن فى عهده وصلت جيوش المسلمين إلى قلب أوروبا عند أسوار فيينا مرّتين حتّى أنّه لُقّب حينها بمجدّد جهاد الأمّة.
حجز السلطان «سليمان خان» لنفسه مكانة مرموقة بين السّلاطين العثمانيين بفضل ثلاث عشرة غزوة كبرى قادها بنفسه على مدار حياته، بدأها بفتح بلجراد وانتهى بسيكتوار. 
لم يمنعه انشغاله بتقوية شوكة الخلافة العثمانيّة في العالم ومشاركته الشّخصيّة في أغلب المعارك والفتوحات من الاهتمام بالشأن الدّاخلي للخلافة، حيث أدخل «سليمان» العديد من الإصلاحات القضائية التي تهم المجتمع والتّعليم والجباية والتنظيم الاداري وسنّ القوانينِ التي ساهمتْ في تنظيم الدولة العثمانية من جوانب عدَّة . وقد عُرفَ هذا القانون الذي حدّد شكل الإمبراطورية لقرون عدّة باسم قانون أو دستور السلطان سليمان، وقد بقي قانون سليمان حتَّى القرن التاسع عشر.
كان السّلطان «سليمان» يرى أنّ إصلاح القضاء هو الوسيلة الوحيدة لإصلاح شؤون البلاد، فانشغل به كثيرا حتّى تم تلقيبه بالقانونى أي المهتم بالقانون، حيث طبّق القوانين بكلّ صرامة وحزم ولم يفرق بين أحد من رعاياه سواء كان غنيا أو فقيرا. 
قام السلطان سليمان بالعديد من الإصلاحات الضّرائبية، فجعل الضّرائب متفاوتة، حسب دخل الأفراد، كما أسّس نظاماً إدارياً وقانونيّاً عادلاً، عمل على حماية مصالح المواطنين المسيحيّين واليهود تحت ظلّ الإمبراطورية العثمانية. 
لم يكن سليمان شاعراً وصائغاً فقط بل أصبح أيضاً راعياً كبيراً للثّقافة ومشرفاً على تطوّر الفنون والأدب والعمارة في العصر الذّهبي للإمبراطورية العثمانية.
فقد كان السلطان «سليمان القانوني» يهتمّ بالشّعر والشّعراء وشاعرًا له ذوق فني رفيع، وخطاطًا يجيد الكتابة، وملمًا بعدد من اللّغات الشّرقيّة من بينها العربيّة، وكان له بصر بالأحجار الكريمة، مغرمًا بالبناء والتشييد، فظهر أثر ذلك في دولته، فأنفق في سخاء على المنشآت الكبرى فشيد المعاقل والحصون في [رودس] و بلجراد وبودا. وأنشأ المساجد والصهاريج والقناطر في شتى أنحاء الدولة، وبخاصة في مكة وبغداد ودمشق، غير ما أنشأه في عاصمته من روائع العمارة.
وظهر في عصره أشهر المهندسين المعماريين في التاريخ الإسلامي وهو «سنان باشا»، الذي اشترك في الحملات العثمانية، واطلع على كثير من الطرز المعمارية حتى استقام له أسلوب خاص، ويعد جامع السّليمانية الذي بناه للسّلطان سليمان في سنة (964هـ= 1557م) من أشهر الأعمال المعماريّــة في التاريخ الإسلامي.
وفي عهده وصل فنّ المنمنمات العثمانيّة إلى أوجه. وقد قدّم «عارفي» وثائق الحوادث السّياسية والاجتماعيّة التي جرت في عصر سليمان القانوني في منمنمات زاهية، ولمع في هذا العصر عدد من الخطّاطين العظام يأتي في مقدمتهم: «حسن أفندي جلبي القره حصاري» الذي كتب خطوط جامع السّليمانية، وأستاذه «أحمد بن قره حصاري»، وله مصحف بخطّه، يعدّ من روائع الخطّ العربي والفنّ الرّفيع، وهو محفوظ بمتحف «طوب قابي» باسطنبول.
وظهر في عهد السلطان سليمان عدد من العلماء، في مقدمتهم: «أبو السعود افندي» صاحب التّفسير المعروف باسم «إرشاد العقل السّليم إلى مزايا الكتاب الكريم».
في سبتمبر من عام 1566م وبعد ستة وأربعين عامًا من الحكم توفِّي سليمان القانوني عن واحد وسبعين عامًا، وكانت وفاته أثناء محاصرة الجيش العثماني مدينة سيكتوار، فقام الجنود العثمانيون بدفن جسده في الخيمة التي كان يقيم بها وأخفوا الخبر عن الناس، وبعد حصار سيكتوار رجع الجيش العثماني إلى إسطنبول بجثمان السلطان سليمان القانوني، وكان السلطان العثماني قد أوصى أن يُدفَنَ صندوق معه في قبره، ولمَّا خشي العلماء أن يكون في هذا الصندوق مال فلا يجوز دفنه مع الميت، فقاموا بفتح الصندوق ووجدوا فيه الفتاوى التي أفتاها العلماء للسلطان القانوني، فبكى شيخ الإسلام أبو السعود من الموقف وقال: «لقد أنقذتَ نفسَكَ يا سليمانُ، فأيُّ سماءٍ تظلنا، وأيُّ أرضٍ تُقلنا إن كنا مخطئين في فتاوينا؟»
لم يعرف التاريخ العثماني خليفة كسليمان القانوني ذلك الرّجل الذي جمع بين الذّكاء والدّهاء وعلو الهمّة والطّموح مع فترة حكم قاربت النّصف قرن. وبلغت رايات الخلافة في عهده أوج قوتها وقمة مجدها وأقصى اتساع لها. لكنّ «سليمان القانوني» لم يكن ملكا منزلا ولا نبيّا مرسلا. لقد كان ملكا من الملوك له حسناته كما له مساوئه وأخطاؤه. ويجدر بنا أن ننظر إلى فترة حكمه وما تخلّلها من أسباب أوهنت الدّولة وأضعفت من جاء بعده بعين الاعتبار والنّقد بعيدا عن التّمجيد والتّقديس أو المبالغة في الذّم واللّوم. 
فتبعاً لكثير من المؤرّخين، فإنّ من أسباب انحدار الخلافة العثمانيّة هو تمكّن بعض زوجات السّلطان القانوني وعلى رأسهم «روكسلين» من تشكيل ما يمكن أن نطلق عليه بحكومة ظلّ أصبحت بمساعدة خصيان القصر قادرة على التّلاعب بمقادير الحكم والتّأثير على قرارات السّلطان، متجاوزة بذلك تأثير الصّدر العالي والقضاة بل وحتّى ديوان السّلطان من رجال الدّولة. جاء تتويج تلك التّدخلات بقدرة حكومة الظّل تلك على توغير صدر السّلطان على ابنه مصطفى أكفأ أبنائه على إدارة الدّولة من بعده لقتله وتنصيب سليم الثّاني خليفة من بعده على الرّغم من قلّة درايته بأمور الحكم. 
ومن أخطاء «السّلطان» التي دفعت بالدّولة العثمانية من بعده إلى براثن الانهيار، تلك الامتيازات التّجارية التي دشن أولها الخليفة القانوني مع فرنسا وجعلها سنّة للخلفاء من بعده. تلك الامتيازات كانت تمنح الطّرف الآخر والذي كان عادة إحدى الدّول الأوروبية حقوقا في التّنقل والملاحة وحقوقا في التّجارة دون التزامات ضريبيّة. وإن وجدت فكانت عادة ما تكون رمزيّة. لقد أدّت سياسة الامتيازات إلى فقد الدّولة العثمانية لكثير من إيراداتها التي كانت تجنيها عن طريق التّجارة، كما أدّت إلى فتح الباب على مصراعيه أمام التّدخل الأوروبّي في الشّؤون العثمانيّة.
من الأخطاء أيضا التجاء السّلطان «سليمان» إلى سكّ كميات من العملة حملت مع مرور الوقت نسبا أقل وأقل من الفضّة لتغطية النّقص في ميزانيّة تمويل وتسليح الجيش العثماني وكثرة جبهات القتال على تخوم الامبراطورية الواسعة. هذه السّياسة النقديّة اتبعها خلفاؤه بشكل كبير، فبعد عقدين من وفاة «القانوني» نجد أنّ نسبة الفضّة في العملة العثمانيّة قد وصلت إلى نصف ما كانت عليه زمن «القانوني». وهكذا ساهمت تلك السياسات النقدية غير الحكيمة بانخفاض قيمة العملة ومهّدت إلى انتشار التّضخم في المجتمعات العثمانيّة وما صاحبه من غلاء وانتشار للفقر والفاقة.