أسماء الله الحسنى

بقلم
الهادي بريك
التوّاب ـ الحليم ـ الرحيم ـ الرّؤوف
 كلمة إبتدائية حول الصفة الرحمانية الإلهية
مبدأ العلم في ما سمّي قديما بالأسماء والصفات ‏‎(وهي أسماء بالتّعبير ‏الشّرعي وليس صفات) ‎هو ذلك التّرتيب الذي بدأنا به هذه السّلسلة ‏‎» ‎من ‏هو الله؟» ‎من بعد إستقراء بيّن لنا أنّ أسماءه التي تربو عن المائتين كما ‏أحصاها المحصون من الكتاب خاصّة والسّنة كذلك مرتّبة على أساس أنّه ‏يعرّف عباده به ليحسنوا عبادته فهو العليم أوّلا إذ أنّ أسماء العلم سبقت ‏غيرها كمّا وورودا، ثمّ هو الرّحيم ثانيا، ثمّ له أسماء العزّة والقوّة والقدرة ‏وما في حكمها، ثمّ هو الحكيم من بعد ذلك، ثمّ هو ذو العقاب والإنتقام‎.
‎حسن ‏العلم بهذا السلّم مقدّم فهو يجمع أسماءه سبحانه في منظومة قيمة واحدة ‏مرتّبة بحسب ما رتّبها القرآن الكريم ولم يرد ذلك عبثا أو بثّا مبثوثا بل ‏ورد ذلك ليستقرئه المستقرئون ويستنبطوا منه علما صحيحا به سبحانه ‏ومعرفة بمقامه الكريم تعالى. 
‎شيء آخر لا بدّ منه هنا وهو أنّ العنوان ‏الأول القمين بإظلال الأسماء كلّها إنّما هو عنوان الرّحمة إذ عرّف بنفسه ‏أنّه «الرّحمان الرّحيم» ‎سواء في البسملة التي تفصل كلّ سورة عن أختها ‏أو في الآية الثّانية من السورة التي يقرؤها المؤمن مرّة كلّ أربع ساعات ‏على مدار الحياة‏‎» ‎الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ»(1)  ‎أكثر أسماء ‏الرّحمة ورودا هي: ‎الرّحيم ‏‎ 113» ‎مرّة»،‏‎ ‎ثمّ الغفور ‏‎ 90» ‎مرّة»،‏‎ ‎ثمّ  ‏الرّحمان ‏‎ 57» ‎مرّة»،‏‎ ‎ثمّ كلّ من: ‎التّواب والحليم والرّؤوف‏‎ 10» ‎مرّات» ‏لكلّ منها، ‎ثمّ أسماء أخرى مثل العفوّ والغفّار والغافر، وأسماء مركّبة من ‏مثل ‎ذو الرّحمة، وأرحم الرّاحمين، وذو مغفرة، وخير الرّاحمين، وذو رحمة ‏واسعة، وواسع المغفرة، وأهل المغفرة، وخير الغافرين، وقابل التّوب، وغير ‏ذلك ممّا قد لا يحصى.
‎حاصل أسماء الرّحمة وهي في المرتبة الثّانية كما ‏مرّ بنا يتجاوز‏‎ 260 ‎إسما. ما يهمّني هنا هو أنّ عنوان أسمائه هو عنوان ‏الرّحمة ومنها الإسم الذي لا يشاركه فيه أحد أي الرّحمان ومن ذا تعدّدت ‏أسماء الرّحمة كما تعدّدت صيغها الصّرفية والتّركيبيّة.
الرّحيــــــــــــــــــــم
لن أطنب في إستقرائه إذ هو من جنس ‏‎» ‎الرّحمان» ‎الذي مرّ بنا في أوّل ‏هذه السّلسلة. ‎ «الرّحيم» على وزن فعيل وهو الأكثر ذكرا‏‎ 113» ‎مرّة» ‎بعد ‏العليم ‏‎ 154» ‎مرّة». ‎ومعناه أنّ الله سبحانه يبسط رحمته بشكل مبالغ فيه لا ‏يتصوّره مخلوق وهو الإسم الذي يرافق إسم الرّحمان في مواضع كثيرة ‏ومنه أسبغ سبحانه على نبيّه محمد عليه السّلام شيئا إذ سمّاه رحيما في ‏قوله ‎«بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ» (2)‎ ومن ذا لا يقنط من رحمة الرّحمان إلاّ ‏كنود جحود وذاك مراده سبحانه ألاّ ييأس من فضله مسرف مهما طوّح ‏بعيدا.
التــــــــــــــوّاب
التّواب: ‎إسم فاعل على وزن فعّال من تاب، يتوب، توبا. ‎تاب معناه آب ‏وعاد ورجع وفاء. ‎من لطائف هذا الإسم أنّه سبحانه ذكر لنا في سورة ‏التّوبة أنّه هو من يتوب على عبده، فإذا تاب الرّبّ تاب العبد «‎ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا»(3)‎ ‎معنى ذلك أنّ الله سبحانه هو من ييسّر لعبده التّوبة إذ ‏يتوب الله ‏‎على ‎عبده فيتوب العبد ‏‎إلى‎ ‎ربه‎. ‎يرسم لنا العلاقة معه ‏سبحانه في أسماء كثيرة أنّها علاقة تبادليّة تعاوضيّة تسير في الإتجاهين ‏بلا تعارض‎. هو يرضى عن عباده وهم يرضون عنه. ‎كلّ ذلك في ‏الغرض ذاته أي شعور العبد أنّ ربّه قريب منه وأنّه قريب من ربّه وأنّه لا ‏واسطة بينهما ولا حواجز بما يملأ الفؤاد طمأنينة. ‎التّوبة وهي الأوبة ‏والثّوبة والعودة والرّجعة والفيئة لا تكون عادة إلاّ من بعد الإلمام بذنب ‏فهي فعل يمحو الذّنب ويقبر أثره كمن يرسم فوق الأرض بقدميه أثرا ‏فتهبّ الرّياح عافية عن ذلك الأثر ليغدو أثرا بعد عين. ‎ذلك هو ما ‏يفعل الله سبحانه بعبده التّائب الآئب.
‎لم يرد هذا الإسم بصيغة ‏التجريد «‎تائب» ‎منسوبا إليه سبحانه إنّما ورد دوما بصيغة المبالغة أي ‏توّاب فهو سريع التّوبة وكثير التّوبة وكبير التّوبة وهو يقبل التّوبة عن ‏عباده وهو من ينشئ أسباب التّوبة ولعظمة هذا الإسم أفرد له سورة ‏سماها هو سبحانه سورة التّوبة التي تاب فيها على المخلّفين الثلاثة عن ‏تبوك، بل أخبرنا أنّه تاب فيها على النّبي نفسه والمهاجرين ومن ‏معهم‎. 
التّوبة من الله سبحانه لا تستوجب ذنبا تمحوه إنّما هي في حقّ عباده ‏المقرّبين نافلة وهديّة وإلاّ فما أتى عليه السّلام حتّى يتوب عليه سبحانه؟ ‏ولكن لأنّه لا يقدر قدره أحد سبحانه، فإنّ توبته حتّى على ملائكته وأنبيائه ‏فضل منه ونافلة وكوثر هم في حاجة إليه.
الحليـــــــــــــــــــــــم
الحليم: على وزن المبالغة فعيل كعادة أكثر الأسماء. ‎أصله: ‎حلم (‎بفتح ‏الحاء وضمّ اللاّم) ‎ومضارعه ‏‎: ‎يحلم ‎(بضمّ ‏اللاّم) ‏‎ ‎والمصدر: ‎حلما ‏‎(بكسر الحاء وسكون اللاّم)‎ ‎وذلك مطلوب للتّمييز ‏بين الحلم الذي يعني الرّؤيا المناميّة (‎بضمّ الحاء وسكون اللاّم) ‎وبين ‏الحلم الذي يعني بلوغ سنّ الرّشد والتّكليف ‏(بضمّ الحاء واللاّم معا)‏‎. ‎لك ‏أن تنزّل القاعدة اللّغويّة المعروفة أوّلا وهي أنّ الكلمات التي تشترك في ‏جذر واحد تشترك بالضّرورة في الدّلالة بنسبة ما وبوجه ‏ما. ‎الحلم ‎(العفو) ‏‎ ‎والحلم (‎البلوغ) ‏‎ ‎والحلم (‎رؤيا النّوم) ‎تشترك كلّها في ‏دلالة واحدة عنوانها: ‎اللّطف. ‎كلّ حالة من هذه الحالات الثّلاث فيها ‏لطف. ‎بمثل ذلك يكون الله سبحانه حليما أي صفوحا يتجاوز عن ‏المسيء‎. هناك إشتراكات وإختلافات بين هذه القيم التي تفيء نهاية إلى ‏حقل واحد أي الرّحمة والحلم واللّطف والصّفح والعفو والرّأفة ‏وغيرها. ‎الحلم يكون إمّا صفحا وتجاوزا عن مسيء كما يكون رحمة ‏ولطفا وشفقة ورأفة بغير مسيء بل هو ضعيف أو عاجز. ‎
الله سبحانه حليم ‏بالمعنيين معا‎. السّؤال هو: ‎أيّ علاقة بين الحلم المنتمي إلى صفات ‏الرّحمة وبين الحلم التي جمعها أحلام كما وردت في قوله سبحانه ‎ «أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم بِهَٰذَا»(4)‎ ‎الأحلام هنا هي العقول التي عبّر عنها في مواضع ‏أخرى بكلمة (النهى) ‎أو (‎الألباب). ‎
لا بدّ من الفيئة مرّة أخرى إلى ‏القاعدة اللّغويّة آنفة الذّكر أي أنّ كلّ إشتراك في الجذر هو إشتراك في ‏المعنى ومن ذا فإنّه لا يكون حليما إلاّ من يكون عاقلا حصيفا رشيدا له ‏عقل ينهاه عن الإنتقام والعنف والتّشفي والتّنكيل ومثله لبّ. ‎يكون الإنسان ‏حليما لأنّه يعود إلى عقله النّاهي ولبّه الصّافي عندما يساء إليه فيصفح أو ‏عندما تعرض له حالة ضعف أو عجز فيبادر بتقديم العون. ‎أمّا الله سبحانه ‏فهو حليم لأنّه أشدّ غيرة على عبده من نفسه وهو يرضى لعبده الشّكر ولا يرضى له الكفران.
الـــــــرّؤوف
الرّؤوف على وزن فعول مثل شكور وغفور. ‎الرّؤوف من: ‎رأف، يرأف، ‏رأفا ورأفة. ‎إسم الفاعل الأصلي: ‎رائف. ‎ولكن كعادة أسمائه سبحانه لا ‏ترد بالصّيغة المجردة عفوا من المبالغة إلاّ نادرا جدّا بغرض إغراء عباده ‏برحمته وحلمه وفضله فلا ييأسون ولا يقنطون. 
‎الرّأفة قريبة من الحلم ‏سيما في معناه الثّاني أي أنّهما يشتركان في معنى رقّة القلب وحنان الفؤاد ‏في معرض الحاجة إلى ذلك من لدن ضعيف أو عاجز. ‎يرأف المرء عادة ‏بالطّفل الصّغير وبالعجوز وبمن في حكمهما. ‎ليس من سنة الرّأفة خاصّة ‏أن تكون بعد ذنب إقترف ولكنّها رأفة الله سبحانه الذي ييسّر على عباده ‏ويلطف بهم فيما كلّفهم به. ‎إسم الرّأفة تحلّى به نبي الرّحمة محمد عليه ‏السّلام إذ سمّاه ربّه سبحانه‏‎» ‎بالمؤمنين رؤوف رحيم». ‎الرّأفة خلق أصيل ‏في الإنسان عامّة والمؤمن خاصّة ولذلك نهى سبحانه أن تغشى الرّأفة ‏أفئدة المؤمنين عندما يتعلّق الأمر بحقّ الإنسان، إذ قال في معرض عقوبة ‏الجلد‏‎ «وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ»(5)‎ ‎ذلك أنّ المشهد مؤلم قاس وقد ‏تشغب الرّأفة على كثيرين، فيطغى عليهم ذلك المشهد وبسرعة مذهلة ‏يغفلون عن حقّ تلك المرأة التي إغتصبت مثلا وتلوّث عرضها. 
‎الأمر هنا ‏متعلّق بحقّ الإنسان في حماية عرضه وصون شخصيّته المعنويّة إذ أنّ ‏من إغتيل معنويّا فقد مات موتا معنويّا وأيّ حياة لإمرئ لم يعد له أي ‏إعتبار في النّاس؟ ولعظمة خلق الرّأفة أخبرنا عليه السّلام أن إمرأة بغيّا ‏من بني إسرائيل دخلت الجنّة في كلب سقته من موقها رأفة به وهل يريد ‏الله سبحانه من عباده سوى أن ترقّ قلوبهم وتلين أفئدتهم لكلّ ضعيف ‏عاجز ؟
الهوامش
(1) سورة الفاتحة - الآيتان 1 و2 
(2) سورة التوبة - الآية 128
(3) سورة التوبة - الآية 118
(4) سورة الطور - الآية 32
(5) سورة النور - الآية 2