تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
ماذا وراء الضباب
 لا تخشى السّقوط طالما بعده نهوض وانطلاق من جديد.‏
للعقل في صفاء الذّهن رؤية شفّافة بعيدة المدى توضّح الأشياء مهما بعدت ‏المسافات. مثله مثل العين المبصرة والأذن الصّاغية -عضوين حسّيين من ‏الأدوات التي يستشعر بها العقل العوامل المؤثّرة على صحّة الجسم الذي ‏يحويه- يشوش الضّباب والضّوضاء الطّفرة التي كانت ستشكّل صورتها.‏
اليوم وجدتني في جوّ مشحون بضباب كثيف إن مددت يدك لا تكاد تراها. ‏اضطربت المشاهد وأصبحت الأشياء تتراقص دون حدود تحيطها. فكانت ‏الأجسام هلاميّة تتداخل فيما بينها. متى ينقشع هذا الغشاء لتتجلّى الحقيقة ‏صافية، عارية، تغتسل بأنوار أشعة شمس ساطعة من وراءه؟ ‏
إذا كان الضّباب عند أخصائيي الأرصاد الجويّة‎ ‎عنوانه الاستقرار حيث يخفي وراءه ‏جوّا رائقا وصاف، فإنّ الضّباب الذي آلمني عنوانه تقلّبات واهتزازات عنيفة نتيجة ‏صراعات كانت داخليّة عقائديّة واجتماعيّة، فإذا بها تتحوّل إلى تدخّل خارجي ‏يدفعه الطّمع في خيراتنا التي لم نعرف استكثارها بشكر الله وحمده ولا حسن ‏التّصرف فيها.‏
الحقّ هو أنّنا قد نستحقّ هذه الجراح لما زرعنا من أشواك وقد نستحق ‏الخفقان حيث نجح الخصم المترصّد، لأنّ اليقظ يقتات بما يفتكّ من وعاء الغافل ‏والخامل. ‏
قد نستحق كلّ هذا الاضطراب وهذا التدنّي الذي يصيب أمّتنا. ويصدق دائما ‏كلام الله «كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ»(1)، فكيف أصبحنا ؟ على أيّ حال أصبحت ‏هذه الأمّة؟ هل وراء هذا الحراك الشّعبي هنا وتلك الثّورات هناك من أمل ‏ينقضها ويعيد لها الحرّية والكرامة؟ ‏
يبدو أنّ هذه الحرّية وهذه الكرامة مستقيمان متوازيان في نظم أمّتنا لا يلتقيان ‏إلاّ صدفة. وها قد حدثت ذات مرّة فاستبشرنا وقلنا هذه هي ثورة الحرّية ‏والكرامة، لكن في حينها تباعدتا ثمّ سرعان ما ابتعدتا. ألا يصحّ قوله تعالى ‏‏«أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ ‏اللَّهَ عِنْدَهُ» (2) ‏
لم أكتب منذ مدّة، توقّف فيها سيل أفكاري وتعطّل بضباب كثيف لم أر من خلاله ‏الأشياء بوضوح. وعجبي ممّن يدّعون الرّؤى، هؤلاء الذين تسلّحوا دوني بهوائيّات ‏على رؤوسهم يتبادلون بينهم ما طاب من إشاعات مغرضة وتهافت لا طائل منه. ‏يبدو أنّ أمّتنا اختارت التّعويل على المنجّمين وقارئي الكفّ والفنجان والعاكفين ‏بالدّعاء والعيال تضوع بطونهم جوعا. ‏
لم أكتب منذ مدّة، توقّف فيها سيل أفكاري وتعطّل منذ أسْكِت ذو علم خوفا أن ‏يُطْبع بالتطبّع أو بالتّطبيع، وانطلقت ألسن سليطة لا يردعها رادع. أسفي على ‏من تسلّقوا مراتب غير مراتبهم، ولمّا تربّعوا وتوسّدوا تدحرجوا صاغرين. وطوبا ‏لمن تزهّد رفعة، فالتف الملأ حوله إجلالا وتقديرا.‏
لم أكتب منذ مدّة، توقّف فيها سيل أفكاري وتعطّل حتّى ضاعت تمتماتي بين ‏الورقات المبعثرة مثل حالي. أنا، هل كنت يوما أكثر بؤسا من هذا اليوم؟ هل ‏يأتي غد يجعل يومي هذا نكبة تزول وتمضي، فأحتفل بذكراها بالضّأن والحلوى؟ ‏أم هي نكبة ثانية بشؤم الأولى يتواصل دوامها بإحياء ذكراها؟
لم أكتب منذ مدّة، توقّف فيها سيل أفكاري وتعطّل منذ أصبحت لا أعرف نفسي ‏بين من حولي. أي غريب في أهلي على لسان التّوحيدي.‏
الهوامش
(1) سورة آل عمران - الآية 110
(2) سورة النور - الآية 39