التدوينة

بقلم
عبدالمجيد بلبصير
من بصائر الذكر في القرآن الكريم
 حقيقة الذّكر وفضله
لعلّ التّأمل في موارد الذّكر في القرآن الكريم، وعلى‎  ‎الخصوص فيما يضاف فيه منها ‏لفظ الذّكر إلى الله سبحانه مباشرة يفضي إلى أنّ حقيقته انفعال نفساني بالأساس، يدرأ ‏عن النّفس الغفلة عن الله والسّهو عنه ونسيانه جلّ وعلا‎ .‎وهو انفعال ينبغي أن يغمر قوى القلب والعقل في الإنسان حتّى تثمر لديه ملكة التفكّر ‏في الخلق تسبيحا للخالق سبحانه. فيكون من أولي الألباب «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ»(1) كما ينبغي أن يكون حركة دائمة دائبة في النّفس لما يفيده تعدّد هيآت الذكر ‏‏«قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِم» ولما يقتضيه الأمر الجاري على سبيل التّوكيد مع طلب ‏التّكثير«اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا» (2) في غير ما موضع من القرآن.‏ إذ بهذا الذّكر الكثير يصحّ الانتساب إلى زمرة «الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ» (3) فيكون ‏العبد في مأمن واستبراء لدينه؛ وإلاّ متى خفت حدّة الذّكر في القلب وخارت قوّته كان ‏المرء في حكم من يرعى حول حمّى النّفاق يوشك أن يواقعه؛ فيمخر الكسل عباب ‏عبادته وينخر الرّياء صدق إخلاصه، فتكون حاله ممّن‎ ‎صدق قوله سبحانه «وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا»(4) .‎حتّى إذا ما ‏انقطعت سبل علاج المرض وصار العبد حقيقة ممّن قال فيهم سبحانه‏ «فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا»(5) هلكت ملكة الذّكر في النّفس فلم يعد ينفع معها ذكر ولا ‏ذكرى «وَإِذَا ذُكِّرُواْ لَا يَذْكُرُونَ»(6) ‎.‎
وربّما آل الأمر إلى ما هو أبشع وأشنع بحيث يعتري القلب اشمئزاز عند سماع ذكر ‏الله «وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ»(7) وهي حال والعياذ بالله تفضي بصاحبها الى ضنك العيش في ‏الدّنيا وعمى البصر والبصيرة في الآخرة «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى»(8) وذلك كفاء نسيانه لخالقه ورازقه بنسيان آيات ‏إحسانه ورحمته «قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى»(9) .‎
ولمّا كان أمر الذّكر في الدّين كذلك؛ نبّه القرآن على ما يربيه ويزكّيه في النّفس وذلك ‏من جانبين اثنين؛جانب حفظه من جهة العدم بتبيان معطّلاته ومثبطاته ثمّ جانب ‏صيانته من جهة الوجود ببيان مقوياته ومنميّاته‎.‎
معطّلات الذّكر ومثبطاته:‏
أمّا المعطلات فرأسها وساوس الشّيطان؛ وهو لا يفتر عنها ما وجد إليها سبيلا من ‏غفلة؛ ولذلك فهو «جاثم على قلب ابن آدم إذا ذكر الله خنس وإذا غفل وسوس»(10) ‎وهكذا ‏إلى أن يصير له الغلبة التّامة فيتحقّق في المغلوب والعياذ بالله قوله عزّ وجلّ «اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ»(11)‎.
ولعل من أدنى ما يترتّب فيما يترتّب على هذه الوساوس من معيقات الذّكر مخالطة ‏أهل الظّلم والفجور من غير ما إعراض عليهم ونصح لهم إنساء من الشّيطان «وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ»(12) إذ على قدر تمادي المرء في ‏مجالسة هؤلاء على هذه الحال يكون مقدار تشبّهه بأخلاقهم الصّارفة عن ذكر الله نحو ‏تشبهه بخلق السّخرية من الصّالحين كما قال سبحانه «فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي»(13) ‎.‎
ومن كان شغله ازدراء أهل الصّلاح والفلاح كان حريّا أن يكون من ذوي القلوب ‏المقفلة بالعبث في الدّنيا لهوا ولعبا؛ الذين صارت أجوافهم كالبيوت الخربة لا ينفذ إليها ‏نور الهدى ولا يسطع فيها شعاع الحقّ؛إذ هم يوصدون دون ذلك الآذان والجنان «مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ، لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ»(14) وكلّ ذلك ‏معطّل للقبول إذ «أنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ»(15) مبيد للخشوع؛ قائد إلى قسوة ‏القلوب وفسوق الجوارح «أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ»(16) ومن كانت تلك حاله أعرض حتما عن ذكر الله بنسيان أخراه؛ وصار ‏ديدنه الوحيد وأكبر مناه تعلّقه الشّديد بدنياه «فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا»(17) ‎.‎
‎ ‎فهذا وغيره من معيقات الذّكر إنّما هو غنائم للشّيطان يحوزها من حربه الضّروس ‏بينه وبين بني آدم بمقتضى عداوته الرّاسخة إزاءهم من الأزل إلى الأبد، لذا كان ‏صرفه لقلب العبد أنكى وأنكد. فلم يكن مجرد صرف عابر وإنّما هو صدّ قاهر «إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ»(18) .‎
مقويّات الذّكر ومنميّاته
ولمّا كان ذلك كذلك كان من رحمته عزّ وجلّ أن جعل مقويّات الذّكر أقوى أثرا ‏؛ومنمياته أوفر شررا، رجما للشّيطان ورقيا في مدارج الإيمان طلبا للإحسان. وممّا ‏ورد منها في القرآن أربعة أمور:‏
أ) التسبيح؛ وهو ذكر لساني مع تدبّر المعاني؛ فيه تمجيد لله سبحانه بذكر أسمائه ‏الحسنى وصفاته العلا، وفيه حمد له تعالى على كلّ حال. لذا نجد لفظه في الآي كثيرا ‏ما يضاف إلى اسم الله نحو «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى»(19) أو يقرن بحمده سبحانه «فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ»(20)، «يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ»(21). ولبالغ أثره في عكس نور الذّكر النّفساني على ‏القلب، غالبا ما يتعاطف مع الذّكر بمعناه العقلاني والوجداني نحو قوله تعالى حكاية ‏عن موسى وهارون عليهما السّلام «كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا، وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا» (22) وقوله سبحانه ‏من أمره لزكرياء عليه السّلام «وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ»(23) وقوله أيضا ‏من أمره للمؤمنين «اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا»(24). فمن لزم الذّكر ‏بمعنييه النّفساني ثمّ اللّساني المسمّى تسبيحا في أوقاته المطلوبة المرغوبة عشيّا ‏وإبكارا، لم يشذ حتما عن النّاموس الذي يجري عليه سائر الخلق طوعا لله «وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ»(25) «يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ»(26) ‎
‏ب) ذكر نعم الله وآلائه ؛ على نحو ما وقع التّنصيص على الأمر به على سبيل التّمثيل، ‏فالتّذييل في قوله عزّ وجل في شأن ثمود على لسان صالح عليه السّلام ‏‎»‎وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ»(27) ‎ونحو قوله سبحانه في ‏شأن بني إسرائيل على لسان موسى عليه السّلام «يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ»(28) هذا ناهيكم عمّا ‏خصّت به أمّة الإسلام من الأمر بتذكّر كثير من النّعم التي أنعم بها المولى تعالى عليها ‏نحو قوله سبحانه «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا»(29) وقوله «فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ»(30) فذكر نعمه تعالى ‏وآلائه من أكبر روافد الذّكر أيضا لأنّها معين لا ينضب «وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا»(31) ‎ولذلك وجه الأمر بتذكرها إلى كلّ الأقوام لأداء حقّ العبوديّة بشكره سبحانه ‏بالعمل الصّالح؛ إذ جماع الشّكر صلاح العمل كفاء ما يغدق الله على النّاس من نعم لا ‏تنحصر ولذلك ورد في تعريف الشّكر ما يفيد أنّه فعل ينبئ عن تعظيم المنعم عليه ‏المنعم سبحانه لأجل ما أنعم به؛ وإنّما الفعل فعل الجنان واللّسان والأركان؛ وهو ما ‏يراد بالعمل الصّالح كما يستفاد من كثير من آي الشّكر والعمل الصّالح.‏
ج) ذكر أحوال الصّالحين من الأنبياء والمرسلين : كما في قوله سبحانه ‏‎وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ، إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ»(32) ‎‎
د) تدبّر الوحي المنزل : كما في قوله سبحانه المكرّر في سورة القمر «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ»(33) ‎
جعلنا سبحانه ممن قال فيهم «إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ»(34) الذين يذكرهم جلّ وعلا بذكرهم ‏له سبحانه «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ»(35)، «وإنْ ذَكَرَنِي في مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ في مَلَإٍ خَيْرٍ منهمْ»(36) .‎
الهوامش
(1) سورة آل عمران - الآية 191
(2) سورة الأحزاب - الآية 41
(3) سورة الأحزاب - الآية 35
(4) سورة النساء - الآية 142
(5) سورة البقرة - الآية 10
(6) سورة الصافات - الآية 3
(7) سورة الزمر - الآية 45
(8) سورة طه - الآية 124
(9) سورة طه - الآيتان 125 و126
(10) رواه البخاري عن ابن عبّاس
(11) سورة المجادلة - الآية 19
(12) سورة الأنعام - الآية 68
(13) سورة المؤمنون - الآية 110
(14) سورة الأنبياء - الآية 2
(15) رواه الترمذي (3479)، 
والحاكم (1817) وغيرهما.
(16) سورة الحديد - الآية 16
(17) سورة النجم - الآية 29
(18) سورة المائدة - الآية 91
(19) سورة الأعلى - الآية 1
(20) سورة الحجر - الآية 98
(21) سورة غافر - الآية 7
(22) سورة طه - الآية 33
(23) سورة آل عمران - الآية 41
(24) سورة الأحزاب - الآيتان 41 و42
(25) سورة الإسراء - الآية 44
(26) سورة الجمعة - الآية 1
(27) سورة الأعراف - الآية 74
(28) سورة المائدة - الآية 20
(29) سورة آل عمران - الآية 103
(30) سورة البقرة - الآية 239
(31) سورة النحل - الآية 18
(32) سورة ص - الآيتان 44 و45
(33) سورة القمر - الآية 17
(34) سورة الرعد - الآية 19
(35) سورة البقرة - الآية 152
(36) رواه ابو هريرة، أخرجه البخاري (7405)، ومسلم (2675) باختلاف يسير