نقاط على الحروف

بقلم
عبدالمجيد بن ابراهيم
المشروع الفكري للجابري تعقيبات حول مسالة القطيعة ومنزلة الشاطبي ‏ومشروعيّة المقاصد في تاريخ الفكر
 مدخل
ما إن تمّ اكتشاف كتاب «الموافقات» للإمام الشّاطبي(1) حتّى خاض فيه الخائضون وتعدّدت فيه ‏القراءات والتّأويلات.  واعتمدت هذه التّناولات على عدّة خلفيّات نظريّة من ذلك ما خطاه ‏الأستاذ محمد عابد الجابري(2)  حيث اعتبر أنّ الشّاطبي كان يشكّل قطيعة ابستمولوجيّة(3) ‏مع القياس الفقهي وأنّه جزء من مشروع متكامل عموده البرهان.‏
نعتبر هذه المصادرات أو المقدّمات غير موفّقة ولذلك نحاول في هذه السّطور القليلة معارضتها ‏بجملة من الحجج العلميّة، وقد قسّمنا استراتجيّة عرضنا على النحوالتّالي:
‏(1) محاججة الجابري في كون الشّاطبي لايشكّل قطيعة بل تواصلا.
‏(2) الشّاطبي يتعارض تماما مع ما اعتبره الجابري مشروعا شكّله ابن رشد وابن حزم .‏
(1) في اثبات التّواصل بين القياس والمقاصد  الشّاطبيّة
هل علاقة القياس(4) بالمقاصد(5) هي علاقة قطيعة و ارتقاء  أم هي علاقة ‏توازي  وتعايش؟ لقد قادتنا قراءتنا لجملة النّصوص الى أنّ الإجابة الثّانية هي الأقرب وهو ‏ما سنعمل على بيانه.
بلورالإمام الشّاطبي الأندلسي (ت 790هـ) المقاصد في كتابه «الموافقات»(6) ولم ‏يكن غرضه من متنه هذا هدم القياس الفقهي، بل كان بغاية إثرائه أو إصلاحه أو«توسيع ‏مجال آليّة القياس وردّ الاعتبار لها». ‏فالشّاطبي ينتمي الى سياق تعليلي(7) فإذا كان من قبله يعلّل الحكم بالعلّة، فإنّه أي الشّاطبي يعلّل الأحكام بالمقصد. فالتّعليل «هو في الأصل في القول بالاستحسان والمصالح ‏المرسلة»(8) فلو عدنا الى مسالك تخريج المقاصد لوجدنا أنّ المقصد خلاصته استقراء لعدد ‏من الجزئيّات  لبلوغ كلّية او كلّيات معتبرة وأنّ الجامع بين الجزئيّات هو التّماثل والتّشابه مثلما ‏هو العلّة  المتشابهة بين الأصل والفرع  في القياس وهو ما يدلّ على أنّنا فعلا لم نخرج من ‏سياق الى آخر، فالقياس والمقصد كلاهما من نفس المنظومة.‏
وهناك دليل آخر داعم لأطروحتنا هذه المناقضة لأطروحة المفكر الجابري وهي متعلّقة ‏بالإصطلاح ، فما غفلت عنه أطروحة  الأستاذ الجابري هو أنّ الشّاطبي استعمل نفس الجهاز ‏الاصطلاحي للقياس في بلورة مقاصده ونقصد هنا «تخريج المناط» و«تحقيق المناط» ‏و«تنقيح المناط»(9)‏
ويمكن أن نضيف حجّة أخرى وهي أنّ الشّاطبي سواء في كتابه «الموافقات» أو في كتابه « ‏الاعتصام» لم يبرح أرض أصول الفقه، بل كان كما قلنا في فقرة سابقة يدور في فلكه، فهو يشيد ‏بالقياس والاستحسان  والاستصحاب  وسدّ الذّرائع .. ويشير في كتبه الى كثير من الفتاوى التي ‏وقع تخريجها بهذه الأصول.
فالشّاطبي لا يعمل على هدم أصول الفقه أو القياس كما يذهب المفكّر الكبير محمد عابد ‏الجابري بل كانت أولوياته المحافظة عليه لكن إخراجه من جموده وإصلاحه واصلاح ‏عصره (لاسيما حالة الأندلس قبل سقوطها وسقوط الّدولة الموحديّة)‏.
يمكن أن نتعمّق أكثر في موضوعنا لنحلّل أنّ الشّاطبي كان ينتمي الى  تيار عريض  في ‏الأصول يعمل على إصلاح القياس وقد تواصل حتّى بعد الشّاطبي.
سوف لن نذكر الآن محاولات ابن حزم فهي تتعارض حتما مع مشروع الشّاطبي، فالمشروع ‏الحزمي يتأسّس على «القياس اللّوجستي» الأرسطي الذي تحكم علاقاته العلاقة المنطقيّة بينما ‏الشّاطبي وكما بيّنا مرارا وتكرارا ينتمي الى  التّعليل وعلاقة المشابهة بين الأجزاء.
يجدر بنا الالماع الى تجربة الغزالي (ت 505هـ) فقد حرص حجّة الإسلام الى استدعاء القياس ‏المنطقي أيضا لكن بعيدا عن ظلاله اللاّهوتيّة، بل أنّ استعارته كانت منهجية أو كـ «آلة»يسعى من ‏خلالها الى ‹عقلنة» القياس الفقهي الذي أبقى عليه بغاية تطويره ولا يهمّنا مدى نجاح هذه ‏التّجربة من فشلها، المهم أنّ شاغل إصلاح القياس موجود ومتواصل(10) .‏
يمكن أن نشير هنا أيضا الى محاولة معاصرة امتعضت من الكثافة اللّغوية للقياس وجموده ‏المزمن وهي في اعتبارنا المحاولة الأكثر وعيا بالمسألة، وهي محاولة إمام الزّيتونة الشّيخ محمد ‏الطّاهر بن عاشور (توفي 1973م). لنتركه يشرح مشروعه: «إنّ معظم  مسائل أصول الفقه لا ترجع ‏الى خدمة الشّريعة ومقصدها ولكنّها تدور حول محور إثبات الأحكام من ألفاظ الشّارع»(11)‏
الى هذه المحاولات تنتمي الموافقات للإمام الشّاطبي، فهو بعكس ما يقول الجابري «ثورة» أو ‏‏«قطيعة» بل إصلاح من الدّاخل وهو تجديد للأصول والدّين وبعث الحياة للحركة الاجتهاديّة ‏ومن ثمّ إصلاح للعصر الشّغل الشّاغل للإمام الشّاطبي الأندلسي.
كما ناقشنا موضوع القطيعة وفنّدنا أركانه نعرج الآن على مسألة انتماء الشّاطبي الى مشروع ‏كبير قال به الجابري بدأه ابن حزم وابن رشد وهو أيضا ما قابلناه بمعارضة سوف ياتي ‏عرضها في التّالي.
(2) نقض العلاقة بين الشاطبي وابن حزم وابن رشد
يحتفي الجابري بـ «الموافقات»لأنّها تكمل ما بداه ابن حزم وابن رشد أي تكوين مشروع ‏مغربي برهاني إذ يقول «تطوير ثلاثة خطوات منهجيّة تعرضنا عليهما سابقا، الخطوتان الأوليان ‏سبق أن سار معه قبله كلّ من ابن حزم وابن رشد وهما الاستنتاج والاستقراء. أمّا الخطوة الثّالثة، ‏فقد برزت عند ابن رشد خاصّة وتمثّلت في التّركيز على ضرورة اعتبار مقاصد ‏الشّرع»(12) هل ينتمي الشّاطبي حقّا الى نفس الطّرح الإشكالي لابن حزم وابن رشد؟ حاولنا ‏الإجابة على هذا السّؤال من خلال تحديد فقرة لابن حزم وتحديد فقرة أطول لابن رشد  لأنّه ‏الأهم في فلسفة الجابري.
(2-1) ابن حزم
بالنّسبة لابن حزم الظّاهري، فإنّ الأمر قد حسمناه تقريبا في الجزء الأول في باب القطيعة بين ‏القياس والمقاصد ويمكن إعادة حصيلته للتذكير إذ بلغنا الى كون ابن حزم لا ينتمي الى نفس ‏السّياق الذي اختاره الشّاطبي، فالإمام الظّاهري يحتفل بالمنطق الصّوري الأرسطي القائم على ‏اللّزوم المنطقي بينما مشروع صاحب الموافقات هو مشروع تعليلي يقوم على اشتراك ‏الوصف في العلّة أو المقصد وبالتّالي لا توافق معرفي بين الرّجلين.
هناك ملاحظة يمكن أن نسوقها لكي نؤكّد التباعد بين الرّجلين، فالشاطبي يذكر ابن حزم في ‏سياق تبخيسي إذ يقول «وقلّما وجدت فرقة زائغة ولا أحد مخالف للسّنة الاّ وهو مفارق لهذا ‏الوصف وبهذا الوجه وقع التشنيع على ابن حزم الظّاهري وأنّه لم يلازم أحدا من الشّيوخ ولا ‏تأدّب بآدابهم وبعكس ذلك كان العلماء الرّاسخون في العلم كالائمة الأربعة ..»(13) فنحن هنا ‏أصبحنا على يقين أنّه لا توافق معرفيّا ولا توافق عاطفيّا بين الرجلين.
(2-2) ابن رشد
لا يبدو لنا الجابري موفّقا هنا أيضا، وسوف نركّز هنا على الأسباب التّاريخيّة أي التّوارد ‏التّاريخي لمصطلح المقاصد ثمّ نورد حجّة مرجعيّات الشّاطبي ومنزلة ابن رشد.
(2-3) التسلسل التاريخي لمفهوم المقاصد ‏
نال تاريخ المقاصد اهتمامَ كثير من الباحثين والعلماء وكلّ قراءات هؤلاء تكشف أنّ ‏مصطلح المقاصد سابق لابن رشد. فالمقاصد كانت نواتها الأولى عند المالكيّة وكانت أهم أصولهم وجاء عليها الإمام الجويني ‏‏(توفي 478هـ)، فهي بالنّسبة اليه «تنزل منزلة القطب من الرّحى»(14) وكان لها اعتبار عند الغزالى ‏واعتمد في ذلك على «مناسبة القياس» واعتبر أنّ المقاصد الأكثر ظهورا هي المقاصد الخمسة ‏الضّرورية: حفظ الدين والمال والعقل والنّسل والعرض، وذكرها العزّ ابن عبد السلام (توفي 660هـ) في ‏كتبه «قواعد الأحكام في مصالح الأنام» وكتاب «مقاصد الصّلاة» وكتاب«مقاصد الصّوم»، ثم ‏ابن القيم في قولته المشهورة «الشّريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاد ‏والمعاش وهي عدل كلّها ورحمة كلّها وحكمة كلّها ومصلحة كلّها»(15)‏
فالمقاصد بهذا المفهوم ذكرها الإمام الأندلسي أبو إسحاق الشّاطبي وهو ما يتناقض مع ما ذكره ‏ابن رشد،  فقد ذكر ابن رشد «مقصود الشّارع» لكنّه ذكره كعبارة عابرة كما يكره بقيّة الفقهاء ‏وغيرهم ليس كما ذكره الشّاطبي. كما لا يفوتنا أنّ نكران ابن رشد ذكر ذلك في سياق عقدي ‏وفي إطار صراع كلامي «مقصد الشّارع ظهر أنّه أقاويل محدثة وتأويلات مبتدعة وإنّما أذكر ‏ذلك ما يجري مجرى العقيدة الواجبة»(16)‏
على هذا النّحو لا يمكن أن يكون ابن رشد ذا منزلة لدى الشّاطبي، فالمتأمّل الفاحص لمتن ‏الموافقات بكلّ أجزائه سوف يصل الى أنّ الشّاطبي قد ذكر الجويني عديد المرّات ولكنّه ذكر ‏الغزالي أكثر من أربعين مرّة ولا يقابله في وزن الأهمّية الاّ مالك والمالكيّون لاعتبار الشّاطبي ‏مالكيّا «إنّ الشّاطبي قد ذكر الغزالي في الموافقات نحو أربعين مرّة في مختلف أبواب الكتاب وفي ‏أكثرها يذكره بالتّأييد والموافقة معتمدا عليه مستشهدا بآرائه بخلاف الأصوليّين حيث يكثر من ‏نقدهم ...»(17)‏
هذا مع الغزالي لكن ماهي مكانة ابن رشد في الحقيقة؟ لا يكاد يذكر الشّاطبي ابن رشد الحفيد ‏صاحب البداية والنّهاية الاّ مرّة واحدة، بل إنّ هذه المرّة ذكر فيها على سبيل النّقد «زعم ابن رشد ‏الحكيم في كتابه الذي سمّاه فصل المقال ما بين الشّريعة والحكمة من اتصال فلينظر المرء أين ‏يضع قدميه...»(18)‏
بعد هذا العرض الطّويل والتّجوال بين النّصوص  نجد أنفسنا مؤيّدين لتهافت أطروحة محمد ‏عابد الجابري  فلا أفقَ معرفيّا مشتركا ولا برهانَ في مشروع الشّاطبي بل هو ينتمي ‏للبيان وأنّ الشّاطبي ينتمي للغزالي والجويني وابن تيميّة ولا ينتمي الى ابن حزم وابن رشد.
إنّ محاولة إثبات نظريّة ما كالقطيعة التي تعدّ فكرة بها مسح الفتنة والجاذبيّة ولو على حساب ‏النّص يؤدّي حتما الى نتائج مرتبكة والأمر لا يخصّ المفكّر الكبير الجابري بل يخصّ أيضا ‏باحثين آخرين كما تلعب أسباب أخرى في بلوغ نتائج هزيلة الى جانب الأسباب الايديولوجية ‏والسّياسيّة.
خاتمة
لقد قمنا بتسليط الضّوء على مسألة الموافقات والمقاصد في مشروع الجابري والأدوات ‏المعتمدة لاسيّما مسألة القطيعة الابستمولوجيّة ورغم أهمّية المشروع، فإنّه لايجب أن يتحوّل الى ‏سلطة معرفيّة بل يجب المرور الى النّقد وهذا ينسحب أيضا على مشاريع أخرى مثل مشروع ‏محمد أركون المفكر الجزائري وهشام جعيط المفكر التّونسي  فكثير من الخلاصات في ‏مشروعاتهم تحتاج الى إعادة نظر.
الهوامش
‏(1) الإمام أبو اسحاق الشّاطبي عاش في الاندلس توفي 790هـ كتب عدّة مؤلفات من أهمها «الموافقات» و«الاعتصام»‏
‏(2) محمد عابد الجابري (1935-2010) دشّن أهم المشاريع الفكريّة المهتمة بالتّراث له ‏مشروع فكري بعنوان «نقد العقل العربي» من أهم مؤلفاته «تكوين العقل العربي» (1986) و«بنية ‏العقل العربي» (2002) «نقد العقل الاخلاقي» (2005)...‏
‏(3) القطيعة الابستمولوجية وهي نظرية اعتمدت في العلوم ثم انتقلت الى الفلسفة لاسيما مع العالم ‏الفيلسوف غاستون باشلار
‏‏(4) القياس « الحق أمر غيرمنصوص حكمه الشّرعي بأمر منصوص على حكمه لاشتراكهما ‏في علّة الحكم»‏
‏(5) المقاصد  «الهدف والغاية»‏
‏‏(6) كتاب الموافقات لابي اسحاق الشاطبي طبعة القاهرة
‏‏(7) تعليلي  اي علة القياس
‏(8) الموافقات  الجزء2 ص59‏
‏‏(9) اصول الفقه الاسلامي  وهبه الزحيلي دار الفكر بيروت 1980‏
‏‏(10) الشوكاني والدهلوي كان لهما نفس الهاجس في اصلاح القياس
‏(11) مقاصد الشريعة الاسلامية  الامام محمد الطاهر بن عاشور  تونس دار الاسلام 2006 ‏ص5‏
‏‏(12) بنية العقل العربي  محمد عابد الجابري الدار البيضاء 1986 ص553‏
‏(13) الموافقات ج1ص50‏
‏(14) غياث الامم في ثبات الظلم ص434‏
‏(15) اعلام الموقعين  ابن القيم الجوزية دار الجيل 1973 ج3ص3‏
‏(16) مناهج الادلة وعقائد الملة  ص133‏
‎‏(17) ‎انظرية المقاصد عند الشاطبي لاحمد الريسوني المعهد العالمي للفكر الاسلامي 1982 ‏ص262‏
‏(18) الموافقات ج3ص378