شخصيات الإصلاح

بقلم
التحرير الإصلاح
يعقوب بن إسحاق الكندي
 اعتبره المؤرخون واحداً من ثمانية أئمة لعلوم الفلك في القرون الوسطى وعدّه عالم الرّياضيات الإيطالي الشّهير « كاردانو » من بين إثني عشر عبقرياً ظهروا في العصور الوسطى. هو مفكّر عميق من الطّراز الرّفيع جمع بين الموسيقى والطّب والفلسفة والفلك والرّياضيات وله آراء عديدة في الحياة والدّين جلبت له التقدير من جهة والنّقد اللاّذع من جهة أخرى. إنّه «أبو يوسف يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندي » المعروف عند اللاتينيين باسم «Alkindus». قال عنه المؤرخ ابن النديم في الفهرست: «يعقوب بن إسحاق الكندي فاضل دهره وواحد عصره في معرفة العلوم القديمة بأسرها، ويسمى فيلسوف العرب. ضمّت كتبه مختلف العلوم كالمنطق والفلسفة والهندسة والحساب والفلك وغيرها، فهو متّصل بالفلاسفة الطبيعيّين لشهرته في مجال العلوم.
وُلد في بداية القرن التّاسع الميلادي في مدينة الكوفة في العراق مهد الحضارة العربية، من عائلة غنيّة حيث كان والده أميرًا على الكوفة في عصر خلافة المهدي والرّشيد، أتمّ حفظ القرآن والكثير من الأحاديث النّبوية الشّريفة وهو في الخامسة عشر من عمره. أراد «الكندي» أن يتعلّم المزيد من العلوم التي كانت موجودة في عصره، فقرر السّفر صحبة والدته إلى البصرة ليتعلّم علم الكلام وكان هذا العلم عند العرب يضاهي علم الفلسفة عند اليونان، وأمضى ثلاث سنوات في البصرة يدرس بها عرف من خلال دراسته كلّ ما يجب أن يعرف عن علم الكلام، لكن فضوله للمعرفة لم يتوقّف عند حدّ قراءة الكتب المترجمة، فبدأ بدراسة اللّغتين السّريانيّة واليونانيّة على يد أستاذين كانا يأتيان إلى منزله ليعلّماه، وأتقن اللّغتين بعد سنتين، وبدأ بتحقيق حلمه، فكوّن فريقاً خاصاً به وصار صاحب مدرسة في التّرجمة تعتمد على الأسلوب الجميل الذي لا يغيّر الفكرة المترجمة. 
ثمّ قرر الرحيل إلى بغداد ليكمل مسيرة تعليمه، حيث حظي بعناية الخليفتين المأمون والمعتصم بالله، فجعله «المأمون» مشرفًا على بيت الحكمة بصحبة الخوارزمي- وعهد إليه ترجمة النّصوص العلميّة والفلسفيّة اليونانيّة القديمة. ثمّ عيّنه «المعتصم» مربّيًا لأبنائه، لكنّ تسلّم «المتوكّل» القريب من الأشاعرة كرسيّ الخلافة، جعل نجم «الكندي» يأفل حتّى أنّه تعرّض للضّرب، وصودرت مؤلّفاته لفترة بعد أن جعله الخليفة في بداية عهده خطّاطه الخاصّ نظرا لجمال خطّه. وقد ذكر «هنري كوربين» الباحث في الدراسات الإسلاميّة - في كتابه «تاريخ الفلسفة الإسلاميّة » أنّ «الكندي» توفي في بغداد وحيــدًا عــام 259 هـ/ 873 م في عهد الخليفة «المعتمد».
بعد وفاته، اندثر الكثير من أعمال «الكندي» الفلسفيّة، لسببين إثنين أولهما اجتياح المغول بغداد حيث عمدوا إلى إحراق كلّ الكتب والمؤلّفات وثانيهما أنّ كتاباته لم تعد تلقى قبولاً بين أشهر الفلاسفة اللاّحقين كالفارابي وابن سينا اللّذين عارضا بشدّة آراءه الفلسفيّة.
كان «الكندي» غزير المادّة،خصب الانتاج في التّأليف، لم يترك ناحية من العلم إلاّ وكتب فيها، فحين ترجم له ابن النّديم أحصى مؤلّفاته، فإذا بها تبلغ نحو مائتين وثماني وثلاثين رسالة، تناولت مواضيع مختلفة منها الفلسفة، والفلك، والحساب، والهندسة، والطبّ، والفيزياء، والمنطق، و المدّ والجزر، وعلم المعادن، وأنواع الجواهر، وأنواع الحديد.
كتب الفيلسوف «الكندي» أكثر من 20 كتابًا فلسفيًا تحدث فيها عن الطّبيعيات وما فوق الطّبيعيات والتّوحيد وأوائل الأشياء المحسوسة والفاعلة والمنفعلة من الطبيعيّات الأولى، والتّدليل على التّوافق بين اللاّهوت الطّبيعي والفلسفة.
ويعدّ «الكندي» أحد مؤسّسي الفلسفة العربيّة الإسلاميّة، وقد تأثّر إلى حدّ كبير بفكر فلاسفة المدرسة الأفلاطونيّة، وإن كان قد تأثّر ببعض أفكار المدارس الفلسفيّة الأخرى، ويبدو ذلك أكثر وضوحًا في آرائه حول ما وراء الطّبيعة وطبيعة الله. 
اعتقد «الكندي» أنّ هدف اهتمامات ما وراء الطبيعة من دراسة طبيعة الوجود وتفسير الظّواهر الأساسيّة في الطّبيعة ومستويات الوجود وأنواع الكيانات الموجودة في العالم والعلاقة بينها، هو معرفة الله. ورأى أنّ الله وحده «الواحد » وحدانيّة مطلقة، لا تعدّدية فيها، وبالتّالي أنكر وصف الله بأيّ وصف يمكن أن يوصف به غيره، وأنّ كلّ شيء يوصف بأنّه «واحد» هو في الواقع «واحد » و«متعدّد » في ذات الوقت. فعلى سبيل المثال، الجسم واحد، لكنّه يتألّف أيضًا من العديد من الأجزاء المختلفة. 
إضافة إلى إفراده الوحدانيّة المطلقة لله، وصف «الكندي» رب العزّة سبحانه وتعالى بـ «الخالق »، وقد خالف في تصوره الفلاسفة الأفلاطونيّين المحدثين المسلمين اللاّحقين حول كون الله المسبّب للأسباب، فهو يرى أنّ الله المسبّب للأسباب لأنّ كلّ الأسباب تحدث بإرادته. كان ذلك التّصور أمرًا مهمّا في مراحل تطوّر الفلسفة الإسلاميّة، حيث قرّبت بين تصورات الفلسفة الأرسطيّة ومفهوم الله عند المسلمين.
تحدّث «الكندي» عن النّبوة والفلسفة واعتبرهما طريقان مختلفان للوصول إلى الحقيقة، وقد فرّق بينهما في أربعة أوجه. أولاً، في الوقت الذي يتوجّب على الشّخص أن يخضع لفترة طويلة من التّدريب والدّراسة ليصبح فيلسوفا، فإنّ النّبوة يسبغها الله على أحد البشر. ثانيًا، أنّ الفيلسوف يصل إلى الحقيقة بتفكيره وبصعوبة بالغة، بينما النّبي يهديه الله إلى الحقيقة. ثالثا، فهم النّبي للحقيقة أوضح وأشمل من فهم الفيلسوف. رابعا، قدرة النّبي على شرح الحقيقة للنّاس العاديين، أفضل من قدرة الفيلسوف.
وكتب الكندي أيضًا في المنطق، فقد عرض أراء «بطليموس» التي أوردها في كتابه المجسطي ومناقشتها، وتكلم أيضًا في البرهان المنطقي والأصوات الخمسة، وكتب رسالةً في الاحتراس من خدع السّفسطائيين.
توسّع الكندي في الطب بشكلٍ كبير، فقد كان له أكثر من خمسٍ وعشرين أطروحةً فيه، تحدث فيها عن الغذاء والدّواء المهلك والأدوية المشفية من الرّوائح المؤذية وعلّة نفث الدّم وعضّة الكَلب والأعراض الحادثة عن البلغم وفي وجع المعدة والنقرس وأقسام الحميات وعلاج الطحال، وله رسالةٌ في صنع الأطعمة من غير عناصرها وأخرى في كيفية الدّماغ وثالثة في السّموم وغيرها. وله كتاب «رسالة في قدر منفعة صناعة الطّب» الذي أوضح فيه كيفية استخدام الرّياضيات في الطّب والصّيدلة.
وأدخل «الكندي» الأرقام الهنديّة إلى الشّرق الأوسط، وألفَّ 12 كتابًا عن الحساب وتحدّث عن تأليف الأعداد والتّوحيد من جهة العدد والكمّية المضافة والحيل العددية وعلم إضمارها.
أما في الكيمياء فقد أسّس «الكندي» و«جابر بن حيان» صناعة العطور، وأجرى «الكندي» أبحاثًا واسعة وتجارب في الجمع بين روائح النّباتات عن طريق تحويلها إلى زيوت، ونفى «الكندي» إمكانيّة استخراج المعادن الكريمة أو الثّمينة كالذّهب من المعادن الخسيسة في رسالة سمّاها «كتاب في إبطال دعوى من يدّعي صنعة الذّهب والفضّة». 
وفي علم الفلك لم يكن «الكندي» يؤمن بأثر الكواكب في أحوال النّاس، ورفض ما يقول به المنجّمون من التّنبؤات القائمة على حركات الأجرام، ووجّه اهتمامه إلى الدّراسة العلميّة للفلك وعلم النجوم وأرصادها، ويعدّه بعض المؤرخين واحداً من ثمانية أئمة لعلوم الفلك في القرون الوسطى لمساهمته في تطوير المرصد الفلكي في بغداد.
وقدم الكندي في علم الفيزياء الكثير في البصريات الهندسية والفيزيولوجية، وألف فيها كتاباً كان له تأثير فيما بعد على روجر بيكون (Roger Bacon) ووايتلو (Witelo) وغيرهما.
وكان الكندي مهندساً بارعاً، يرجع إلى مؤلفاته ونــظرياته عند القيام بأعمال البناء، خاصة بناء القنوات، كما حدث عند حفر القنوات بين دجلة والفرات. 
ويعتبر «الكندي» أول من من أدخل الموسيقى إلى الثّقافة العربيّة، فأصبحت من ضمن مناهج الدّراسة العلميّة، وجزءا من الفلسفة الرّياضيّة، وهو أوّل من وضع قواعد للموسيقى في العالم العربي والإسلامي. وهو الذي أضاف الوتر الخامس إلى العود، ووضع سلّمًا موسيقيًّا من اثنتي عشرة نوتة موسيقيّة ما زال يستخدم في الموسيقى العربيّة.
وتحدث «الكندي» في رسائله عن التّأثير النّفسي للموسيقى وصنّف الألحان حسب تأثيرها في النّفس، وبيّن أنّ للنّغمات والأوتار والإيقاعات تأثيرا بالغا في الجسم حيث تساعد على الهضم، وتبعث في الكيموسات التّلطيف والتّنظيف وتشفي العليل والمريض.
توفي «الكندي» عام 873 م عن عمر يناهز 70 عامًا في مدينة بغداد وحيدًا في عهد الخليفة «المعتمد»، وقيل أن سبب وفاته كان داءً أصابه بركبته لينتقل إلى رأسه ويؤدّى إلى موته.