أسماء الله الحسنى

بقلم
الهادي بريك
من هو الله؟‎) ‎بحث في أسمائه الحسنى‎ (‎ الحلقة 11 :الشهيد
 ورد هذا الإسم زهاء ستّ عشرة مرّة في الكتاب العزيز. وهو على وزن ( فعيل ) ‏وهي من أقوى صيغ المبالغة من فعل الشّهادة، إذ لم يرد أنّه سبحانه كان شاهدا ‏بالصّيغة التي لا مبالغة فيها وهو ـ كما رأينا سالفا ـ دأبه مع أسمائه سبحانه التي لا ‏ترد في العادة إلاّ بصيغ المبالغة ( فعيل ـ فعلان ـ فعول ـ أفعل وغيرها ). كيف لا ‏وهو الفعّال سبحانه لما يشاء وذلك حتّى يتميّز عن عباده إذ يصحّ أن يكون العبد ‏شاهدا بل حتّى شهيدا ولكنّ شهادة الله سبحانه تختلف عن شهادة العبد وسبحان من ‏ليس كمثلة شيء.
إنتماء الإسم لمجموعة العلم والرقابة والتهديد
أنف معنا في هذه السّلسلة أنّ أسماءه سبحانه تنقسم إلى أقسام كبرى لمستقرئها منها ‏قسم العلم وهو الأكثر ورودا ومنها قسم الرّحمة الذي يليه ورودا ومنها قسم القوّة ومنها ‏قسم العقاب وهو الأقل حضورا وبذلك يحيط سبحانه بكلّ ما يحتاج إليه العبد ليستقيم ‏ولتسعد حياته. «الشّهيد» إسم ينتمي إلى قسم العلم والخبرة من مثل السّميع والبصير ‏والعليم والرّقيب وبذلك يخبرنا سبحانه أنّه على كلّ شيء شهيد، فلا يظنن عبد أنّه يفعل ‏شيئا أو يصنع أمرا أو حتّى ينقدح في ضميره الغائب البعيد خاطر لا يعمّر طرفة عين ‏إلاّ والله سبحانه يشهده شهودا. عندما يعتقد المرء ذلك فإنّ إيمانه بالله سبحانه يكون ‏إيمانا صحيحا قويّا والثّمرة هي أنّه يظلّ يرقبه ويخشاه ويخافه أو يطمع في رحمته ‏غير يائس ولا قنوط في كلّ آن وأوان وعندما يتحقّق ذلك الشّعور في المرء فإنّه لن ‏يقدم على ما يغضب الله سبحانه إلاّ لمما لا مناص منه وهل يطلب منّا سبحانه عدا أن ‏نجتنب الكبائر فحسب، أما إجتناب ما دونها من سيئات ولمم فلا يطمع فيه آدمي لقوله ‏عليه السّلام : «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»(1). بل إنّ صفة الخطإ في العبد ‏مقصودة حتّى يعلم أنّه قاصر وأنّ له ربّا كريما حليما رحيما يفرّ إليه وهو يغفر ‏الذّنوب جميعا. كما ينتمي هذا الإسم ( الشّهيد ) إلى معنى التّهديد كما تمّ شرح ذلك في ‏حلقات سالفة، إذ أنّ مثل هذه الفواصل الكثيرة في الكتاب العزيز ( إن الله سميع بصير ‏ـ إن الله على كلّ شيء شهيد ) وغيرها إنّما يقصد منها تهديد العبد السّامع أو التّالي ‏للكتاب العزيز أنّ ما تمّ ذكره في الآية السّابقة لفاصلتها يحذّر منه الله سبحانه أو يحذّر ‏من المنّ فيه أو الأذى أو يتوعّد فاعله به أو يعد بالثّواب عليه إن كان عملا صالحا ‏ولكن عادة ما ترد مثل هذه الفاصلات التي تخبرنا عن قدرة الله وعلمه وعظمته ‏وشهادته وعلمه الغيب لتبث فينا الخوف منه والخشية أو بثّ الطمأنينة فينا والأمل. ‏فهي إذن فاصلات وعد أو وعيد ومنها هذا الإسم أي : «الشّهيد»
الدّلالة اللّسانية لهذا الإسم
«الشّهيد» كما أنف ذكره إسم فاعل من فعل شهد، يشهد، شهادة، على وزن فعيل أي بصيغة ‏المبالغة. كما ورد قوله سبحانه ( بصيغة المبالغة كذلك ):« ...كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا»(2). وهذا ‏وارد في أسماء أخرى من مثل: «خالق» بصيغة الإفراد و«خالقون» بصيغة الجمع وغيره ‏من الأسماء. أي أنّ الله سبحانه يضفي على نفسه في بعض الأسماء من صيغ الإفراد ‏ومن صيغ الجمع وذلك حتّى يحيط بالإسم من كلّ جوانبه وحتّى لا يشاركه فيه أحد ‏من خلقه سبحانه إلاّ مشاركة تجعل المرء على الصّراط المستقيم لقوله  «إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ»(3) أي على صراط ربّه سبحانه. فهو شهيد سبحانه وهو كذلك الشهود. ‏شهد الشيء أو الأمر أي علم به علما حقيقيا واسعا محيطا أي علم سمع وبصر وخبرة ‏فلا يعزب عنه منه شيء. وهو فعل يأتيه الإنسان كذلك في مثل قوله سبحانه عن شهر ‏رمضان شرطا لصومه «فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ»(4) أي فمن علم بالشّهر علما ‏حقيقيّا سواء بطريق السّمع أو بطريق البصر ولا مجال هنا لطريق الفؤاد لأنّ العبادة ‏هنا عمليّة وليست قلبيّة. شهود الشّهر لا يكون بالسّمع فحسب ولا حتّى بالبصر فحسب ‏ولا حتّى بكليهما معا وإلاّ لقلنا أنّ الصّوم يسقط عن الأصمّ أو عن الأعمى أو عن ‏الأصمّ الأعمى في الوقت نفسه وذلك بسبب أنّه لم يسمع النّاس ولم ير الهلال بل حتّى ‏لو كان لا يقرأ ما يكتب له النّاس فإنّه لا يعفى من الصّيام إذا شهد الشّهر شهودا يوجب ‏عليه صومه. الشّهادة إذن ـ أو الشّهود ـ هي العلم بالشّيء بأيّ شيء حصل ولا تقول ‏العرب عن الشّيء أنّه علم أو أنّه معلوم إلاّ إذا كان معه دليله القاهر لا يفارقه. الله ‏سبحانه شهيد على كلّ شيء لأنّه سميع وبصير وعليم وخبير ورقيب، فلا يخفى عليه ‏علم الشّهادة بل هو بمثل ذلك في عالم الغيب أي ما غاب في الضّمائر والنّفوس أو ما ‏غاب في الأكوان السّابحة. الشّهادة إذن العلم المحيط الكامل التامّ . كما إنّ من معاني ‏الشّهادة : أداؤها كما هي. فالشّهيد هو من يشهد بعلم كامل محيط غيبا وشهادة ويؤدّي ‏تلك الشّهادة كما هي ولا يتوفّر هذا إلاّ له وحده سبحانه فهو الشّهيد في الدّنيا وهو من ‏يشهد أنبياءه على أقوامهم في الآخرة وهو من يشهد الأمّة الإسلاميّة على غيرها في ‏ذلك اليوم نفسه وهو من يشهد سبحانه على عباده يوم القيامة أن تكون للنّاس عليه ‏سبحانه يوم القيامة حجّة. يكون السّمع بحاسّته ويكون البصر بحاسّته ويكون الفؤاد ‏بحاسّته ويكون العلم بحاسّة القراءة مثلا ووسائل أخرى للعلم بحواسها المعروفة ولكنّ ‏الشّهادة هي كلّ ذلك وأكثر منه وأكبر وأوسع إحاطة وبذا فإنّ الله سبحانه على كلّ ‏شيء شهيد بمثل أنّه على كلّ شيء قدير وبمثل أنّه بكلّ شيء محيط.
من مظاهر شهادة الله سبحانه
لعلّ أعظم مظهر من مظاهر شهادته سبحانه أنّه «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ»(5). أي أنّه سبحانه يشهد لنفسه بأنّه لا إله إلاّ هو ويثنّي ‏بالملائكة ثمّ بأولي العلم ( أي من النّاس طبعا) وأنّها شهادة مزدوجة : فهو شهيد أنّه ‏لا إله إلاّ هو سبحانه وهو شهيد في الآن نفسه أنّه قائم بالقسط. وكلّ ذلك ليستجمع كلّ ‏أسباب العلم الكافي والشّافي ليغرزنا به غرزا فتضحى الشّهادة له منّا نحن أنّه لا إله ‏إلا هو سبحانه شهادة لا تتزلزل ولا تتزعزع ولا تنهدم إذ أنّ الثّبات عليها ضمانة ‏لدخول الجنّة على ما كان من العبد المؤمن من عمل كما بشّر بذلك نبي الرّحمة محمد ‏عليه السّلام. ومن تلك المظاهر الكثيرة في الكتاب العزيز فلا تحصى لكثرتها أنّه ‏سبحانه يُشهد بعضنا منّا علينا يوم القيامة إذ يُشهد علينا جلودنا وألسنتنا وأرجلنا ‏وسبحان من ينطق ما يشاء وقت ما يشاء وكيفما يشاء. فهو شهيد ويشهد من يشاء كيفما ‏يشاء وقت ما يشاء.
الإنسان والشّهادة : صراط النّعيم أو عذاب الجحيم
لم يغلّظ سبحانه في شيء في كتابه العزيز بعد كتمان الشّهادة له بالوحدانيّة تغليظه في ‏كتمان الشّهادة التي سماها في بعض المواضع زورا. وبلغ ذلك المبلغ أوجه إذ قال في ‏آخر سورة البقرة عن كاتم الشّهادة التي تغمط حق الإنسان في ماله «وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ۚ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ»(6) ولم ينسب الإثم للقلب إلاّ في هذا الموضع وذلك ‏دليل على أنّ أشدّ سرطان قيمي يمكن أن يصاب به إمرئ هو سرطان كتمان الشّهادة ‏التي يعقبها عدوان على الحقّ المالي للإنسان والمنطق يخبرنا بطريق الإقتضاء ‏القياسي العقلي الصّارم أنّه إذا كان كلّ هذا التّشدد في حقّ العدوان على حقّ الإنسان ‏في ماله فكيف يكون العدوان على الإنسان في حياته كمن يقتل إنسانا بغير حقّ أو ‏العدوان على حقّ الإنسان في عرضه كمن يقذف إمرئ في عرضه بغير حقّ؟ لا شكّ ‏أنّ الإثم الذي يصيب القلب عندها يكون قد تربّع على عروش الإثم كلّها إذ أنّ الإنسان ‏كائن متكامل متركب ولكنّ حياته أغلى عليه من ماله وعرضه أغلى عليه من ماله ‏كذلك، وبذا يكون العدوان عليه فيما هو أغلى عليه ـ أي حياته وعرضه ـ أشد ألف مرّة ‏من الإثم الذي يصيب قلبه. تلك هي شريعة الإسلام : رسالتها حفظ حقوق الإنسان وأنّ ‏المعتدى عليه مصاب بالإثم في قلبه أي لا دواء له ولا شفاء عدا دواء التّوبة بطلب ‏الصّفح والعفو والغفران ولكن من الإنسان نفسه إبتداء. وبمثل ذلك ظلّ النّظم القرآني ‏الكريم متشدّدا كلّ التّشدّد في كتمان أي شهادة تفضي إلى غمط حقّ الإنسان حتّى لو ‏كان الغمط في ماله وهو أهون على الإنسان قطعا من حياته وعرضه ولذلك جاء في ‏آية المائدة قوله تعقيبا على ذلك « وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الْآثِمِينَ»(7) بل سمّاها ‏شهادة الله ناسبا إيّاها إلى نفسه وذلك مبالغة في تغليظها وإمعانا في تعظيمها. وبذا لك ‏أن تقول بإطمئنان عجيب أنّ موقفك من الشّهادة للنّاس أو عليهم في الدّنيا هو قاربك ‏إمّا إلى جنات النّعيم أو إلى عذاب الجحيم.
مرتبة الشّهادة مرتبة متقدّمة في سلّم العبادة
قال سبحانه مرتّبا منازل عباده الأوفياء «...مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ..»(8) وذلك في سورة النّساء وهو يبين طريق من يطيع الله ورسوله. كما قال ‏سبحانه في موضع آخر  «وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ»(9)  وذلك في معرض التّعقيب على عدوان ‏أحد. الدّلالة هنا لمعنى الشّهادة مشتركة، فمنهم من يصرفها إلى الشّهادة بمعنى المقتول ‏في سبيل الله سبحانه أي وهو في حالة مقاومة حتّى لو تغيّرت صور المقاومة وأشكال ‏الوغى وأسلحة المعركة ومنهم من يحمل الكلمة على معناها العام أي من عبد الله ‏سبحانه في حياته قائما بشهادته المطلوبة وذلك لعظم قدر الشّهادة في النّاس إذ بها تقوم ‏الحقوق وبها تسقط زورا. ومثل ذلك في الآية العاقبة «وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ» هل تعني ‏الشّهداء الذين يقتلون في تلك السّاحات والمعارك أو هم الشّهداء بالمعنى العام. هذا ‏دأب النّظم القرآني العجيب عندما يرسم للنّاس هامشا من حرّية التّصرف والفهم في ‏دائرة معلومة التّخوم. ولكنّ القرآن الكريم عندما حرص على الحديث على مقام ‏الشّهادة التي تحدّثت عنها السّنة مرّات ومرّات، فإنّه حرص حرصا أشدّ على تسمية ‏الشّهداء أحياء بل هم في حالة فرح وإرتزاق وإستبشار وذلك في سورتي البقرة بغير ‏توسّع وفي آل عمران بتوسّع، إذ السّياق هو سياق الحديث عن عدوان أحد. ما يهمنا ‏هنا هو أن للنّاس نصيبا من صفة الشّهادة التي منها جاء هذا الإسم من إسمائه سبحانه ‏أي الشّهيد. فالإنسان يكون شهيدا سواء بمعنى القتل في سبيل الله أو بمعنى نحت حياة ‏قائمة على أداء الشّهادة والقسط وعدم التّورط في الزّور البتة ولا شكّ أنّ من يوفق ‏لهذا يرشح لنيل ذاك فهما إذن من مشكاة واحدة. أمّا السّنة التي سمت المقتول في سبيل ‏الله شهيدا مرّات ومرّات، فإنّها ربّما تخلع على هذا الرّجل العظيم الذي بذل حياته وهو ‏أغلى شيء عنده في سبيل الله سبحانه تحريرا لوطن أو للنّاس الإسم نفسه الذي خلعه ‏على نفسه سبحانه أي صفة الشّهادة وما ذلك سوى لأنّ الشّهيد يشهد على ملابسات ‏قتله في هذه الدّنيا، ممّا قد يغيب عن النّاس أو يكتمونه ـ كما فعل بنو إسرائيل في قصّة ‏البقرة ـ ويظلّ الله سبحانه شهيدا على الملابسات نفسها ولكنّه شهيد على ما كان يجيش ‏في فؤاد القاتل ممّا لا يعمله شهادة سواه سبحانه.
هل يتسمى الإنسان بهذا الإسم : الشهيد؟
ليس هناك مانع أن يتسمّى الإنسان بإسم الشّهيد تعريفا أو نكرة أو بصيغة غير مبالغ ‏فيها من مثل : الشّاهد ولو تسمّى بعبد الشّهيد فهو صحيح إذ أنّ الشّهيد إسم صحيح من ‏أسمائه سبحانه. هذا الإسم يشترك فيه سبحانه مع عباده والله يحبّ من عباده أن يحيوا ‏شهداء على عصرهم قائمين بشهاداتهم كما ورد في قوله «وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ»(10) وعدم التّورط بأيّ حال من الأحوال في شهادة الزّور. عدا أنّ إشتراك ‏المرء مع ربّه سبحانه في إسم من الأسماء ـ عدا بعض الأسماء التي وقعت إليها ‏الإشارة سابقا من مثل المتكبّر والرّحمان وغيرهما ـ يعني التّشبه المطلوب والتخلّق ‏المحبوب ولا يعني التّسوية بين العبد وربّه سبحانه، فشهادة الله غير شهادة الإنسان ‏مهما كان الإنسان بالحقّ شهيدا وعليه قائما أو بالقسط قواما.
الهوامش
(1) رواه الترمذي (2499) وابن ماجه والحاكم وحسنه الألباني
(2) سورة يونس - الآية 61 
(3) سورة هود - الآية 56
(4) سورة البقرة - الآية 185 
(5) سورة آل عمران - الآية 18 
(6) سورة البقرة - الآية 283 
(7) سورة المائدة - الآية 106 
(8) سورة النساء - الآية 69 
(9) سورة آل عمران - الآية 140 
(10) سورة المعارج - الآية 33