نقاط على الحروف
بقلم |
عبدالمجيد بلبصير |
المذهب المالكي في بؤرة«الفقه بين أهل الرأي وأهل الأثر» 1/2 : قضية الفقه بين أهل الرأي وأهل الأثر |
نحو رشد منهجي لبحث الإشكال:
ربّما كانت قضيّة الرّأي والأثر -وما تزال- في تاريخ الفقه الإسلامي مفتقرة إلى منهج قويم يهدي فيها للتي هي أقوم، ولعلّ وضعها أشبه بوضع إشكال العقل والنّقل في تاريخ الفكر الإسلامي عموما، إذ طالما كان وضعا غير صحيح، بحيث يوهم ابتداء بتساوي طرفي الإشكال رغم اختلافهما طبيعة وسنخا، ممّا فسح المجال لخصوم المذهبيّة الإسلاميّة للتطاول على كلياتها، وازدراء ما يصدر عنها من ثقافة وفكر.
ولا يهم الآن إن كان بلغ الأمر هذا الحدّ أو لم يبلغ فيما يتعلّق بإشكال الرّأي والأثر، بقدر ما يهمّ ما نتج عن غياب المنهج القويم فيه من سقوط بعض مؤرّخي التّشريع والمهتمين بسيرة الفقه الإسلامي في تعميمات وأحكام متضاربة، بلغت أحيانا حدّ التّناقض، ذلك أنّهم باشروا منذ البداية البحث التّاريخي التّطوري للإشكال، من غير تحقيق لنصوصه واستقراء لمكوناته، وكشف لواقعه الدّلالي في كلّ خطوة من خطوات سيره مؤلّفا فمؤلفا، مدرسة ثم مذهبا. وكلّ ذلك عمل سكوني لابدّ منه لتمهيد الطّريق للعمل التّطوري الذي يسعى إلى رصد التّغيرات والتّطورات على الوجه الذي تكون معه النّتائج علميّة، وهو منهج اعتبره أستاذنا الدكتور فريد الأنصاري رحمه الله أحد آفاق البحث الأساسيّة في الفقه الإسلامي.(1)
وحيث إنّه لابدّ قبل التّاريخ من الوصف للموضوع، ولابدّ قبل الوصف من العلم بالموصوف، فإنّه أيضا «لاعلم بدون فهم، ولا فهم بدون تذليل عقبة المصطلح»(2) ومن ثمّ فإنّ الدّراسة المصطلحيّة هي الأساس المتين للتّاريخ العلمي السّليم وما يمكن أن ينبني عليه من موازنات ومقارنات، ذلك أنّها «منهج قائم بذاته في الدرس يعتمد العلميّة بشروطها في الوسائل من الاستيعاب إلى التّحليل فالتعليل فالتركيب، ويعتمد التّكاملية حسب أولوياتها في المراحل من الوصفيّة إلى التّاريخية فالموازنة فالمقارنة»(3) ولعل درس إشكال الرأي والأثر على وفق الدّراسة المفهومية بالمنهج الوصفي ، ما يزال غير مقتحم، على أنّ عدم العلم ليس علما بالعدم، وهو درس من الأهمّية بمكان إذ من خلاله تتحدّد ضوابط فهم الآثار وقواعده، وعليه تنبنى مسالك الاستنباط ومناهجه.
نعم لقد وضعت مفاهيم لمصطلحي الرّأي والأثر، لكنّها لم تصدر عن منهج الدّراسة المصطلحيّة المحدّد، والظّاهر أنّها استلهمت بالنّظر في أصول المذاهب وفتاوى الأئمة على طريق الحدس والتّخمين، فلذلك لم تبن البناء السّليم الذي عليه ينبني التّقويم السّليم والتّأريخ السليم، فاضطرب بذلك توظيفها في الفقه وفي غير الفقه كالتّفسير، لولا أنّ مقدار إعمال المأثور يكاد يكون بينا بين أهل التّفسير، بحيث يسهل التّمييز بين ذي السّعة وذي الضّيق في الأخذ به (4) ونفس الشّيء قد يقال عن مقدار إعمال الرّأي عندهم، إذ يسهل التّمييز بين من يعمل بأدناه اختيارا وترجيحا للآثار فقط كما هو صنيع الطّبري وغيره، وبين من يعمل بأقصاه كما هو الشّأن عند الزّمخشري وابن عطيّة وغيرهما، وكلّ ذلك في حدود الرّأي المحمود.(5)
ما بين رؤيتين متباينتين للإشكال:
وإذا كان ذلك كذلك، فإنّ ضبط إعمال الرّأي والأثر عند الفقهاء، وخصوصا بين مدرستي الحجاز والعراق، ليس بالأمر الهين، وعموما فإنّ الموضوع فيما يظن تتجاذبه رؤيتان متباينتان تصورا ونتائج:
الأولى تعتبر أنّ فقهاء الحجاز أهل حديث وأثر، وأن فقهاء العراق أهل رأي وقياس، وذلك على سبيل التّغليب بدليل إقرارها أنّ الكلّ يصدر عن رأي وأثر، إلاّ أنّ مقدار الإعمال متفاوت بينهما تفاوتا بينا. ومن أصحاب هذه الرؤية الأستاذ عبد الوهاب خلاف في «خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي» (6) وأقرب إليه الشيخ الخضري بك في «تاريخ التشريع الإسلامي» (7).
ومن حجج هذا الاتجاه فيما ذهب إليه أنّ الأحاديث وفتاوى الصّحابـــة لم تكن كثيرة في العراق كثرتهـــا في الحجاز، وذلك بحكم البعد عن مركز الوحي والآثار، وكذا بسبب ما ألمّ بالبلاد من الفتن التي أدّت إلى افتراء الأحاديث ووضعها، إذ كانت العراق مهد الشّيعة ومقرّ الخوارج، وهو ما حدا بفقهائها إلى اعتبار الحديث المشهور بين أهل الفقه دون غيره، ناهيك عن أنّ بيئتي المدرستين مختلفتان، ذلك «أن بيئة العراق غير بيئة الحجاز، والأقضية والحوادث في البلدين مختلفة، لأنّ دولة الفرس خلفت في العراق أنواعا من المعاملات والعادات والنّظم لا يعهد مثلها في بلاد الحجــاز، فكان مجال الاجتهاد في العراق ذا سعة، وأفق البحث ممتدا، ولهذا تكوّنت في فقهاء العراق ملكـــة البحث والتّفكير، وبدت لهم وجوه عديدة من الرّأي والنظر في التشريع»(8).
على أن مشكلة هذا الاتجاه قد لا تكمن في تحديد التّفاوت الشّاسع في توظيف الرّأي والأثر بين المدرستين، ما دام حصول ذلك ممكنا في بعض المواقف، كأن لا يستوفي الأثر الشّروط المطلوبة التي جعلها الأئمة أصلا للعمل بالحديث، فيتمّ اللّجوء بعد ذلك إلى إعمال الرّأي عند عدم وجود الأثر على شرطهم (9). وإنّما تكمن فيما يبنى على هذا التّفاوت من نتائج وأحكام متضاربة متناقضة، نحو قضيّة النّسبة في النّزعة المقاصديّة عند مدرسة الحجاز عامّة والمذهب المالكي خاصّة، إذ كيف يمكن الجمع فيها بين ما ذهب إليه الأستاذ خلاف من «أن فقهاء العراق أمعنوا النّظر في مقاصد الشّارع... وأمّا فقهاء الحجاز فقد عنوا بحفظ الأحاديث وفتاوى الصّحابة... غير باحثين عن علل الأحكام ومبادئها» (10) وبين ما ذهب إليه الدكتور نور الدين الخادمي من إثبات بعض النّصيب لمدرسة الحجاز من النّظر إلى المقاصد، وإن كان كما قال «أقل وأدنى مما هو عليه الأمر في مدرسة العراق من حيث الكمّ والتفريع»(11) بل كيف يمكن الجمع بين المذهبين وما قررّ الدكتور أحمد الريسوني من اعتبار المذهب المالكي مذهب المقاصد الأول بامتياز؟ (12).
ثم إذا استأنسنا بما أورد الشّيخ الخضري من أنّ الرّأي كان ينصرف ابتداء زمن الصّحابة والتّابعين إلى معنى العمل بالمصالح المرسلة (13) فقد يمكن اعتبار مدرسة الحجاز عامّة ومذهب أهل المدينة خاصّة أوغل في العمل بالرّأي، ما دام أصل العمل بالمصلحة المرسلة عريقا في المذهب وهو أصل عمري قبل أن يكون أصلا مالكيا.
إن إثارة مثل هذه القضايا ليس بدافع التّعصب لهذا المذهب على حساب ذاك، وإنّما بغرض مراجعة بعض الأحكام الواردة في بعض كتب تاريخ الفقه الإسلامي، والتي قد تعتمد مصادر من قبل بعض الدّراسات رغم أن القصد التعليمي فيها غالب على القصد العلمي، فتسم تبعا لها على سبيل التغليب المفرط فقهاء الحجاز بأهل الأثر والحديث، وفقهاء العراق بأهل الرأي والقياس، دون تحقيق لما ترتب عن ذلك من نتائج، وهي مراجعة قد لا يرجى نفعها ما لم تعتمد البحث السكوني أولا قبل البحث التطوري للإشكال كما سبق.
على أن هناك رؤية أخرى تكاد تكون مقابلة للأولى، إذ تنظر إلى الموضوع من زاوية أن الأثر و الرّأي يعمان المدرستين، وبنسب متقاربة قد لا ترجح فيها كفّة هذه على تلك إلاّ نادرا. يقول الشيخ الحجوي الثعالبي «ولابدّ على التّحقيق الذي شكّ فيه أنّه ما من إمام منهم إلاّ وقد قال بالرّأي، وما من إمام إلاّ وقد تبع الأثر، إلاّ أن الخلاف وإن كان ظاهره في المبدإ، لكن في التّحقيق إنّما هو في بعض الجزئيّات يثبت فيها الأثر عند الحجازيين دون العراقيين، فيأخذ به الأوّلون ويتركه الآخرون لعدم اطلاعهم عليه أو وجود قادح عندهم»(14).
ولعلّ هذا الاتجاه ينطلق ممّا كان عليه حال البصرة والكوفة في أوّل خلافة الفاروق حيث تمصرتا، إذ انتقل إليهما كما قال ابن القيم في إعلام الموقعين «نحو ثلاثمائة من الصّحابة ونيف... قال وأكثر علماء الصّحابة صار إليهما... فمنهما فتحت سائر الأمصار من خراسان وما وراءها»(15) وغالب الظنّ أنّ عدد الصّحابة تنامى بعد ذلك على عهد عثمان رضي الله عنه إذ «هو الذي رخّص لهم في الانتشار في الآفاق»(16) وعلى عهد علي رضي الله عنه خاصّة إذ «أوّل ما انتقلت الخلافة إلى العراق زمن علي بن أبي طالب... ولهذا لم يزاحم أهل الحجاز على زعامة الفقه إلاّ علماء العراق دون الشّام ولا مصر ولا إفريقيّة أو غيرها»(17).
ورغم أنّ الذي صار إلى العراق من الآثار قلّ من جلّ كما قال الحجوي، فقد حصل من التّلاقح العلمي والمنهجي بين المدرستين فيما بعد الشّيء الكثير، وهو التّلاقح الذي لم يمنع من تمايزهما، لكن ليس إلى الحدّ الذي غالى فيه أهل الاتجاه الأول فيما يبدو، ولعلّ ذلك برز جليّا على عهد خلافة بني العباس، إذ خفت حدّة الخلاف بينهما كما قرّر الدكتور طه جابر العلواني.(18)
ولعل هذا الاتجاه أيضا ينطلق من كون الفقهاء المحقّقين من كلتي المدرستين، ومن غير المدرستين متّحدون وظيفة وعملا، ذلك أن قصدهم واحد على فرض اختلاف وسائله، وهو إظهار الأحكام بعد تنسيق أدلتها، وإعمال الأخبار بعد سبر أهل الحديث لأسانيدها، وبهذا يعلم أنّ عمل الفقهاء إنّما هو مكمل لعمل أهل الحديث، إذ «كلاّ الفريقين يحتاج إلى الآخر، فلا فقه بلا سنّة ولا سنّة بلا فقه، وعظمة الإسلام تتمّ بهذا التّعاون»(19) ولعلّ في إجابة الشّافعي لعبد الرّحمن بن مهدي عن سؤاله: كيف البيان؟ وكذا في دفاعه عن حجّية السّنة حين شنّت الحرب على أهلها من قبل بعض المتكلّمين قائلين بعدم اعتبارها، مثالا واضحا لهذا التّعاون. ثم إنّه ربّما غفل المحدثون عن علّة في المتن دون السّند، فيكتشفها الفقهاء(20)، على الرّغم من أنّ أهل الحديث وضعوا شروطا معينة فيهما إثباتا لصّحة الحديث، ودفعا لداء الوضع الذي عمّ العراق أيام الفتن.
فعلى هذا النّحو إذن يرى هذا الاتجاه العلاقة بين فقهاء المدرستين وبين أهل الحديث، إذ الجميع صدر عن نفس المورد ليبني ويكمل، وأخذ نقول جلّة الصّحابة، سواء منهم من كان بالحجاز أو خرج منها إلى العراق، والكلّ عمل بالأثر على شرطه، كما عمل بالرّأي عند الاقتضاء سيرا على هدي السّلف، فإذا اختلفت الآثار قدم كلّ شيخه لما يجد في ذلك من الاطمئنان، ولبيان ذلك يورد الحجوي الثعالبي نموذجين من المدرستين يمثّلان حلقتين متزامنتين من حلقاتهما: الأول إبراهيم النخعي وهو عراقي، والثاني سعيد بن المسيب وهو حجازي قال «أخذ إبراهيم بفتاوى علي وأحكامه مدّة خلافته بالكوفة، وأبي موسى الأشعري وسعد بن أبي وقاص، وقضايا شريح إذ كان يستشير فيهما عمر وعثمان، فعمل إبراهيم في آثار هؤلاء مثل عمل سعيد في آثار أهل المدينة، وخرج على فقههم بالقياس والاستنباط فيما لم ينصّ فيه، واتخذ قضاياهم أصلا له، فكان سعيد بن المسيب لسان فقهاء المدينة والمخطّط لبنائهم، وكان إبراهيم لسان العراقيين والمؤسّس لمذهبهم، فإذا اختلفت أقوال الصّحابة والتّابعين، فالمختار عند كلّ عالم مذهب بلده وشيوخه، لأنّه أعرف بالصّحيح من أقاويلهم من السّقيم، وقلبه أميل إلى فضلهم وأدعى للأصول المناسبة لها»(21).
وعليه قرّر جمهور الفقهاء أنّ الحديث مقبول متى توافرت فيه شروط الصّحة، مع إثباتهم لبعض القوّة لأحاديث أهل المدينة خاصّة باعتبارها محلاّ لجمهور الصّحابة وكبار التّابعين «فمتى كان الإسناد جيدا كان الحديث حجّة، حجازيّا أو عراقيّا أو شاميّا أو غيرها، وكم من حديث في الصّحيحين المجمع على قبول ما فيهما كلّ رواته عراقيّون، لكنّ أحاديث المدنيين أقوى»(22).
على أنّه عند الضّرورة التي هي عدم وجود الأثر، يعمل فقهاء المدرستين بالرأي، إذ يلتقون في جلّ صوره إن لم يكن كلّها، من قياس واستحسان و عمل بالمصالح المرسلة، كما يتفقون على استناده إلى أصل من الكتاب أو من الآثار دفعا لخطر السّقوط في مطب الرّأي المذموم.
هذا ويبقى الموضوع بعد عرض هذين الاتجاهين، وفي غياب المنهج العلمي المفضي فيه إلى نتائج حاسمة أشبه بحقل ألغام، بيد أن الاتجاه الثاني قد يبقى أكثر من الأول فيما يظن باعثا على الاطمئنان، بحيث يحاول أن يعطي لكل ذي حق حقه، رافعا بذلك ما قد توصم به مدرسة الحجاز من جمود في الفكر وضعف في النظر، ولعل نظرة في آفاق البحث في أصول مذهب مالك تلقي مزيدا من الضوء على الموضوع.
الهوامش
(1) ينظر أبجديات البحث في العلوم الشرعية 163/164 الطبعة الأولى.
(2) من الكلمة الافتتاحية للدكتور الشاهد البوشيخي ضمن ندوة الدراسة المصطلحية والعلوم الإسلامية.
(3) من مقدمة الطبعة الثانية لمصطلحات نقدية وبلاغية في كتاب البيان والتبين للجاحظ للدكتور الشاهد البوشيخي.
(4) ينظر تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور 1/32-33.
(5) نفسه 1/33.
(6) ينظر ص75.
(7) ينظر ص 147.
(8) خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي 78-79.
(9) ينظر تاريخ التشريع الإسلامي للخضري 146.
(10) خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي 75.
(11) الاجتهاد المقاصدي كتاب الأمة عدد 65 ج1/104.
(12) ينظر نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي 57.
(13) تاريخ التشريع الإسلامي 146.
(14) الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي- القسم الثاني 383.
(15) نقلا عن السابق ق2/378.
(16) نفسه ق2/379.
(17) نفسه ق2/378.
(18) ينظر أدب الاختلاف في الإسلام 90-19.
(19) السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث للشيخ محمد الغزالي 25.
(20) نفسه 15.
(21) الفكر السامي ق2/385.
(22) نفسه ق2/380.
|