إقتصادنا

بقلم
نجم الدّين غربال
أي سياسة اقتصادية لإنقاذ تونس؟
 لم يزد التّفاعل العاطفي مع ما آلت إليه الأوضاع في تونس بعد تسع سنوات من اندلاع ثورة المقصيّين ‏والمهمّشين والتي أرادوها ثورة للحرّية والكرامة إلاّ إحباطا، ولكن وفاء لدماء الشّهداء وتضحيات أجيال ‏وأجيال لا بدّ من عقلنة ذلك التّفاعل والاستمرار في السّعي نحو تحقيق أهداف الثّورة.‏
وما آلت اليه الأوضاع من تدهور اقتصادي وتخلّف تنموي وتفاوت إجتماعي وجهوي له أسباب منها ‏أساسا عدم جدوى السّياسة الاقتصاديّة التي تمّ اعتمادها فضلا عن استمرار عقليّة المركزيّة في الحكم في ‏زمن اللاّمركزيّة والتي يعكسها حجم الحكومات المتعاقبة وكثرة حقائبها الوزاريّة.‏ ولإنقاذ تونس لابدّ من وضع سياسة اقتصاديّة  مُجدية، تُحقّق الأهداف وتكون متناغمة مع عصرها، ‏فأيّ سياسة اقتصاديّة لإنقاذ تونس؟ ‏
I‏-‏ السّياسة الاقتصادية المُنقذة
يُمكن تعريف السّياسة الاقتصاديّة على أنّها «مجموع القرارات المُتناغمة المأخوذة من طرف السّلط ‏العموميّة التي تهدف من خلالها وعبر إستعمال مختلف الأدوات الى تحقيق أهداف على مستوى ‏الوضعيّة الاقتصاديّة لمجموعة وطنيّة أو دولية»‏ (1)
فمجرد أخذ قرار معزول بالرّفع من أداء ضريبي ما لزيادة مداخيل الدّولة لا يُعتبر سياسة اقتصاديّة لأنّ ‏السّياسة الاقتصاديّة وكما جاء في التّعريف، هي مجموع قرارات مُتناغمة وليس مُجرد قرار منعزل. لذا فإنّ  توقيف التّدهور الاقتصادي ببلدنا، يستوجب سياسة اقتصاديّة بما تعنيه من ‏قرارات مُتعدّدة الأبعاد تهمّ مُختلف المجالات النّقدية منها والمُوازناتيّة وإجراءات عمليّة تستهدف الأسعار، ‏والتّجارة وغيرها... ‏
إنّ وضع سياسة اقتصاديّة يستوجب إذا وضع سياسة موازناتيّة متناغمة مع السياسة النقديّة، تُغطّي الأولى ‏الأفعال المُتعلّقة بالنّفقات والايرادات العموميّة وذلك للتّأثير الكبير للمُوازنات العامّة على الحياة ‏الاقتصاديّة عموما وتُغطّي الثّانية الأفعال المُتعلّقة بسوق النّقد، من جهة خاصّة تلك التي لها علاقة ‏بالسّيولة على مستوى الاقتصاد ككلّ ومن جهة أخرى، الأفعال التي تستهدف مُراقبة نسب الفائدة والتي ‏تتمّ أساسا عبر مُعالجة نسبة الخصم، علما أنّ درجة سُيولة اقتصادنا تُحدّدها قلّة أو كثرة المُتوفّر من ‏أدوات الدّفع المُرتبطة هي الأخرى بما تمّ توزيعه من مداخيل ماضيا، كما ترتبط درجة السّيولة أيضا ‏بالتّغيرات الحاصلة للكتلة النّقدية من خلق العُملة وتغيّر رصيدنا من العملة الصّعبة والقروض...‏
ومن ملامح السّياسة المُوازناتيّة المطلوبة إعطاء نجاعة قصوى ‏للنّفقات العموميّة عبر الضّغط على التّكلفة من جهة والاستفادة من المزايا المتوفّرة من جهة ثانية وكذلك ‏إيجاد انسجام بين أدوات تمويل الميزانيّة وأهدافها لتنمية التّجهيزات العموميّة وتطوير الخدمات المسداة ‏للمواطنين من طرف القطاعات العموميّة من صحّة ونقل وتعليم بالإضافة إلى التّقليل من عجز الرّصيد ‏الخارجي.‏
والى جانب الأداة الموازناتيّة والأداة النّقديّة للسّياسة الاقتصاديّة والّلتين تمثلان ركنين أساسيّين لكلّ ‏سياسة اقتصاديّة، توجد اجراءات متعدّدة أخرى منها اجراءات مباشرة على الأسعار والأجور والتّشغيل... ‏
أما أهداف السّياسة الاقتصادية المطلوبة، فنرى أنّها بلا أدنى شكّ ضمان نموّ اقتصادي تدريجي للإنتاج ‏السّلعي والخدماتي تلبية لحاجات المستهلك التّونسي وذلك عبر التّوظيف الكلّي للموارد البشريّة منها ‏والمادّية مع التّحكم الى أقصى حدّ مُمكن في نسب التّضخم حفاظا على المقدرة الشّرائية للمواطنين ‏والحيلولة دون الوقوع في عجز مرتفع سواء على مستوى الماليّة العموميّة أو على مستوى ميزان الدّفوعات.‏
لكنّ تحقيق تلك الغايات يطرح إشكال تضارب الأهداف، ممّا قد يعيق السّياسة الاقتصاديّة ذاتها، فبلا شكّ يودّ الجميع لو يتحقّق في نفس الوقت نموّ اقتصاديّ وتوظيف كلّي للموارد البشريّة واستقرار للأسعار وتوازن في الميزانيّة وميزان ‏الدّفوعات. غير أن ذلك لايمكن تحقيقه عمليّا إلاّ بالتضحية المؤقتة ببعض الأهداف.‏
‏ ومن أمثلة تضارب الأهداف نذكر التّضارب بين تحقيق النموّ السريع واستقرار الأسعار ‏والذي مثّل العائق شبه الدّائم للسّياسة الاقتصاديّة في عدّة دول خلال خمسينات وستينات القرن الماضي مثل ‏فرنسا وغيرها.‏
كذلك التّضارب بين تحقيق نموّ اقتصادي سريع والحفاظ على توازن ميزان الدفوعات، فنظرا ‏لهشاشة الاقتصاد التونسي ومحدوديّة قدرته التّنافسية دُوليا، فإنّ ضغط الطّلب الدّاخلي يتجسّد بكثرة الاستيراد ‏وبخفض الهامش المتوفّر للتّصدير.‏
II‏-‏ محدودية الاعتماد على النّمو الاقتصادي
في حديثنا عن النّمو الاقتصادي كهدف أساسي للسّياسة الاقتصادية، لا بدّ من تجنّب أنواع منه أدرجها البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة في تقرير التّنمية البشرية لعام 1996 واعتبرها غير مجدية في معالجة ظواهر تنخر المجتمعات كظاهرة الفقر، بل هي في تقديره متسبّبة في زيادة ‏البطالة. وهذه الأنواع هي :
- النّمو الاقتصادي الذي يصحبه «نمو البطالة الذي لا يولد فرص العمل»
- النّمو المتوحّش ‏الذي يُسهم في تعميق التّفاوت بين الأفراد والفئات وكذلك الجهات (عدم المساواة)
- النّمو الأخرس ‏الذي لا صوت له أي الذي يحرم المجتمعات المحلّية الأكثر تعرضا للمخاطر من المشاركة
- النمو ‏المنبت الذي لا جذور له في الاقتصاد المحلّي ويرتكز على نماذج منقولة من مكان الى آخر
- النّمو ‏الذي لا مستقبل له، الذي يقوم على الاستغلال المفرط للموارد البيئية
- النّمو الذي لا يرتقي بنوعية ‏الحياة (2) ‏ 
واذا بحثنا في الأسباب التي جعلت النّمو الاقتصادي ينحو ذلك المنحى لوجدنا أنّ الأمر يتعلّق بالنّهج ‏الذي وقع اتباعه، فمنذ الحرب العالميّة الثانية كان هدف النّهج المُتبع دوليّا زيادة الدّخل ممّا جعل ‏الانشغال بتراكم رأس المال هو السّائد وتقسيم العمل هو الطّريقة في انسجام مع ما اعتبره «آدم سميث» أصل ثروة الأمم.‏
إنّ الانشغال بالثّراء المادّي والاعتماد على نهج محوره الاقتصاد واتخاذ زيادة الدّخل كهدف والنّمو الاقتصادي كمقياس ‏لم يفلح في الحدّ من الفقر والتّفاوت داخل المجتمع الواحد، اذ اعتبر النّمو الاقتصادي مخيبا للآمال في مجال الحدّ من ‏الفقر كما ذهب الى ذلك البنك الدّولي في تقريره لعام 2016.‏
وتفاعلا مع هذه النّتيجة، اتجهت المجموعة الدّوليّة الى «سياسات التّعميم» التي تهدف إلى تعميم ‏التّنمية على الجميع بما فيهم الفقراء وهي في الحقيقة مهمّة شاقّة، فقد يوجد بلد ملتزم بتعميم الرّعاية الصّحية ولكن ‏خصائصه الجغرافيّة قد تحول دون تقريب الخدمات الصّحية لجميع السّكان ممّا يتطلّب جهدا نحو إعادة توجيه ‏السّياسات بما يُصحّح التّفاوت في التّنمية حتّى يستفيد الفقراء من ثمارها. ‏
ومن أسس هذا المسار، حسب تقرير التّنمية البشريّة لسنة 2016، الاستثمار في الموارد البشريّة مدى الحياة وتعبئتها وتوفير الفرص للنّساء باعتبارهن ذوات النّصيب الأكبر من الفقر في العالم (هناك بين ‏‏800 مليون  و1,2 بليون إنسان ضعيف الدّخل في العالم أغلبهم من النّساء ومعظمهم خارج سوق العمل أو ‏يعملون بأجور متدنّية) (3).‏ 
‏ ومن أسس سياسات التّعميم المركزيّة السّعي نحو ما أسماه البرنامج الانمائي للأمم المتّحدة «النّمو الشّامل» كرافعة ‏بديلة لمعالجة الفقر والبطالة، فما المقصود بالنّمو الشّامل وما هي دعائمه؟
III‏-‏ النّمو الشّامل
النّمو ‏الشّامل هو أسّ من أسس سياسات تعميم التّنمية يهدف الى أن يستفيد منها الجميع وأساسا اولئك الذين تمّ ‏إقصاءهم منها اقتصاديّا وماليّا.‏
ولتشجيع النّمو الشّامل يتمّ إقامة مؤسّسات تساعد أكثر النّاس فقرا على الاستفادة من النّمو ‏الاقتصادي واتباع سياسات تشجّع الإنصاف والاحتواء الاجتماعي واستدامة الاقتصاد الكلّي وتعزيز الشّفافيّة ‏والكفاءة بالقطاع العام وزيادة الإنتاجيّة وتقوية القطاع المالي واستقراره، وهي كما وصفها التّقرير السّنوي ‏للبنك الدّولي 2016(4) عناصر جوهريّة للحدّ من الفقر وتشجيع النّمو الشّامل للجميع.‏
والنّمو الشّامل مسار يُمَكِّن من الحصول على الفرص الاقتصاديّة والخدمات الأساسيّة عالية الجودة ‏ويتطلّب مزيجا من أعمال التّحليل والمشورة القويّة والخدمات الماليّة والإقراض والقدرة على تعبئة ‏الجهود للتّصدي للتحدّيات التي تواجه تحقيق الإنصاف والإحتواء الاجتماعي واستدامة الاقتصاد الكلّي. ‏وللمؤسّسات الدّولية دور في هذا المجال على غرار البنك الدّولي.‏ ويقوم النّمو الشّامل على ركائز أربع:‏
استراتيجيّة النّمو المحرّك للتّشغيل ‏
التّمويل الشّامل
الاستثمارات في أولويّات التّنمية البشريّة
التّدخّلات المتعدّدة الأبعاد عالية التّأثير والمحقّقة للمكاسب للجميع.‏
ويقع التّركيز ضمن استراتيجيّة النّمو المحرّك للتّشغيل على إزالة الحواجز التي تحول دون تحقيقه وتصميم إطار تنظيمي للعمل غير النّظامي وتنفيذه وتعزيز الرّوابط بين الشّركات ‏الكبرى والمتوسّطة والصّغيرة والتّركيز أيضا على القطاعات التي يعيش منها الفقراء ويعملون فيها ‏لاسيّما في المناطق الرّيفيّة وتصحيح التّوزيع بين رأس المال والعمل في الإنفاق العام لاستحداث فرص ‏التّشغيل.‏
كما يرتكز النّمو الشّامل على التّمويل الشّامل، فإلى جانب السّياسات المستدامة في مجالي الاقتصاد الكلّي ‏والماليّة العامّة والتّكامل الاقتصادي بين البلدان تساعد، حسب البنك الدّولي في تقريره السّنوي لعام ‏ ‏2016، الأنظمة المالية الشّاملة للجميع التي تمتاز بالكفاءة والاستقرار في تعزيز النّمو الاقتصادي والحدّ من الفقر.
 ‏ويتمّ ذلك عبر:‏
‏-‏ إزالة العراقيل مثل الفجوات التّمويلية للشّركات والفقراء عبر توسيع نطاق الخدمات المصرفيّة ‏لتشمل الفئات المحرومة والمهمّشة بالإضافة إلى تبسيط الإجراءات وتسخير التكنولوجيّة الحديثة لتحقيق ‏التّمويل الشّامل.‏
‏-‏ تعزيز الشّفافية والمساءلة.
‏-‏ الحدّ من التّدفقات الماليّة غير المشروعة. ‏
‏-‏ تدعيم المؤسّسات الماليّة الرّئيسيّة بهدف الحفاظ على الاستقرار المالي ودفع النّمو الاقتصادي.
‏-‏ بناء القدرات اللاّزمة لإعداد استراتيجيّات إدارة الدّين وتنفيذها باعتبارها حجر الزّاوية للاستقرار ‏المالي واستدامة سياسة الماليّة العامّة.
‏ ومن دعائم النّمو الشّامل أيضا الاستثمارات التي تركّز على تطوير البنى التحتيّة كالطرق والكهرباء والماء والمرافق الصحّية والتعليميّة ‏خاصّة في الأرياف، بهدف تأمين خدمات مُنخفضة ‏الكلفة وعالية الجودة للمحرومين والمهمّشين. ويمكن تحسين جودة البنى التّحتية عبر شراكات القطاع ‏العام والقطاع الخاصّ وإعادة توزيع الأصول وذلك لاستيعاب من تركوا خارج مسار النّمو ورأس المال البشري من الأصول .‏
والى جانب ركائز النّمو الشّامل الثّلاث السّابقة الذّكر (استراتيجيّة النّمو المحرّك للتّشغيل والتّمويل ‏الشّامل والاستثمارات في أولويّات التّنمية البشريّة) نجد دعامة رابعة تتمثّل في التّدخّلات المتعدّدة الأبعاد، عالية ‏التّأثير، المحقّقة للمكاسب للجميع والتي يقع ترجمتها من خلال إعطاء الحكومات المحلّية استقلاليّة في ‏صياغة خطط التّنمية المحلّية وتنفيذها واللاّمركزية العالية لتمكين الحكومات المحلّية من جمع الايرادات ‏الخاصّة بها والحدّ من اعتمادها على منح الحكومة المركزيّة وهذا يستوجب توسيع نطاق المشاركة ‏وتعزيز القدرات الإداريّة المحلّية.‏
الهوامش
‎ (1) Comprendre la politique économique, Tome I. L’ère des certitudes par Eliane Mossé, Collection « Points ‎Economie » Editions du Seuil,1980‎
(2) ‎البرنامج الانمائي للأمم المتحدة في تقرير التنمية البشرية لعام1996 ‏
(3) لجنة الامم المتحدة المعنية بوضع المرأة لعام 2017‏
http://www.unmultimedia.org
(4) تقرير البنك الدولي (2016) ص 13 - 14‏