بهدوء

بقلم
د.عزالدين عناية
المثقّفون في تونس: أيّ دور ؟ أيّ رهان؟
 (1) أحلام المثقّف وكوابيسه
شهدت السّاحة الثّقافية في تونس تحوّلا هائلا منذ اندلاع الثّورة، تجلّى ذلك في تعدّد ‏الخطابات واختلاف زوايا النّظر، وإن لم يرتقِ ذلك إلى مستوى الانتظارات الحقيقيّة، حيث لم ‏يواكب الحدث فعلٌ ثقافيّ مؤثّر في مستوى الحراك العام الذي شهده بلدنا. فما يلوح جليّا ‏ارتهان المثقّف إلى لوثة السّياسة الطّاغية على مخياله وهو عائق فعليّ، جراء حساسيّة اليومي ‏الذي يعيشه التّونسي. حيث يعجز المثقّف عن التّسامي بتأمّلاته، وإبداعه، وإنتاجه المعرفي عن ‏مؤثّرات السّياسة المباشرة. ناهيك عن تجذّر إرث سابق، مؤسّساتي وسلوكي، ما فتئ يحول دون ‏تشكيل خطاب ثقافي نهضوي: يتعالى من جهة عن الشّللية المقيتة السّائدة في أوساط المثقّفين، ‏ويتحرّر من أوهام النّظر المهجوسة بالتّصور الغربي، ومن ثمَّ بالخلاص المصنَّع في الخارج، ومن ‏جهة أخرى يكفّ عن التّكسّب بالعمل الثّقافي من هذا الحزب أو ذاك. الأمر الذي حوّل ‏المثقّف إلى داعية إيديولوجي منساق ضمن موجة انجذاب عام، وهو مناخ صعب يحول دون ‏خلق حراك ثقافي جماعي يسند التّحولات المجتمعيّة والسّياسية لبلدنا.
إضافة إلى ذلك تنتشر ‏عوائد مقيتة بين شرائح العاملين في قطاعيْ الثّقافة والمعرفة، على غرار «التقاعد الفعلي المبكّر» ‏للأكاديميّين والعاملين في الحقل الثّقافي، وانتهائهم عن ترشيد الحراك المجتمعي واستبداله بانخراط ‏في جوقة الأدْلجة المجانيّة للنّاس، والتّحريض المجاني على هذا الطّرف أو ذاك مع انحدار بالخطاب ‏الثّقافي بدل التّسامي به.‏
لكن في ظلّ شرط الحرّية المتاح في الفضاء التّونسي في الرّاهن الحالي، هل بإمكان المثقّف ‏اقتراح تصحيح المسارات الكبرى، أو بناء رؤية ثقافيّة جديدة مع الذّات ومع العالم، تُرمّم ‏الكيان الثّقافي المهشَّم وتُخرج الفعل الثّقافي من السلبيّة والعبثيّة إلى الحضور والالتزام؟
لا مراء إن كان المثقّف لا يولد بين ليلة وضحاها، فإنّ الثّقافةَ بالمثل لا تُصنَّع تصنيعا ‏عاجلا، بل تقتضي تراكما. مع ذلك يتساءل النّاس، وربّما حتّى المثقّفين المستعجِلين: أين ثقافة ‏الثّورة؟ أو ثقافة ما بعد الثّورة؟ الواقع أن تونس ما كانت حقلا ثقافيّا خصبا قبل الثّورة، بل ‏كانت سجنا هائلا. كانت قدرات المثقّف حبيسة ومجمَّدة. وحتّى مثقّف السّلطة ما كان ‏طليقا، كان مسكونا بالحيطة والحذر أيضا، ويندر أن تجد مثقّفا تابعا كان مقتنعا بخطاب ‏السّلطة. حتّى من أجبرتهم الأوضاع على الأكل من مائدة المتنفّذين كانوا على قلق هائل. كنتُ ‏أعرف ثلّة من مثقّفي السّلطة، لمّا أعود إلى تونس كانوا يبثّون لي أوجاعهم ويشكون لي آلامهم، ‏ليَخلُصوا إلى أنّ الحلّ يتمثّل في خلاص فردي وهو التّوق إلى الهجرة. حتّى لَيُمكن القول إنّ ‏كثيرا من المثقّفين كانوا يُؤْثِرون المنفى مع أنّهم يعيشون داخل وطنهم. فقد كانت العلاقة بين ‏شريحة هامّة من العاملين في حقل الثّقافة في تونس والدّكتاتوريّة قائمة في مجملها على زبونيّة ‏رخيصة. والملاحظ أنّ الدّكتاتوريّة حين تتحكّم بالمثقّف لا ينحصر أثرها السّلبي بمرحلة، بل يمتدّ ‏الأثر إلى السّابق بأثر رجعي، من خلال تدمير الذّاكرة الحيّة والجامدة (إلى الآثار المادّية ‏والنّصوص والأعمال الفنّية)، وإلى اللاّحق من خلال ما تُخلِّفه من عاهات مثل الانتهازيّة ‏واللاّمبدئيّة والوصوليّة وانعدام الخُلق.‏
(2) خواطر ثقافية على هامش الثّورة
بعد هذا التّوصيف للأوضاع قبل الثّورة، أعود إلى علاقة المثقّف التّونسي بالثّورة من خلال ‏بعض المشاهد:‏
‏- ثمّة رأي شائع عند التّطرّق للحديث عن الثّورة التّونسيّة، وأجزم أنّه خاطئ، مفاده أنّ ‏الثّورة اندلعت بدون قيادة، وبدون سياسة، ومن ثمّة بدون ثقافة... الواقع أن حالة «البدون» ‏هذه أو حالة الخواء، سلبية ولا تُولّد إلاّ السّكون. لذلك تبدو سوسيولوجيا الثّقافة مدعوة ‏بإلحاح لإخراج الحدث الثّوري من حيز التّبسيط والابتذال والتّسطيح للإجابة عن سؤال: من ‏أين تدفّقت الثّورة وأيّ جداول غذّتها؟
‏- أَذكر اليوم الذي خابرتني فيه الزّميلة الإيطالية «إيزابيلا كاميرا دافليتو» وهي خاسئة حسيرة، ‏على إثر زيارتها للملحق الثّقافي في قنصليتنا العتيدة في روما، قبل الثّورة، بعد أن كانت تظنّ ‏أنّها ستزفّ إليه بشرى سارّة بترجمة رواية «دار الباشا» للكاتب التّونسي حسن نصر. لم يعبأ ‏بها أحد لا الملحق، ولا القنصل، ولا جميع المخبرين، ممّن كانت تعجّ بهم القنصليّة حينها. من ‏يومها شرّقت كبيرة المترجمين الإيطاليين بعد أن همّت أن تُغرّب. وتأكّد لديها أن تونس قد ‏تحوّلت إلى مستنقع آسن. غير أنّها بعد الثورة عاودها الحنين إلى تونس، فما فتئ الشابّي يغويها ‏بالتّرجمة. من هذا الباب حريّ أن نمتن علاقات تونس الجديدة بالنّافذين في مجال الفكر والأدب ‏والتّرجمة في العالم، إن كنّا نريد خيرا لثقافتنا.‏
‏- كثير من الكتّاب التونسيين يُلحّون عليّ لترجمة أعمالهم إلى الإيطالية، أو التوسّط لتزكيتها ‏لدى من يعمل في المجال في إيطاليا، إلى درجة الاستجداء الفاضح الذي لا يليق بالمبدع. في ‏الحقيقة أنا لا أترجم إلاّ لمن كنتُ على يقين أنّه صادق مع شعبه زاهد مع نفسه، ولذلك سبق ‏لي أن عكفت على ترجمة «المرائي والمراقي» إلى الإيطالية للشاعر التونسي محمّد الخالدي ‏وغيره. فقد رأيت أنّ الرّجل نطق بالشّهادة حين جحدها كثيرون، وقال لي: «سيُحرقُ ‏المصْحفُ في رابعةِ النّهار /ويفْجُر الملوك في الكبار والصغارِ. وقال لي: لا تكترِثْ فآيةُ القيامه ‏‏/يصير كل مسجدٍ مبولَةً /وكلُّ مُصْحفٍ قُمامه». (القصيدة منشورة في مطلع تسعينيات القرن ‏الماضي ضمن ديوانه المشار إليه).‏
كما أنّ من قناعتي ألاّ أزكّي نصّا ليُنقل إلى الإيطاليّة إلاّ متى رأيت فيه ألَقًا يليق بتمثيله ‏فكرنا أو شِعرنا أو أدبنا... فكيف أروّج لنصوص خدم أصحابها السّلطان السّابق أو السّلطان ‏الأسبق، والحال أنّ هناك ملْحَ الثّورة، شعراء وكتّابا ثوريين قبل الثّورة!؟. فمن المعيب أن يصير ‏الأوائل أواخر والأواخر أوائل.‏
‏-‏ لم أستح يوما لأنّي تونسيّ مثلما استحيت يوم جاءني طلاّب إيطاليّون من كلّية ‏الدّراسات الشّرقيّة في روما ليرووا لي عن إقامتهم صيفا في بلدي. همسوا: قصدنا تونس ‏لتعلّم العربيّة فتعلّمنا الفرنسيّة‎!‎‏ وَجِلتُ من هول النّكبة. إذ جُلّ من ينزل بتونس للدّراسة ‏يكنّ احتراما لـ «معهد بورقيبة للّغات الحيّة» ويثني على تلك المؤسّسة. لكنّ السّواد الأعظم ‏منهم يحتقر الشّارع التّونسي لأنّ فيه تلوّثا لغويّا مشينا، حتّى ليهزأ المستعرِبون الإيطاليّون ‏من التّونسيين أكثر ممّا يمتدحونهم.‏
‏-‏ لم تتسيّس الثّقافة في البلاد العربيّة مثلما تسيّست في تونس. أُلصقت برموزها النّعوت ‏المغرضة وغاب التّقييم الحقيقي للنّصوص واستعيض عنه بحكم إيديولوجي رخيص. قال ‏لي الرّوائي التّونسي الحبيب السّالمي حين التقينا في روما (قبل الثّورة): في تونس جوائز ‏وملتقيات وأعمال على قدر عقول أهلها. في ظلّ ذلك الارتباك اصطنع النّظام أوثانه، ‏التي تَوهَّم في تصديرها خارجا أن تلقى قبولا حسنا. لذا أنصحُ بالاستئناس بخبراء الذّائقة ‏الأجنبيّة قبل خوض غمار التّصدير حتّى لا تُولد المشاريع ميّتة.‏
‏-‏ في السّياسة يمكن أن يخادع المرء ولا يفطن به النّاس، ولكن في الثّقافة، مثل النّبوة، حين ‏يخادع المرء سرعان ما يُفضح أمره. هذا التّشخيص ينطبق على كثير من مدّعي الثّقافة في ‏تونس قبل الثّورة. ففي ما مضى أغوى النّظام الغارب كثيرا من العاملين في الحقل ‏بالانضمام إلى جوقة كلاب الحراسة، ومن أبى زُجّ به في عالم التّهميش والعزل قهرا وعنوة، ‏ليكون في زمرة السّائحين الهائمين. أذكر كلمة للرّوائي حسن بن عثمان، عشية الثورة: ‏‏ «أن النّظام جرّ الجميع إلى المستنقع، تورّط وورّط معه معشر المثقّفين، حتّى إذا لُعنَ لُعنوا ‏وإذا سُبّ غضبوا له».‏
‏-‏ يسألني كثير من الباحثين والدّارسين الإيطاليّين عن الفكر التّونسي المتواري خلف الثّورة؟ ‏فأجيب كان شفّافا ولا يزال أهله مهمَّشين. هؤلاء مثقّفون زهاد، ولكن في تونس ثمّة ‏تعاملا مع المثقّفين، قبل الثّورة وبعدها، بمثابة خراف بيت إسرائيل الضّالة.‏
(3) الثّقافة والطّغيان
في تسعينيات القرن الماضي، وفي غمرة الأجواء المشحونة بالتّوتّر السّياسي، لمّا أحكم ‏الطّغيان حصاره على تونس، تخلّى شقٌّ واسع من المثقّفين عن أدوارهم وانخرطوا في آلة القمع ‏الغاشمة: فكان أن كوفئ البعض منهم بمهام الوزارات والسّفارات، وآخرون بالتّصعيد إلى ‏البرلمان، وغيرهم بتوكيلهم شأن المنابر العلميّة والإعلاميّة والأكاديميّة، على أن ينضمّ من قَبِل ‏العطية إلى جوقة العمل من أجل اجتثاث كلّ نفس ديني وعروبي ووطني من التّونسيين، بدعوى ‏قطع دابر الإسلاميين؛ ولكن مقابل ما أُجزل للمثقّفين العائمين من وافر العطاء، انتَزَع وكيل ‏نعمتهم منهم مبادئَهم، وصادر فيهم ما تبقّى من كرامتهم. ممّا حوّلهم إلى خصيان في حضرة ‏السّلطان، وإلى كلاب حراسة شرسة تذود عن حياضه. قلّة قليلة من الطّائفة العالمة، التي تربّينا ‏على تقديسها وإجلالها، امتزج لديها العمل الثّقافي بالنّبل الأخلاقي خلال تلك الفتنة، ‏وتعففت عن الإغراءات ولم تأبه للتهديدات.‏
أثناء تلك المحنة التي أَلمّت بالمثقّف التّونسي، من لم يَلُذ بالتقيّة لاذ بالصّمت، ظنّا أنّه ‏الخندق الحامي الذي تبقّى؛ لكن سرعان ما تبيّن أنّ الصّمتَ ليس ملجأً فهو مقام واهن كبيت ‏العنكبوت. فراودت الهجرة وقتئذ كثيرا من المثقّفين والإعلاميّين والأكاديميّين، إلاّ من أقعدته ‏الحيلة وقنع بما رماه به الدّهر. كنت شابا في مقتبل العمر حينها، تركت تونس ويممت وجهي ‏شطر روما، عقب عشر عجاف مُنعت خلالها حقّ العمل وحق السفر، لكن «قلبي كان على ‏وطني». ذلك أني لا أجد توصيفا لكربلاء المثقّف التونسي في عهد النظام الآفل، المثقف الذي ‏أبى أن ينحاز إلى صف الرذيلة، أبلغ من قول المسيح (ع) في إنجيله: «سيُخرجونكم من المجامع ‏بل تأتي ساعة يظن فيها كل من يقتلكم أنه يقدّم خدمة لله».‏
ونحن ننفض غبار السنين عنّا، نفطن كل يوم أن الثقافة الموبوءة التي بُثّت فينا طيلة عقود، ‏لم تذهب أدراج الرّياح مع انهيار النّظام الآفل، بل عشّشت في قلوبنا حتّى حوّرت أفهامنا ‏وبدّلت أذواقنا. خلّفَ فاسد الأجواء مرضا عضالا استحكم بوعي المثقّف ولاوعيه، متمثّلا في ‏صراع يحسبه المرء أبديّا بين الدّيني واللاّديني، والحقيقة أنّ الصّراع في الأرض وليس بين السّماء ‏والأرض؛ وبالمثل خلّف فاسد الأجواء وهْمًا موغلا لدى المثقّف أنّه في قلب الثّقافة الكونيّة ‏والحال أنّه على هامشها، جرّاء الاغتراب الفكري المستحكم بعقول النّاس.‏
خمسون عاما ونيف وإعلامنا المصادَر يضخّ عقلنا المحاصَر ببذيء الكلام وسافل القول، ممّا ‏أورثنا زعزعة في الهويّة وعجمة في اللّسان. وما زالت الصّحافة الباهتة والإعلام الهابط مستمرّين ‏في صنيعهما، يُذهبان العقل ويميتان الرّوح ويصنعان البهتان، حتّى بعد الثّورة، لذلك كلّما ‏تصفحتُ الصّحف وتابعت الشّاشات، أتأكّد أنّ الثّورة الثّقافيّة ما زالت مؤجّلة وتنتظر يومها ‏الموعود.‏
الثّقافة التّونسيّة اليوم تراوح في مكانها، تحنّ إلى بطاركتها الذين تمّ سبكهم في فرن النّظام ‏السّابق. وما فتئت تطلب من سحرتها الهديَ والهدايةَ وقد سبق أن أضلّوها السّبيل. إذ ثمة ‏شغف بـ «الأوليائية» الزّائفة في الوعي الثّقافي التّونسي الحالي، حيث البحث عن استعادة دهاقنة ‏الشّعر والرّواية والدّين والفن، ومن لفّ لفّهم، وإعلائهم إلى مصاف المراجع والأعلام، في ‏الاقتصاد والاعتقاد، وفي شأن البلاد والعباد، وهو خطأ جسيم. فلا خلاص لعقلنا إلاّ بحركة ‏نقديّة جادّة تخلّصنا من الأساطير.‏
حصلت ثورة سياسيّة في تونس، لكنّ الثّقافة لا تزال في قبضة الأنبياء الكذبة. لا أقول ‏حقيقة ولكن أعرِض واقعا: صعبٌ قتل الثّعابين الطّاعنة، لأنّ الثورة التّونسيّة الوليدة ليس لها ‏أعلامٌ حتّى نقول للنّاس بأيّهم اقتديتم اهتديتم. فقد دنّس النّظام الآفل الماء والهواء، وأضرّ ‏بالعاملين في مؤسّساته والخارجين عنها، وقليل منهم من لم يشرب من مياهه الآسنة.‏
أحزابنا الثوريّة والدّيمقراطيّة واللّيبراليّة والإسلاميّة أيضا، وعلى كثرتها، لا تراهن على ‏الثّقافة ولا تبالي بالمثقّفين، ليس نكاية بالعاملين في هذا القطاع، ولكن لسبب بسيط وهو ‏افتقارها إلى فلسفة ثقافيّة في بنيتها التّأسيسية. جراء ذلك يبقى جانب كبير من الفوضى ‏العارمة، ومن جدلنا المحتدم بلا معنى ولا مبنى، متأتّيا من افتقارنا إلى خلفيّة ثقافيّة، وهو ما ‏يزيد من خشيتي على «ثورة الكرامة» في تونس. فأيّة ثورة تفتقر إلى أفق معرفي رحب تبقى ‏مهدّدة بالانتكاس، وكلّ ثورة لا تصحبها ثقافة تفصح عن هويتها وتترجم قيمها، تبقى مرشحة ‏للتّحول إلى حيرة.‏
(4)  المثقّف  يأبى الإلغاء
بقدر ما مثّلت «البنعلية» تهشيما وتهميشا لكيان المثقّف، مثّلت حقبة ما بعد الثّورة فترة ‏مراجعة كبرى داخل الثّقافة التّونسيّة. في الحقيقة لم ينزو المثقّف، ولم يهجر السّاحة، ولم يلذ ‏بالصّمت، بل اللّحظة هي فترة تأمّل، يتساءل فيها عن سُبل الخلاص. بدا سعي مثقّف ما ‏بعد الثّورة إلى إنشاء فضاء جديد للفعل محتشما في البدء. اقتضت المراجعات حذرا من ‏الأيديولوجيّات الشّموليّة ومن الدّعاوى السّياسيّة الخلاصيّة. كان ذلك المناخ الجديد يسير ‏باتجاه رسم خارطة مغايرة للفعل الثّقافي، تتلخّص تضاريسها في تطوير ما أُطلِقُ عليه «المثقّف ‏العمومي»، الذي لا يلعب فيه المثقّف دور كلب الحراسة الثّقافي، المدرَّب على مهمته، بل دور ‏المؤمن بوظيفته الوجوديّة التي ترفض الانهيار الخُلقي والقيمي، وتعارض الإلغاء لوجوده. لم يعد ‏المثقّف موظّفا في خدمة الغير بل مشغولا بقضاياه. إذ داخل عمليّة التّوليد هذه كانت المحاولة ‏لنزع الطّابع المؤدلَج الذي طغى على المثقّف وألحقه زورا بهذا الصّف أو ذاك، والسّعي للعودة ‏إلى المهمّة البدئيّة الأصليّة، بعيدا عن أيّ منزع نبوي تفسيري له، بل بتأكيد دوره النّقدي، ‏والإلحاح على حياد نشاطه المعرفي. فليس المثقّف ذلك الكائن المتموضع خارج شروطه ‏الاجتماعيّة، بل هو امرؤ فاعل ضمن نسيج اجتماعي أوسع، يرفض التّهميش والإلغاء، ‏واختزال دوره في تدبيج العرائض المناهضة أو المناصرة لهذا الطّرف أو ذاك، باعتباره قتلا رحيما ‏للمثقّف، يخلي السّاحة للمتلاعبين بالعقول.‏
يقول الأديب الإيطالي إرمانو ريا: «لا يمكن الحديث عن التزام المثقّف حين يكون معزولا ‏عن الجماعة». فالمثقف الملتزم هو بإيجاز مواطنٌ مسؤولٌ، يجسّد أعلى مراتب المسؤوليّة. والمثقّف ‏ليس ذلك الذي يهتم بقضايا مفارقة مطلقة، بل هو كائن اجتماعي يشغله الرّاهن وينتابه قلق ‏على مصيره. وخَلْق المجتمع المستنير ليس فحسب بمقاومة الرّقابة والوصاية على عقول النّاس، ‏بل بمقاومة الانعزال وكسر الطّوق الذي يضربه كثير من «المثقّفين» المؤجَّلين على أنفسهم، ‏بالخروج من المكتب والفصل والمدرسة والجامعة، لمجابهة اللاّمعقول واللّاقيمي واللاّمنطقي ‏المستشري.‏
كان الإيطالي «أنطونيو غرامشي» قد دعا إلى إصلاح عقلي وخُلقي ضمن خطوة أولى لبلوغ ما ‏يصبو إليه المثقّف العضوي، وهو محقّ في ذلك. فقد أُفرغت الثّقافة في تونس طيلة عقود ‏سابقة، من دلالاتها الحقيقية وتحوّلت إلى كمّ من الحشو الأنثروبولوجي، خليط من الفضائل ‏والرّذائل، من المعرفة والجهل، من العقل والدّجل. وهو ما انعكس على المثقّف، ما عاد ذلك ‏الفاعل بل ذلك المحمَّل بالأثقال المعرفيّة والدّيماغوجية. وباختصار تحوّلت الثّقافة من قيمة إلى ‏بضاعة، وتحوّل المثقّفون من صنّاع التّحول إلى «أقلّية» خائرة سائرة نحو الانقراض. تَرافق ذلك ‏مع هجمة عنيفة على المثقّف النّقدي بهدف إلجامه وتقليص مهامه. فضلا عن التّشكيك ‏المتواصل في قدراته، بهدف بثّ الوهن فيه وتحويله إلى موظّف مكتبي وتقني. والحال أنّ المثقّف ‏بطبيعته لصيق بالاجتماع البشري، فهو ليس نتاج أزمة أو إفراز ظرفيّة تاريخيّة؛ بل هو حضور ‏دائم في المجتمع.‏