قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
كأنه عود على بدء
 رحل جدّي رحلته الأخيرة التي لم يعد بعدها أبدا من تلك القرية المحروم  أهلها من كلّ متاع. قيل في رحيله الكثير، فقد قيل أنّه مات في سفره ذاك وقيل اتخذ لنفسه زوجا أخرى ولكن الذي لا شكّ فيه ولا اختلاف حوله أن الرّجل خرج فارّا من فقره وأغلب الظن أنّه لم يجد في سفره متّسعا من الرّزق يردّه الى أهله ظافرا بعد غيبة، فمات فقيرا كما خرج. 
لم يفر جدّي من قريته فقط ولا من شضف العيش وقسوة الجوع وإنّما فرّ من زوجه وعياله، فقد كان يكفل الى قرينته ثلاثا من الصّغار القصّر الذين لا يقدرون على الكسب، بنت وولدان تركهم لليتم وضنك من العيش لا يقدر عليه ذووا السّعي فكيف بعيال لا حول لهم .
لم يبلغ والدي التّاسعة من العمر حين رحل جدّي رحيله الأخير وقد تركهم يسكنون كوخا من قصب القمح، سقفه من التّبن بنوه في قطعة أرض أهداها لهم خاله رفقا بهم، وكانوا يأكلون من قليل ما يأتي به جدّي إذا تهيّأ له عمل يسير في المدينة القريبة أو غيرها، فكان رحيله أشدّ وطـأة على والدي من غيره، إذ كان عليه هو أن يتدبّر أمر أمّه وأخته وأخيه في قرية لم يكن فيها سبيل للكسب. وقد روي لي والدي حكايات كثيرة عن تلك السّنين العجاف زمن الإستعمار وما كان يلاقيه من عنت في سبيل لقمة العيش.
عمل والدي راعيا بالخمس والخمس القليل يلزمه الرّعي من مشرق الشّمس الى المساء، ليس على لحمه الغضّ سوى قميص وسروال، حافيا صيفا وشتاء، طعامه دقيق الشّعير وخبزه وعمل بالزّراعة في أماكن نائية لا يبلغها الرّجل مشيا إلاّ بعد أيّام، فكان يعود منها مثقلا بما يحمله على ظهره من زاد لا يعدو أن يكــون تمرا أوشعيرا، فلا يزيد مكوثــه عند والدتــه على ليلــة ثمّ ما يلبث أن يعود الى حيث كان راعيــا أو جــادّا في حرث الأرض أو حصادها. سفر يلد سفرا والحال ذاته لا يتغيّر كلّما كبر ازداد عنــاء وثقلت عليه مشقّــة أمّه وإخوته. 
كان حال النّاس في تلك السّنين متشابها يشتركون في الفقر ولا توجد لديهم فرص لتنويع نشاطهم ولا قبل للصّغير بتعلمّ أي حرفة، فقد كان الهمّ الأكبر للجميع صغارا كانوا أو كبارا لقمة العيش، فلم يكن بوسع والدي أن يتعلّم حرفة مهما كان شأنها، ولا كان متعلّما حتّى يتسنّى له العمل بما اكتسبه من علم، وهكذا تمادت به السّنون يجد في طلب الرّزق كيفما اتفق له حتّى ساقه القدر الى مدينة بوسط البلاد حيث أمكن له هناك أن يتعلّم بالمشاهدة حرفة كانت في حينها زهيدة لا تحتاج لكثير من الجهد في التعلّم وهي حرفة «قلي الحمص» وبيعه مقليّا، فكانت تلك نعمة ساقها الله له وحرفة اتّخذها بعد ذلك سبيلا الى الرّزق. 
شدّ والدي التّرحال الى إحدى المدن الساحليّة وقد صار شابّا وبدأ بها عمله بالتّجارة التي تعلّمها والحرفة التي عرفها ساعيا بين أنهجها وحاراتها دافعا عربته بما عليها من سلعة يبيع منها القليل حينا والكثير حينا آخر ويسرق السرّاق أو «الحوافة» وهم كثر في ذلك الزّمان ما عنده وهكذا شهرا بعد آخر وسنة بعد أخرى حتّى اشتدّ عوده وصار له كسب أغناه عن شضف العيش وعاد بوسعه أن ينفق على أهله بقليل اليسرخاصّة بعد أن اتّخذ لنفسه دكّانا كفاه عنت العربة ومقت السرّاق.
سكنت القرية الرّيفيّة الصّغيرة أضلع والدي وظلّ يحنّ إليها حنينا لا يخفيه كلّما ابتعد عنها عاد اليها. لم تغيّر المدينة عادتــه ولا نمط عيشه ولا اللّهجة التي تجري على لسانه ولم تفتنه المدينة عن دينه، فقد كانت وشيجته بالدّيــن تزداد قربا كلّمــا ازداد عمــرا. ولم يفارق والدي حياء أهل الرّيف الذي جاء معه من القرية حتّى عُرف به ولا صفات أهــل البداوة الغالبــة على طباعهم من أنفــة وإبــاء ومودّة خالصـــة لله وحسن الصّحبــة والوفــاء وطيب المعشــر. وقد كان شديد الالتزام في تجارته لا يبحث إلاّ عن الحــلال من الرّبـــح ولا تأخذه شهوة الكسب الى ما لا يحمد من الحيلة حتّى صار الشكّ لا يرقى الى سلعته وضُرب به المثل في حسن الخلق.
أحبّ والدي قريته حبّا لا يوصف ولم يستطع أن يستبدله بحبّ المدينة التي استقر بهــا وأن كــان يكبــر فضلهـــا عليــه ويحفظ ودّ أهلهـــا. ولئـن ترك والدي قريته شبــه خاليـــة، فقد ظلّ يعود اليهـــا وقد بدأ أهلها تعميرها بعد أن غيّر الزّمن حالهم، فكان الأكثر دأبا في العمل يطيل بها المقام أشهرا حتّى يغرس فيها مقدارا من أشجار الزّياتين بمعيّة أخيه ثم يعود لعمله ودكانه، فإذا جمع مالا عاد به ليشتري أرضا أو يغرس زيتونا ويبني  بيتا، فعمر من قريته ما يستطاب به عيشه إذا عاد وعيش أخيه عاما بعد آخر حتّى حبسه المرض عنها وأدركه ما يدرك النّاس من شيخوخــة وعجز بعد طول العنــاء، فلم يبق لـــه في نفســه منها الاّ الحنين الذي لا يخفيه. 
لم يمت والدي في القرية التي أخرجت والده فارّا من فقره وأخرجته جادّا في الكسب صبيا، وإنّما قضى الله عليه الموت بعيدا عنها في المدينة التي أحبّه أهلها وتلك قسمة الله العادلة ولم يعد والدي الى قريته بعد طول فراق إلاّ ليُدفن فيها وما ذلك إلاّ ظنّا مني أنّ له في ذلك أمنية ومشيئة كأنّما هو عود على بدء ولكن هيهات. رحم الله والدي وتقبّل منه العمل الصالح وكدحه في الحياة.