شخصيات الإصلاح

بقلم
التحرير الإصلاح
غيلان الدمشقي ... شهيد الرأي والتعبير
 هو أحد أبرز حملة لواء العقل والحرّية والعدالة، ومن أشدّ المدافعين عن حرّية الإنسان ومسؤوليته عن أفعاله،اعتبره البعض الأبّ الحقيقي لحركة التّنوير وواحدا من أهمّ منظري الفكر السّياسي في التّاريخ الإسلامي، واعتبره آخرون من أئمة الشرّ والضّلال والقدر والاعتزال، وصفه الإمام الحسن بن محمد بن الحنفية بأنّه « حجّة الله على أهل الشام ولكنّ الفتى مقتول»...إنّه غَيْلان الدّمشقي، الذي دفع حياته من أجل الحرّية والعدالة وكان أحد ضحايا الحكم الأموّي بعد أن قرّبه الخليفة عمر بن عبد العزيز.
غيلان بن مسلم، وقيل ابن مروان أو ابن يونس، أصله مصري، وكان أبوه من موالي عثمان بن عفان. ولد في مدينة دمشق التي نُسب إليها سنة 106هـ / 724م، وارتحل في طلب العلم، فدرس على الحسن بن محمد بن الحنفية في المدينة، و درس الفقه على الحسن البصري في البصرة. عاش غيلان في دمشق في زقاق فقير بقرب أحد أبواب دمشق اسمه باب الفراديس.
اشتهر غيلان بين جيرانه و معاصريه بصلاحه وتقواه وورعه. ويعدّ من أعلام الوعّاظ والخطباء والكتّاب البلغاء، يضعه العلماء والمؤرخون في الطّبقة الأولى من الكتاب (مع ابن المقفع، وسهل بن هارون، وعبد الحميد)، وله رسائل - ضاعت - يقول عنها ابن النّديم أنّها بلغت ألفي صفحة! كما اشتهر في الشّام كصاحب أشهر فرقة من فرق المتكلّمين المسلمين تسمّى «الغيلانيّة» نسبة إليه تقول إنّ الإنسان حرّ مختار في أفعاله، وكان غيلان وفرقته من أوائل الذين أظهروا هذا المذهب، وعارضوا الجبر والجبريّة في عاصمة الدّولة الأمويّة دمشق. وكان الجبر والجبريّة المذهب الذي يشجّعه خلفاء بني أميّة، لأنه يعفيهم أمام النّاس من المسؤوليّة عن المتغيّرات التي أحدثوها في نظام الحكم الإسلامي، فكان غيلان من قادة المعارضة السّياسية والفكريّة للأمويّين، وينتقد سياسات الحكّام والدّولة الأمويّة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والماليّة، فضلاً عن عقيدتهم الجبريّة المعادية للحرّية، والتي كانت تتأسّس عليها شرعيتها، ويهاجم طريقة حكمهم وتسلّطهم على النّاس وحياة البذخ التي كانوا يعيشون فيها على غرار أكاسرة الفرس وأباطرة الروم.
كان غيلان من أشدّ المدافعين عن حريّة الإنسان ومسؤوليته عن أفعاله (وهو ما كان الأمويّون ومعهم أصحاب الحديث يحاولون التّهرب منه)، وهو ما جعله يتبنى وجهة نظر مختلفة في قضيّة الحكم. ففي الوقت الذي كان فيه الجميع يشترطون « القرشيّة» للحكم، كان غيلان يرفضها فهي عنده ليست شرطا للإمامة. بل تصلح في كلّ من يجمع شروطها أي لكلّ من كان قائما بكتاب الله وسنّة رسوله وهي لا تثبت إلاّ بإجماع الأمة. فغيلان يرفض احتكار السّلطة من طرف فئة واحدة ( قريش )، ويجعل الشّعب مصدرَ السّلطة ( وهو أساس فكرة الديمقراطية ) إذ يشترط إجماع الناس واختيارهم الحرّ لتولي الحاكم، كما أنه يعتبر الحكم تعاقدا على أساس الكتاب والسّنة وبالتّالي يجوز للنّاس خلع الحاكم حينما يخلّ بشروط التّعاقد السّياسي، وعلى رأسها العدل. وهو مفهوم استمده غيلان من نظريته عن العدل الإلهي.
قال عنه الدكتور محمد عمارة في كتاب «مسلمون ثوار» أنّه كان من الوعاظ والخطباء والبلغاء، اتخذ موقفًا ثوريًّا من كلّ السّلبيات التي ظهرت في العصر الذي عاش فيه، خصوصًا وأنّ الأمويين حرصوا على أن تبقى الدّولة النّاشئة ذات مظهر لائق أمام النّاس، حتّى وإن احتوت بداخلها على مضامين مختلفة عن التي جاء بها الإسلام، فكان غيلان يخاطب النّاس بضرورة تطابق أقوالهم مع أفعالهم، حتّى إنّه أطلق على زمانه زمن الهرج، وكان يقول «لا تكن كعلماء زمن الهرج إن وُعظُوا أنفوا، وإن وَعظوا عنفوا». ومن أقواله أيضًا «إن رأيت قلوب العباد في الدّنيا تخشع لأيسر من هذا وتقسو عند هذا، فانظر إلى نفسك: أعبد الله أنت أم عدوه؟ فيا رُب متعبد لله بلسانه مُعادٍ له بفعله ذلول في الانسياق إلى عذاب السعير في أمنيته أضغاث أحلام يعبرها بالأماني والظنون». 
وقد صنّفه البعض من القدماء والمحدثين ضمن «المرجئة»، إلاّ أنّ (د.محمد عابد الجابري) في كتابه (نقد العقل العربي 4- العقل الأخلاقي العربي) يرى فيه رائداً من رواد التّنوير القدماء، فهو يكتب عنه: «كان من جملة الذين لم يستسلموا لمنطق «إما... وإما» مَن يعتبر بحق أحد رواد الحركة التنويرية في العصر الأموي: غيلان الدمشقي. لقد كان يقف موقفاً معارضاً للأمويين والخوارج معاً، ملتمساً فهما للإيمان يحرره من أيديولوجيا الجبر وأيديولوجيا التكفير في وقت واحد. فقال إن الإيمان ليس خصلة واحدة بل هو اجتماع الخصال المكوّنة له، وهي المعرفة بالله معرفة صادرة عن تدبر و اقتناع، والخضوع له، والإقرار بالكتاب والسنة والخضوع لهما»
كان غيلان المجدّد الأصيل للفكر العقلاني في مجال السّياسة، وكان يتّصف بالوضوح الفكري وبالجرأة الأخلاقيّة. وعرف بالشدّة في الحقّ، ولم يكن يخاف في الله لومة لائم، فبعدما تولّى عمر بن عبد العزيز الخلافة، وسلك طريق إصلاح ما أفسده الأمويّون، وجد مقاومة كبيرة وضغط من أبناء عمومته من الأرستقراطية الأمويّة، فكتب غيلان إلى عمر رسالة جاء فيها : «أبصرت يا عمر وما كدت ونظرت وما كدت، اعلم يا عمر أنّك أدركت الإسلام خلقًا باليًا ورسمًا عافيًا، فيا ميّتا بين الأموات ألا ترى أثرا فتتبع ولاتسمع صوتا فتنتفع. طفا أمر السّنة وظهرت البدعة، أخيف العالم فلا يتكلم (قمع حرية التعبير) ولا يعطى الجاهل فيسأل (لا يسمح له بالسؤال عما يجهل) وربّما نجت الأمّة بالإمام، فانظر أيّ الإمامين أنت (العادل أم الجائر) فإنه تعالى يقول «وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا»، فهذا إمام هدى ومن اتبعه، وأمّا الآخر فقال تعالى «وجعلناهم أئمة يهدون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون». فرد عليه عمر قائلًا «يا غيلان أعنِّي على ما أنا فيه»، وعرض عليه إسناد وظيفة إليه فطلب أن يتولّى « بيع الخزائن وردّ المظالم» وهو اختيار له مغزاه. إنّه لم يختر لا الولاية ولا القضاء، بل اختار وظيفة ليس فيها مكاسب وإنّما ردّ المظالم أي إنصاف الذين ظلمهم الولاّة والقضاة. فعيّنه الخليفة في المنصب الذي طلب. وقد كان هذا المنصب وراء قتله، حيث تحكي المصادر أنّه حين ولاه عمر بيع الخزائن وردّ المظالم نادى أهل المدينة باسترداد أموالهم التي نهبها الأمويّون منهم قائلا: « تعالوا إلى متاع الخونة ( يقصد الحكّام الأمويين) تعالوا إلى متاع الظّلمة، تعالوا إلى متاع من خلف رسول الله في أمّته بغيرسنّته وسيرته... فمرّ به هشام بن عبد الملك ( الذي سيصبح خليفة بعد اغتيال عمربن عبد العزيز) فقال: هذا يعيبني ويعيب آبائي، والله إن ظفرت به لأقطعّن يديه ورجليه...
 بوفاة ابن عبد العزيز استتبب الملك والسّلطان لهشام بن عبد الملك فأراد أن يحقّق وعده السّابق بالانتقام من غيلان، فهرب غيلان إلى أرمينيّة وهو ينشر عيوب هشام وأخبار ظلمه وظلم بني أميّة اللّذين يزعمون أنّهم يحكمون بقضاء من الله وقدره وأنّه لا مهرب من القضاء والقدر. فأمر هشام باعتقاله وأُحضر مكتوفا لمجلسه وأمام خاصّته ووزرائه وقوّاده وبحضور أعيان بني أمية، استكملت جلسة الإنتقام أركانها وطلب منه مدّ يده فقطعها هشام بالسّيف، ثم طلب منه مدّ رجله فقطعها أيضا، ثم ألقي بغيلان خارج قصر الخليفة.
ظل غيلان أياما يجلس أمام بيته في حيّ الفراديس الدّمشقي دون علاج والذّباب والحشرات تتناوشه، دون أن يشفع لحالته أحد، وصدف أن مرّ أحدهم به وسأله ساخرا إن كان ما به قضاء وقدر، معرضا بعقيدة غيلان في القضاء والقدر ، فما كان منه إلاّ أن أجابه: «كذبت..ما هذا قضاء وقدر». فسمع الخليفة بإجابة غيلان، فأمر عساكره بحمله وصلبه على أحد أبواب دمشق.
 جاء إعدام «غيلان» بعد بضع سنوات على إعدام معلمه «معبد»، ولم تكن قضيّة إعدامه بالبعيدة عن موقفه من ردّ أموال النّاس التي نهبها الأمويّون وأعادها «عمر بن عبد العزيز» لهم بعد أن وكلّ ««غيلان» بتنفيذ قراره. ولم تكن أيضا ببعيدة عن جهر «غيلان» بالمعارضة السّياسية والايديولوجيّة والتّحريض على الثّورة، والتّشهير بما وقع فيه بعض الأمراء من فساد وإثراء على حساب النّاس.
وقد فرح خصومه - من علماء السّلطان- بمقتله وقالوا: «إن قتله أفضل من قتل ألفين من الرّوم!». أما الآجري و ابن عساكر فيردّدان عبارة الإمام مكحول الشّامي - المعاصر لغيلان - حيث قال عنه: «لقد ترك غيلان هذه الأمّة، في لجج مثل لجج البحار».
قد جنت على «غيلان» شجاعته وصدقه وتمسّكه بمبادئه، فانتقم منه «الحاكم الظالم»، وأمر بصلبه على باب دمشق. وفاز هذا العالم الصّادق بفضيلة السّبق في صفّ شهداء الحرّية، من الذين تشهد دمشق اليوم سلسلة بطولاتهم في مقاومة الاستبداد.