نفحات
بقلم |
سعيد السلماني |
هكذا ينبغي أن نحتفل بالمولد النبوي |
كلّما أهلّ علينا شهر ربيع الأول نتذكر ميلاد خير البريّة محمد ﷺ وفي الثّاني عشر منه تبدأ التّبريكات والتّهاني تتوارد علينا من كلّ حدب وصوب، ولا أخفي أنّني تساءلت مرارا وتكرارا عن كيفيّة ربط الأمّة الإسلاميّة بأبرز قيمة إنسانيّة جسّدها مولد الرّسول محمد ﷺ، فلم أجد أفضل من قيمة القراءة، فربط الأمّة بهذه القيمة أهمّ مطلب في نظري اليوم، وأن نجعل من القراءة هدفنا وشغلنا الشّاغل؛ بمعنى أن نجعل من ذكرى مولده ﷺ، محطّة البناء من أجل مستقبل معرفيّ زاهر.
إنّ سؤال القراءة هو ما يجب طرحه بشدّة في ذكرى المولد النّبوي، فبمولده ﷺ لاحت في الأفق بوادر الانفراج عن القراءة والكتابة: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ»(1).
ومن هذا المنطلق، فذكرى المولد النّبوي يجب أن تكون ذكرى حثّ على القراءة والكتابة والعلم والمعرفة، ولو ركّزنا على هذا الهدف الاحتفالي لكفانا شرفا وفخرا، فالشّعب الذي «لا يقرأ، لا يستطيع أن يعرف نفسه ولا أن يعرف غيره»(2)، فهذا الاحتفال يجب أن يكون وسيلة لتنمية قيمة القراءة والعلم في نفوس أبناء الأمّة الإسلاميّة، ونرسّخ من خلال هذا الاحتفال ثقافة جديدة تدين بل تنبذ جريمة اغتيال فعل القراءة. والمناسبة شرط كما يقول الفقهاء، ومناسبة المولد النّبوي هي دعوة للتّأمل والنّقد.
إنّ ذكرى المولد النّبوي هي ذكرى نور العلم والمعرفة، ومقت الجهل والجهالة، فكلّ خير مصدره المعرفة، وكل شرّ مصدره الجهل. ولا نجد في تاريخ أمّة الإسلام أفضل من هذه المناسبة لنرفع سقف المطالبة بالدّعوة الى قيمة القراءة، إذ لا «نهضة للأمّة إلاّ بنهضة الفرد، ولا نهضة للفرد إلاّ بتنمية عقله وهذا لا يتمّ إلاّ بالقراءة»(3). فلا فائدة من المباني الشّاهقة أو المصانع الشّامخة ولا الشّوارع النّظيفة إذا لم نستطع بناء الإنسان. هي إذن دعوة لكي نتمثّل فعل «إقرأ» ونردّ الاعتبار لهذا الأمر الإلهي المباشر، فقدرة الإنسان على القراءة يعني قدرته على التحرر وفتح إمكانات أخرى أمامه للخروج الى آفاق أرحب، لهذا كان همّ النبي ﷺ هو بناء الإنسان معرفيا وروحيا، وقصته مع أسرى بدر نبراسا لنا في هذا الطرح «التعليم مقابل الفداء»(4)، وقبول النبي ﷺ بهذه الخطة في وقت كان المسلمون في أمس الحاجة إلى المال دليل على سموّ رسالة هذا النبي ونظرته للعلم والمعرفة.
فارق رسول الله ﷺ الحياة ولم يترك أبراجا مشيّدة أو صروحا شامخة، لكنّه ترك بشرا صحيحا، وإنسانا تشرّب معنى الأمر الإلهي «إقرأ» فأدرك أهمّية القراءة والمعرفة، وانطلق في الآفاق يعلّم النّاس هدي «إقرأ»، فهذه الكلمة «غيّرت وجه التّاريخ وأحيت القلوب وتحرّكت بها العزائم وتقدّمت بها الأمم، فكانت نبراسا يلتمس منه الهدي والمعرفة»(5). فهل بقي لنا وجه نلتقي به رسول الله ﷺ في شهر مولده ونحن جهلاء نساهم بهذا القدر أو ذاك في اغتيال كلمة إقرأ؟ أعتقد بأنه لم يبق لنا إلا مسوغ واحد نبرر به هذا اللقاء الاحتفالي الهام وهو الايمان بقدرة الإنسان المسلم على البعث من جديد، إذن، فلنجعل من ذكرى مولده ﷺ بعثاً جديداً وباعثا لنا على إحياء قيمة القراءة في نفوسنا ونفوس أبنائنا. وذلك بتنظيم ورشات ولقاءات ونوادٍ قرائية وأعمال فنية حاثة على العلم والمعرفة، بالإضافة الى خلق مكتبات في الأحياء الشّعبية ودور للطّلبة ورواد القراءة، وتحويل المدارس الى أيقونات للقراءة وخلق آفاق أرحب في فناء المؤسّسات: مكتبات، قاعات للمطالعة، أندية، مختبرات علميّة، مسارح فنية..الخ، بالإضافة الى خلق معاهد وكلّيات متخصّصة تحمل اسم «إقرأ»، غايتها تخريج باحثين وعلماء في مجالات تخصّصية دقيقة.
ويمكن كذلك أن نجعل من شهر مولد المصطفى ﷺ شهر القراءة بامتياز، فيه تقام النّدوات والمسابقات والجوائز العالميّة في مجالات علميّة متعدّدة، كما يمكن تحويل البوصلة تماما نحو هذا الهدف من خلال برامج إعلاميّة تحمل خاصّية القراءة والعلم والمعرفة.
الهوامش
(1) سورة العلق - الأيات من 1 إلى 4
(2) طارق السويدان وفيصل عمر با سراحيل، ماذا أقرأ، سلسلة صناعة الثقافة 4 ، شركة الابداع الفكري للنشر والتوزيع، الكويت، ط 1، ت، 2007، ص، 13.
(3) طارق السويدان، كيف نقرأ، سلسلة صناعة الثقافة 2 ، شركة الابداع الفكري للنشر والتوزيع، الكويت، ط 2، ت، 2011، ص، 17.
(4) محمود يوسف، سلسلة اعداد الداعية: مواقف تربوية من حياة الرسول ﷺ. موقع صيد الفوائد.saaid.net
(5) ماذا أقرأ، مرجع سابق، ص، 13.
|